العشائر السورية... أداة احتواء التيارات المتطرفة

النظام يستعين بهم لـ«تسويات» مع مقاتلي «داعش»

عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)
عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)
TT

العشائر السورية... أداة احتواء التيارات المتطرفة

عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)
عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)

في البادية الشرقية لسوريا، تتعهد فعاليات عشائرية أمام النظام السوري وروسيا بضمانة عودة مقاتلين يقاتلون في صفوف الجيش السوري الحر والتنظيمات المتطرفة إلى الحضن العائلي. يرضخ النظام أمام رغبة شيوخ العشائر، ويضع الأمر الأمني في عهدتهم، بحيث بات هؤلاء مسؤولين عن عزوف العنصر التائب عن القتال، وامتناعه عن المشاركة في أي عمل عسكري أو أمني في منطقته، مقابل «تسوية وضعه»، وإعفائه من العقوبة، و«عودته إلى حضن الوطن»، بحسب ما يقول معارضون.
هذا الدور الجديد يُعتَبَر أحدث صفقة بين النظام وروسيا من جهة، والعشائر السورية من جهة أخرى، لاحتواء العناصر المتطرفة التي يمثل مصيرها معضلة الأطراف المحلية والدولية لإنهاء الصراع الدامي في البلاد بموجب تسويات واتفاقات محلية. إلا أنه يسلط الضوء أيضاً على دور متنامٍ للعشائر السورية في مرحلة ما بعد الحرب، وفي آخر مراحلها، بحيث لم يكن للعشائر ذلك الدور المؤثر والفعال على المستوى الوطني، ولم يتعدَّ نفوذها الإطار المناطقي، خلافاً لعشائر العراق التي كانت تتمتع بنفوذ أوسع على المستوى السياسي، تزايد أيضاً في فترة الحرب ما بعد 2003، وصولاً إلى تشكيل الصحوات التي انهارت إثر ظهور تنظيم «داعش». في أي حال باتت العشائر السورية الآن، أداة مثلى لاحتواء التيارات المتطرفة، وتفكيكها، بالنظر إلى أنها «عدو حيوي للمتشددين» الذي ينافسون شيوخ العشائر على النفوذ، فضلاً عن أنها أداة فعالة في تكريس المصالحات.
انضمت العشائر العربية في البادية الشرقية لسوريا إلى جهود النظام لإنتاج «مصالحات» تنهي حالة العسكرة القائمة، وفق تسويات تعمل في سياق احتواء المقاتلين المعارضين، رغم أن دورها الآن يتسم بتعقيدات أكبر، بالنظر إلى أنها تعمل على احتواء المنتمين للتنظيمات المتطرفة. وقالت مصادر معارضة في دير الزور لـ«الشرق الأوسط» إن العشائر «تضمن بعض المقاتلين لدى النظام، وتقدمهم على أنهم مغرر بهم وانضموا إلى (داعش) تحت الضغط»، في مقابل انتزاع موافقة من النظام تتيح العفو عنهم، وذلك ضمن خطته لتوسعة مناطق سيطرته على سائر الجغرافيا السورية.
وقوات النظام باتت اليوم تسيطر على مساحة 112333 كلم مربع بنسبة 60.7 في المائة، وتمكنت من فرض سيطرتها على عدة محافظات بكاملها، وهي طرطوس ودمشق ودرعا والقنيطرة، كما تسيطر قوات النظام على محافظات حمص والسويداء وريف دمشق باستثناء جيوب يوجَد فيها تنظيم «داعش» في حمص والسويداء، ومناطق وجود قوات التحالف الدولي والفصائل المدعومة منها بمحافظتي حمص وريف دمشق، أيضاً تسيطر مع حلفائها على أجزاء واسعة من محافظة حماة باستثناء مناطق في ريفها الشمالي والشمالي الغربي وسهل الغاب، ومحافظة اللاذقية باستثناء أجزاء واسعة من ريفيه الشمالي والشمالي الشرقي. كذلك تسيطر قوات النظام وحلفاؤها، على عشرات القرى في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، فيما تسيطر على مساحات من محافظة حلب من ضمنها معظم المدينة، وأجزاء من محافظة الرقة في غرب نهر الفرات، ومعظم الجزء الواقع في غرب الفرات من محافظة دير الزور باستثناء جيوب للتنظيم فيها إضافة لسيطرتها على قرى مقابلة لمدينة دير الزور من شرق الفرات، إضافة لوجودها في ثكنات عسكرية في محافظة الحسكة وفي مربعات أمنية وأحياء بمدينتي الحسكة والقامشلي.
ثمة من يقول: مقاتلو «داعش» باتوا العبء الأكبر على النظام وروسيا في ظل فشل محاولات نقلهم إلى خارج سوريا، وبعدما بات التنظيم محصوراً في جيوب عسكرية محاصرة في البادية السورية في محافظات السويداء جنوباً، وحمص في وسط سوريا، ودير الزور في شرقها، إلى جانب الجيب الحدودي مع هضبة الجولان السوري المحتل والأردن في حوض اليرموك حيث يخوض النظام معركة عسكرية بموازاة مفاوضات لإخراج المقاتلين من تلك الرقعة. ويسعى النظام و«حلفاؤه» لإيجاد مخارج لهؤلاء المقاتلين بعد تعذر القضاء عليهم، وهي استراتيجية تقوم على احتواء السوريين منهم، وترك الأجانب في المنطقة الصحراوية، حتى الآن، بعد إغلاق الحدود مع العراق. وهو ما أتاح دوراً جديداً للعشائر السورية، لم تضطلع به في السابق، وباتت جزءاً من عملية الاحتواء تشبه الفعاليات الاجتماعية في مواقع أخرى أنتجت تسويات مع النظام.
لقد تراجعت مساحة تنظيم «داعش» وتقلصت بشكل كبير، لصالح طرفين رئيسيين هما قوات النظام و(حلفائه) الروس والمسلحين الموالين لهما، و«ميليشيا قواتسوريا الديمقراطية»، إذ إن عملية التقدم هذه لميليشيا سوريا الديمقراطية أفقدت تنظيم «داعش»، أكبر جيب متبقٍ له في كامل الأراضي السورية، بحيث لم يتبقَّ للتنظيم سوى الجيب الواقع عند الضفة الشرقية لنهر الفرات، الذي يضم بضع بلدات وقرى من بلدة هجين غرباً إلى بلدة الباغوز شرقاً، وجيوب متناثرة ضمن بادية دير الزور في غرب نهر الفرات، وجيبين واسعين منفصلين للتنظيم في شرق السخنة وشمالها، وجيوب للتنظيم في بادية السويداء الشمالية الشرقية على الحدود مع بادية ريف دمشق، لتتقلص مساحة سيطرة التنظيم إلى 3705 كلم مربع من مساحة الجغرافية السورية، بنسبة 2 في المائة، في حين تأتي هذه الخسارة للتنظيم بعد أيام من خسارة فصيل «خالد بن الوليد» المبايع لـ«داعش»، وجوده الميداني في كامل محافظة درعا، لينكمش التنظيم ويخسر المزيد من مناطق سيطرته والمزيد من عناصره، الذين يتناقص عددهم بشكل متتابع نتيجة عمليات القصف الجوي والمدفعي والصاروخي والعمليات العسكرية.
- تنامي الدور العشائريّ
كما سبق الإشارة إليه، لم يكن دور العشائر السورية بارزاً قبل الحرب السورية. بالكاد كان الدور رمزياً، لا يتعدى حصول العشائر على امتيازات مناطقية، ويسمح لهم بحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم في مجتمع رعوي وزراعي بامتياز، ويمثلهم النظام في مجلس الشعب، في مقابل الحصول على ولائهم. وأي دور يتخطى ذلك، لم يتعدَّ سياق مناطق وجودهم، بحيث حرموا من أي دور سياسي مؤثر، لم يتمكنوا من فرض أي أجندة أو قرار، وهو الدور الذي اختلف خلال العام الأخير.
والواقع أن تنامي هذا الدور، بعد الأزمة السورية، جاء إثر محاولات دولية للاستثمار في المتحد القبلي النابذ للتشدد الديني، واستخدامه مجدداً ضد التشدد، واحتواء المتشددين من أبناء العشيرة. يقوم هذا الدور أساساً من «صراع السلطة بين شيوخ العشائر من جهة، التي تتمثل في المشيخة التقليدية، وبين مراكز النفوذ الناشئة من آيديولوجيات دينية تستطيع أيضاً أن تستقطب ناشئين، وهو ما أنتج توتراً يستطيع النظام استثماره لمحاربة السلطة الناشئة، وتعزيز المشيخة التقليدية»، كما يقول باحث سوري في ملفات العشائر السورية، رفض الكشف عن اسمه لضرورات أمنية. وأضاف الباحث: «في الحالة العراقية، كان الصراع بين المشيخة التقليدية والسلطة الناشئة أكبر، بالنظر إلى أن المنافسة قامت من قلب العشيرة، وهو ما جعلها أكثر تعقيداً ودفع بالعشائر العراقية للذهاب نحو الصحوات، خلافاً لما هو الأمر عليه في الساحة السورية، حيث الصراع أقل حدة، لأن المنافسين، بأغلبهم، ليسوا من العشائر نفسها، بل أجانب، وهو ما يجعل رابطة الدم أقوى، وتستطيع أن تواجه السلطة الناشئة بسهولة أكبر».
هذا، ويمثل المواطنون السوريون من خلفية قبلية نسبة تزيد عن 30 في المائة من عدد السكان، ويعيشون في مناطق تزيد مساحتها عن 43 في المائة من مساحة سوريا البالغة 185.180 كلم، إذا احتسبت فقط مساحة المحافظات ذات الغالبية العشائرية المطلقة وهي دير الزور والحسكة والرقة ودرعا.
وتتمتع العشائر في دير الزور بنفوذ واسع، وتسيطر على مفاصلها. كان النظام السوري، منذ السبعينات، قد أدرك أهمية دور العشائر، التي تشكل 35 في المائة من السوريين، ويتركز ثقلها في المناطق الشرقية والشمالية. فسارع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى مهادنتها، بالنظر إلى أنها عشائر مقاتلة، وقادرة على حشد المؤيدين للنظام أو الانفكاك عنه، بسبب التركيبة الاجتماعية لها، وهو ما دفع الأسد الأب إلى جعل شيوخ العشائر مقربين منه، وأوصل بعضهم إلى الندوة البرلمانية في مجلس الشعب.
وُجِّهت اتهامات للعشائر السورية في شرق البلاد منذ عام 2012، باحتضانها للجماعات المتشددة لأسباب يراها بعض أبناء تلك العشائر مختلفة، بينما يقول من انتفض ضد «داعش» من أبناء العشائر، إنه لقي تجاهلاً من قبل المعارضة السورية والمجتمع الدولي، وترك وحيداً ليقارع التنظيم. ولعل القرب الجغرافي مع العراق، والانتماء إلى بيئة قبلية واحدة عززت الروابط العشائرية، كان سبباً أساسياً في وجود التنظيم في سوريا، وفي اندحاره أخيراً.
لكن في الفترة الأخيرة، باتت العشائر أداة فعالة لاحتواء التنظيمات المتطرفة، إذ يتحدث معارضون في منطقة دير الزور عن أن الروس «يعملون على هذا الجانب لخلق عدو حيوي للمتشددين، يقارعهم بالوكالة، ويحتوي آخرين، ويقدم ضمانات»، علماً بأن العشائر قادرة على تقديم تلك الضمانات بالنظر إلى قوتها وحيثيتها، إذ يبلغ تعداد عشيرة البكارة وحدها مثلاً، 1.6 مليون شخص، وهو رقم كافٍ لخلق نفوذ في المنطقة.
ويلعب الروس هذا الدور الآن، بعدما لعبه الأميركيون من قبل، ولقد وجدوا في الغطاء القبلي قوة قادرة على مقارعة المتطرفين، وعملوا على تعزيز دور العشائر سواء في العراق أو سوريا، لاحتواء نفوذ التنظيمات المتطرفة الناشئة. ومثل روسيا والولايات المتحدة، تستثمر إيران أيضاً في العشائر، علماً بأن العشائر، حتى ما قبل 25 عاماً، لم تشهد صعوداً في التدين، خلافاً لما عليه الأمر في هذا الوقت.
والى جانب الروس والأميركيين، يستفيد أكراد سوريا أيضاً من الغطاء العشائري ونفوذه، وعملوا على استمالة العشائر في الإدارة الذاتية التي ضمت عشائر عربية، واستقطبوا الزعامات القبلية العربية في منطقتهم، ومنحوهم أدواراً رمزية في المواقع القيادية، رغم أن كثيرين ينظرون إلى الدور الموكل إليهم بوصفه غير مؤثر سياسياً، لكنه أعطى «قوات سوريا الديمقراطية» غطاء عشائرياً عربياً واستمالوا إثره مقاتلين عرباً لمحاربة «داعش».
وقال مصدر عشائري في دير الزور لـ«الشرق الأوسط» إن النظام يعمل على احتواء التنظيمات المتشددة ضمن البيئة الاجتماعية، لافتاً إلى أن العشائر جزء من خطة الاحتواء، مضيفاً: «أي شخص من مقاتلي (داعش) السوريين يتقدم من النظام لتسوية أوضاعه، وبضمانات عشائرية، فإن النظام يرحب بذلك»، مشيراً إلى أن العناصر المتشددة «لا تثق بالنظام، لكنها توافق على التسوية إذا كانت بضمانات روسية».
وقال المصدر إن روسيا وجدت في العشائر «المكون الاجتماعي الأفضل لهذه المهمة»، لافتاً إلى أن العشائر «تستطيع بناء شبكة علاقات عامة تحتوي إثرها المتشددين، وهي القادرة على تلك المهمة بما يتخطى أي مكون اجتماعي سوري آخر بالنظر إلى امتداداتها وارتباطاتها وعددها وقوتها وترابط هيكلية الحكم العشائري المرتبط جميعه بشيخ العشيرة»، موضحاً أن انتماءات العشائر وانفتاحها على المكونات السياسية والمجموعات التي تمتلك حيثية «قائمة بالنظر إلى توزع الولاءات والانتماءات وسهولة تواصلها مع الأطراف الأخرى، وارتباطها جميعها بالهيكلية العشائرية، ما يجعلها الجهة الأقدر على تنفيذ تسهيلات لعودة المتطرفين».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.