العشائر السورية... أداة احتواء التيارات المتطرفة

النظام يستعين بهم لـ«تسويات» مع مقاتلي «داعش»

عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)
عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)
TT

العشائر السورية... أداة احتواء التيارات المتطرفة

عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)
عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)

في البادية الشرقية لسوريا، تتعهد فعاليات عشائرية أمام النظام السوري وروسيا بضمانة عودة مقاتلين يقاتلون في صفوف الجيش السوري الحر والتنظيمات المتطرفة إلى الحضن العائلي. يرضخ النظام أمام رغبة شيوخ العشائر، ويضع الأمر الأمني في عهدتهم، بحيث بات هؤلاء مسؤولين عن عزوف العنصر التائب عن القتال، وامتناعه عن المشاركة في أي عمل عسكري أو أمني في منطقته، مقابل «تسوية وضعه»، وإعفائه من العقوبة، و«عودته إلى حضن الوطن»، بحسب ما يقول معارضون.
هذا الدور الجديد يُعتَبَر أحدث صفقة بين النظام وروسيا من جهة، والعشائر السورية من جهة أخرى، لاحتواء العناصر المتطرفة التي يمثل مصيرها معضلة الأطراف المحلية والدولية لإنهاء الصراع الدامي في البلاد بموجب تسويات واتفاقات محلية. إلا أنه يسلط الضوء أيضاً على دور متنامٍ للعشائر السورية في مرحلة ما بعد الحرب، وفي آخر مراحلها، بحيث لم يكن للعشائر ذلك الدور المؤثر والفعال على المستوى الوطني، ولم يتعدَّ نفوذها الإطار المناطقي، خلافاً لعشائر العراق التي كانت تتمتع بنفوذ أوسع على المستوى السياسي، تزايد أيضاً في فترة الحرب ما بعد 2003، وصولاً إلى تشكيل الصحوات التي انهارت إثر ظهور تنظيم «داعش». في أي حال باتت العشائر السورية الآن، أداة مثلى لاحتواء التيارات المتطرفة، وتفكيكها، بالنظر إلى أنها «عدو حيوي للمتشددين» الذي ينافسون شيوخ العشائر على النفوذ، فضلاً عن أنها أداة فعالة في تكريس المصالحات.
انضمت العشائر العربية في البادية الشرقية لسوريا إلى جهود النظام لإنتاج «مصالحات» تنهي حالة العسكرة القائمة، وفق تسويات تعمل في سياق احتواء المقاتلين المعارضين، رغم أن دورها الآن يتسم بتعقيدات أكبر، بالنظر إلى أنها تعمل على احتواء المنتمين للتنظيمات المتطرفة. وقالت مصادر معارضة في دير الزور لـ«الشرق الأوسط» إن العشائر «تضمن بعض المقاتلين لدى النظام، وتقدمهم على أنهم مغرر بهم وانضموا إلى (داعش) تحت الضغط»، في مقابل انتزاع موافقة من النظام تتيح العفو عنهم، وذلك ضمن خطته لتوسعة مناطق سيطرته على سائر الجغرافيا السورية.
وقوات النظام باتت اليوم تسيطر على مساحة 112333 كلم مربع بنسبة 60.7 في المائة، وتمكنت من فرض سيطرتها على عدة محافظات بكاملها، وهي طرطوس ودمشق ودرعا والقنيطرة، كما تسيطر قوات النظام على محافظات حمص والسويداء وريف دمشق باستثناء جيوب يوجَد فيها تنظيم «داعش» في حمص والسويداء، ومناطق وجود قوات التحالف الدولي والفصائل المدعومة منها بمحافظتي حمص وريف دمشق، أيضاً تسيطر مع حلفائها على أجزاء واسعة من محافظة حماة باستثناء مناطق في ريفها الشمالي والشمالي الغربي وسهل الغاب، ومحافظة اللاذقية باستثناء أجزاء واسعة من ريفيه الشمالي والشمالي الشرقي. كذلك تسيطر قوات النظام وحلفاؤها، على عشرات القرى في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، فيما تسيطر على مساحات من محافظة حلب من ضمنها معظم المدينة، وأجزاء من محافظة الرقة في غرب نهر الفرات، ومعظم الجزء الواقع في غرب الفرات من محافظة دير الزور باستثناء جيوب للتنظيم فيها إضافة لسيطرتها على قرى مقابلة لمدينة دير الزور من شرق الفرات، إضافة لوجودها في ثكنات عسكرية في محافظة الحسكة وفي مربعات أمنية وأحياء بمدينتي الحسكة والقامشلي.
ثمة من يقول: مقاتلو «داعش» باتوا العبء الأكبر على النظام وروسيا في ظل فشل محاولات نقلهم إلى خارج سوريا، وبعدما بات التنظيم محصوراً في جيوب عسكرية محاصرة في البادية السورية في محافظات السويداء جنوباً، وحمص في وسط سوريا، ودير الزور في شرقها، إلى جانب الجيب الحدودي مع هضبة الجولان السوري المحتل والأردن في حوض اليرموك حيث يخوض النظام معركة عسكرية بموازاة مفاوضات لإخراج المقاتلين من تلك الرقعة. ويسعى النظام و«حلفاؤه» لإيجاد مخارج لهؤلاء المقاتلين بعد تعذر القضاء عليهم، وهي استراتيجية تقوم على احتواء السوريين منهم، وترك الأجانب في المنطقة الصحراوية، حتى الآن، بعد إغلاق الحدود مع العراق. وهو ما أتاح دوراً جديداً للعشائر السورية، لم تضطلع به في السابق، وباتت جزءاً من عملية الاحتواء تشبه الفعاليات الاجتماعية في مواقع أخرى أنتجت تسويات مع النظام.
لقد تراجعت مساحة تنظيم «داعش» وتقلصت بشكل كبير، لصالح طرفين رئيسيين هما قوات النظام و(حلفائه) الروس والمسلحين الموالين لهما، و«ميليشيا قواتسوريا الديمقراطية»، إذ إن عملية التقدم هذه لميليشيا سوريا الديمقراطية أفقدت تنظيم «داعش»، أكبر جيب متبقٍ له في كامل الأراضي السورية، بحيث لم يتبقَّ للتنظيم سوى الجيب الواقع عند الضفة الشرقية لنهر الفرات، الذي يضم بضع بلدات وقرى من بلدة هجين غرباً إلى بلدة الباغوز شرقاً، وجيوب متناثرة ضمن بادية دير الزور في غرب نهر الفرات، وجيبين واسعين منفصلين للتنظيم في شرق السخنة وشمالها، وجيوب للتنظيم في بادية السويداء الشمالية الشرقية على الحدود مع بادية ريف دمشق، لتتقلص مساحة سيطرة التنظيم إلى 3705 كلم مربع من مساحة الجغرافية السورية، بنسبة 2 في المائة، في حين تأتي هذه الخسارة للتنظيم بعد أيام من خسارة فصيل «خالد بن الوليد» المبايع لـ«داعش»، وجوده الميداني في كامل محافظة درعا، لينكمش التنظيم ويخسر المزيد من مناطق سيطرته والمزيد من عناصره، الذين يتناقص عددهم بشكل متتابع نتيجة عمليات القصف الجوي والمدفعي والصاروخي والعمليات العسكرية.
- تنامي الدور العشائريّ
كما سبق الإشارة إليه، لم يكن دور العشائر السورية بارزاً قبل الحرب السورية. بالكاد كان الدور رمزياً، لا يتعدى حصول العشائر على امتيازات مناطقية، ويسمح لهم بحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم في مجتمع رعوي وزراعي بامتياز، ويمثلهم النظام في مجلس الشعب، في مقابل الحصول على ولائهم. وأي دور يتخطى ذلك، لم يتعدَّ سياق مناطق وجودهم، بحيث حرموا من أي دور سياسي مؤثر، لم يتمكنوا من فرض أي أجندة أو قرار، وهو الدور الذي اختلف خلال العام الأخير.
والواقع أن تنامي هذا الدور، بعد الأزمة السورية، جاء إثر محاولات دولية للاستثمار في المتحد القبلي النابذ للتشدد الديني، واستخدامه مجدداً ضد التشدد، واحتواء المتشددين من أبناء العشيرة. يقوم هذا الدور أساساً من «صراع السلطة بين شيوخ العشائر من جهة، التي تتمثل في المشيخة التقليدية، وبين مراكز النفوذ الناشئة من آيديولوجيات دينية تستطيع أيضاً أن تستقطب ناشئين، وهو ما أنتج توتراً يستطيع النظام استثماره لمحاربة السلطة الناشئة، وتعزيز المشيخة التقليدية»، كما يقول باحث سوري في ملفات العشائر السورية، رفض الكشف عن اسمه لضرورات أمنية. وأضاف الباحث: «في الحالة العراقية، كان الصراع بين المشيخة التقليدية والسلطة الناشئة أكبر، بالنظر إلى أن المنافسة قامت من قلب العشيرة، وهو ما جعلها أكثر تعقيداً ودفع بالعشائر العراقية للذهاب نحو الصحوات، خلافاً لما هو الأمر عليه في الساحة السورية، حيث الصراع أقل حدة، لأن المنافسين، بأغلبهم، ليسوا من العشائر نفسها، بل أجانب، وهو ما يجعل رابطة الدم أقوى، وتستطيع أن تواجه السلطة الناشئة بسهولة أكبر».
هذا، ويمثل المواطنون السوريون من خلفية قبلية نسبة تزيد عن 30 في المائة من عدد السكان، ويعيشون في مناطق تزيد مساحتها عن 43 في المائة من مساحة سوريا البالغة 185.180 كلم، إذا احتسبت فقط مساحة المحافظات ذات الغالبية العشائرية المطلقة وهي دير الزور والحسكة والرقة ودرعا.
وتتمتع العشائر في دير الزور بنفوذ واسع، وتسيطر على مفاصلها. كان النظام السوري، منذ السبعينات، قد أدرك أهمية دور العشائر، التي تشكل 35 في المائة من السوريين، ويتركز ثقلها في المناطق الشرقية والشمالية. فسارع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى مهادنتها، بالنظر إلى أنها عشائر مقاتلة، وقادرة على حشد المؤيدين للنظام أو الانفكاك عنه، بسبب التركيبة الاجتماعية لها، وهو ما دفع الأسد الأب إلى جعل شيوخ العشائر مقربين منه، وأوصل بعضهم إلى الندوة البرلمانية في مجلس الشعب.
وُجِّهت اتهامات للعشائر السورية في شرق البلاد منذ عام 2012، باحتضانها للجماعات المتشددة لأسباب يراها بعض أبناء تلك العشائر مختلفة، بينما يقول من انتفض ضد «داعش» من أبناء العشائر، إنه لقي تجاهلاً من قبل المعارضة السورية والمجتمع الدولي، وترك وحيداً ليقارع التنظيم. ولعل القرب الجغرافي مع العراق، والانتماء إلى بيئة قبلية واحدة عززت الروابط العشائرية، كان سبباً أساسياً في وجود التنظيم في سوريا، وفي اندحاره أخيراً.
لكن في الفترة الأخيرة، باتت العشائر أداة فعالة لاحتواء التنظيمات المتطرفة، إذ يتحدث معارضون في منطقة دير الزور عن أن الروس «يعملون على هذا الجانب لخلق عدو حيوي للمتشددين، يقارعهم بالوكالة، ويحتوي آخرين، ويقدم ضمانات»، علماً بأن العشائر قادرة على تقديم تلك الضمانات بالنظر إلى قوتها وحيثيتها، إذ يبلغ تعداد عشيرة البكارة وحدها مثلاً، 1.6 مليون شخص، وهو رقم كافٍ لخلق نفوذ في المنطقة.
ويلعب الروس هذا الدور الآن، بعدما لعبه الأميركيون من قبل، ولقد وجدوا في الغطاء القبلي قوة قادرة على مقارعة المتطرفين، وعملوا على تعزيز دور العشائر سواء في العراق أو سوريا، لاحتواء نفوذ التنظيمات المتطرفة الناشئة. ومثل روسيا والولايات المتحدة، تستثمر إيران أيضاً في العشائر، علماً بأن العشائر، حتى ما قبل 25 عاماً، لم تشهد صعوداً في التدين، خلافاً لما عليه الأمر في هذا الوقت.
والى جانب الروس والأميركيين، يستفيد أكراد سوريا أيضاً من الغطاء العشائري ونفوذه، وعملوا على استمالة العشائر في الإدارة الذاتية التي ضمت عشائر عربية، واستقطبوا الزعامات القبلية العربية في منطقتهم، ومنحوهم أدواراً رمزية في المواقع القيادية، رغم أن كثيرين ينظرون إلى الدور الموكل إليهم بوصفه غير مؤثر سياسياً، لكنه أعطى «قوات سوريا الديمقراطية» غطاء عشائرياً عربياً واستمالوا إثره مقاتلين عرباً لمحاربة «داعش».
وقال مصدر عشائري في دير الزور لـ«الشرق الأوسط» إن النظام يعمل على احتواء التنظيمات المتشددة ضمن البيئة الاجتماعية، لافتاً إلى أن العشائر جزء من خطة الاحتواء، مضيفاً: «أي شخص من مقاتلي (داعش) السوريين يتقدم من النظام لتسوية أوضاعه، وبضمانات عشائرية، فإن النظام يرحب بذلك»، مشيراً إلى أن العناصر المتشددة «لا تثق بالنظام، لكنها توافق على التسوية إذا كانت بضمانات روسية».
وقال المصدر إن روسيا وجدت في العشائر «المكون الاجتماعي الأفضل لهذه المهمة»، لافتاً إلى أن العشائر «تستطيع بناء شبكة علاقات عامة تحتوي إثرها المتشددين، وهي القادرة على تلك المهمة بما يتخطى أي مكون اجتماعي سوري آخر بالنظر إلى امتداداتها وارتباطاتها وعددها وقوتها وترابط هيكلية الحكم العشائري المرتبط جميعه بشيخ العشيرة»، موضحاً أن انتماءات العشائر وانفتاحها على المكونات السياسية والمجموعات التي تمتلك حيثية «قائمة بالنظر إلى توزع الولاءات والانتماءات وسهولة تواصلها مع الأطراف الأخرى، وارتباطها جميعها بالهيكلية العشائرية، ما يجعلها الجهة الأقدر على تنفيذ تسهيلات لعودة المتطرفين».



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.