لمع عمران خان في «تعليم» الباكستانيين أصول لعبة الكريكيت على أعلى المستويات، واعتاد توجيه النصح لزملائه اللاعبين، قائلاً: «إذا لعبتم بشكل دفاعي، وسعيتم نحو التعادل في مباراة ما، فإن الاحتمال الأكبر أنكم ستخسرون... لكن إذا لعبتم بأسلوب هجومي بهدف الفوز في المباراة، ففي هذه الحالة، حتى إذا خسرتم... ستكونون قد حققتم أفضل أداء لكم».
وبالاعتماد على هذه الفلسفة، نجح عمران خان في قيادة منتخب باكستان للكريكيت إلى الفوز على منافسه القوى منتخب الهند، في عقر داره بالهند، وانتزع بطولة كأس العالم في الكريكيت عام 1992. وفي المناسبتين (التغلب على الهند، والفوز ببطولة العالم)، خرجت الجماهير في مدينة لاهور، ثاني كبرى مدن باكستان وعاصمة إقليم البنجاب، لتستقبله استقبال الأبطال، على نحو لا يحلم به حتى أكثر السياسيين شعبية. ولكن، في المقابل، ساورت القيادات السياسية لمختلف الأحزاب الباكستانية المشاركين حينذاك في نظام ديمقراطية برلمانية استعيدت حديثاً في البلاد، بعد 11 سنة من الحكم العسكري، المخاوف من أن تطغى شعبية خان على النظام السياسي برمته. وبالفعل، تلقى خان عروضاً بتقلد مناصب سياسية في إطار النظام الجديد، سعياً لتحييد خطر شعبيته الجارفة، لكنه رفض كل تلك العروض.
حتى عندما كانت شهرة عمران خان، الذي تولى اليوم لحكم باكستان، تتركز على نجاحاته الكبرى في ملاعب الكريكيت، فإنه كان يخطط لمسيرة أخرى. وحقاً، بعد فترة قصيرة من قيادته منتخب بلاده لبطولة العالم، أعلن اعتزاله اللعب، واتجه إلى تكريس جهوده للعمل الخيري. ونجحت حملات جمع التبرعات التي قادها في جمع ما يكفي من المال لبناء مستشفى عالمية الطراز لعلاج السرطان في لاهور. وأطلق على المستشفى اسم والدته «شوكت خانم»، التي توفيت بعد معاناة مع السرطان عندما كان لا يزال لاعباً للكريكيت. ومن ثم، تحولت مستشفى «شوكت خانم» للسرطان إلى المحطة الأولى في مسيرة علاج أي مريض بالسرطان، من مختلف أرجاء باكستان، يعجز عن تأمين نفقات العلاج في المستشفيات الخاصة في مدن البلاد الكبرى. ثم بمرور السنوات، اقتحم عمران خان مجال التعليم، وأسس جامعة، بمساعدة أموال تبرعات جمعها بالاعتماد على شعبيته الجارفة في أوساط الباكستانيين.
النشأة والبداية
ولد عمران خان لأسرة بشتونية ثرية، في لاهور، عام 1952. وعاش حياة مرفهة في العاصمة البريطانية لندن والريف البريطاني إبان سنوات تعليمه الأولى. وفي عام 1970، وقع عليه الاختيار للمشاركة مع المنتخب الوطني الباكستاني للكريكيت، وسرعان ما بنى لنفسه مكانة بارزة.
وأنهى خان تعليمه الثانوي في مدرسة «رويال غرامر سكول» الراقية، بمدينة ووستر (غرب إنجلترا)، حيث برع في الكريكيت. وبعدها، التحق بكلية كيبل في جامعة أكسفورد، حيث درس الاقتصاد والسياسة عام 1972، وأصبح قائد فريق أكسفورد للكريكيت عام 1974.
وخلال عقد السبعينات، تألق عمران خان في عالم الرياضة، وصار نجماً عالمياً، ونال شرف قيادة المنتخب الباكستاني للكريكيت عام 1981. وكما سبقت الإشارة، نجح في قيادة باكستان نحو كثير من الانتصارات الرياضية على الساحة الدولية، توجت بفوز باكستان ببطولة كأس العالم عام 1992.
ولكن في وقت لاحق من العام ذاته (1992)، أعلن اعتزاله الكريكيت، وانتقل إلى العمل السياسي عام 1996، مطلقاً تنظيمه السياسي (حركة الإنصاف الباكستانية). وفي ذلك العام أيضاً، افتتح مستشفى «شوكت خانم» لعلاج السرطان، التي تعد اليوم واحدة من المؤسسات الرائدة بمجال علاج السرطان مجاناً على مستوى العالم، وقد نالت اعترافاً وتقديراً دولياً واسع النطاق.
مواقفه السياسية المبكرة
بالنسبة لمسيرته السياسية، فقد بدأها دون نجاح يذكر في الانتخابات، إذ خسر في أول انتخابات نافس فيها عام 1996، وإن كان قد عزا هزيمته تلك إلى تزوير الانتخابات. ومع هذا، مضى في حملته ضد الحكومة التي تمخضت عنها الانتخابات، متهماً إياها بالفساد المالي، وسوء إدارة الاقتصاد.
ورغم الصعوبات التي واجهتها «حركة الإنصاف الباكستانية» في الانتخابات، نالت المواقف الشعبوية التي اتخذها عمران خان تأييداً، لا سيما في أوساط الشباب، وواصل توجيه الانتقادات للفساد، وانعدام المساواة اقتصادياً داخل باكستان، كذلك عارض خان تعاون الحكومة الباكستانية مع الولايات المتحدة في محاربة عناصر مسلحة قرب الحدود الأفغانية، وشن انتقادات ضد النخب السياسية والاقتصادية الباكستانية، متهماً إياها بتقليد الغرب، وانفصالها عن التقاليد والأعراف الدينية والثقافية للبلاد.
ومن ناحية أخرى، ونتيجة توجهه الناعم في التعامل مع جماعة «طالبان» الأفغانية، أطلق على عمران خان على سبيل السخرية لقب «طالبان خان». والحقيقة أنه عندما كان خارج السلطة، دعا خان لاعتماد مقاربة ناعمة إزاء «طالبان»، كما عمد باستمرار لاستخدام تعابير دينية في تحديد أهدافه السياسية. وعلى سبيل المثال، خلال الكلمة التي ألقاها احتفالاً بفوزه الانتخابي أخيراً، تمكن خان من استمالة قلوب الجماهير الباكستانية من خلال تعهده ببناء دولة رفاه إسلامية، على غرار «المدينة المنورة».
ثم إنه في الأيام السابقة مباشرة للانتخابات البرلمانية في مايو (أيار) 2013، نجح خان في اجتذاب حشود كبيرة للمشاركة في مسيرات جابت أرجاء مختلفة من باكستان. والملاحظ أن ثمة شخصيات سياسية بارزة انجذبت إلى حزبه، واختارت الانضمام إليه. ومن بين الدلائل الأخرى التي كشفت صعود نجم خان سياسياً النتيجة التي خلص إليها استطلاع للرأي أجري عام 2012، حول كون خان واحداً من أكثر السياسيين شعبية على مستوى البلاد.
صراع... ثم انتصار
من ناحية أخرى، وقبيل أيام من الانتخابات التشريعية في مايو 2013، تعرّض خان لإصابة في الرأس عندما سقط من أعلى منصة في أثناء إحدى فعاليات حملته الانتخابية، إلا أنه بعد بضع ساعات ظهر على شاشات التلفزيون ليوجه نداءً أخيراً للناخبين. واللافت أن هذه الانتخابات تمخضت عن أفضل نتيجة حتى ذلك اليوم لـ«حركة الإنصاف الباكستانية»، غير أن واقع الحال أن «الحركة» حصلت على أقل من نصف عدد المقاعد البرلمانية التي فاز بها حزب «الرابطة الإسلامية الباكستانية»، بقيادة نواز شريف. وفي تلك المحطة السياسية، اتهم خان «الرابطة الإسلامية» بتزوير الانتخابات، إلا أن دعواته للتحقيق في هذا الأمر لم تلقَ أي استجابة، مما دفعه مع عدد من القيادات السياسية الأخرى لتنظيم مظاهرات على مدار 4 شهور أواخر عام 2014، للضغط على شريف كي يتنحى.
لقد أمضى خان 5 سنوات (2013 - 2018) في تأليب الرأي العام ضد حكومة نواز شريف، وألقى خطباً خلال مسيرات شعبية، وقاد مظاهرات في مختلف أرجاء باكستان تطالب باستقالة شريف، وإجراء تحقيق محايد بخصوص تجاوزات مالية مزعومة اتهم بها خان رئيس الحكومة وأسرته. وفي نهاية الأمر، أثمرت جهود خان بإعلان المحكمة الدستورية العليا أن شريف غير مؤهل لتقلد منصب عام لأنه لم يقل الحقيقة كرئيس لحكومة للشعب الباكستاني حول التجاوزات المالية لأسرته. وبالفعل، أطيح بنواز شريف من رئاسة الحكومة، وصدر ضده حكم بالسجن 10 سنوات. واليوم، تسجل غالبية الباكستانيين الفضل لخان وراء محاسبة شريف.
هذا الإنجاز ترجم بخروج «حركة الإنصاف»، بقيادة عمران خان، بأكبر عدد من مقاعد البرلمان بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أجريت في يوليو (تموز) 2018، الأمر الذي أشار بوضوح إلى أنه في طريقه لتشكيل الحكومة التالية في باكستان، بدعم من نواب برلمانيين مستقلين. كذلك، كشفت نتائج الانتخابات أن «الحركة» ستتولى تشكيل الحكومة داخل إقليمي البنجاب وخيبر بشتونخوا، وشكل هذا إنجازاً كبيراً بالنسبة لحزب سياسي كان قبل 10 سنوات فقط بعيداً تماماً عن دائرة الضوء.
تساؤلات عن موقف الجيش
هنا، يبرز التساؤل: ما الأسباب وراء هذا التحول في حظوظ «الحركة»؟ إذ يرى محللون سياسيون أن العون الذي قدمته المؤسسة العسكرية والاستخبارات لـ«حركة الإنصاف»، قبل وفي أثناء الانتخابات، كان محورياً، وبالتالي مؤثراً في الفوز الانتخابي الذي حققه خان. والجدير بالذكر أن استطلاعات عدة للرأي، أبرزها استطلاع أجراه معهد «غالوب»، أشارت إلى أن شريف كان يتقدم على خان، من حيث الشعبية، بفارق 20 نقطة مئوية، في وسط إقليم البنجاب، حيث تتركز غالبية مقاعد البرلمان.
وثمة تساؤل آخر يتصل بطبيعة عملية «التحريك»، أو قل «التلاعب»، الذي حدث داخل باكستان. وهناك من يشير الآن إلى أنه عندما أعلنت المحكمة العليا قرارها إطاحة شريف من منصبه، شنت مجموعة من النشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يقال إن لهم صلات مريبة، حملة قاسية ضده، متهمين إياه بالعمل ضد مصلحة البلاد بناءً على أوامر من الاستخبارات الهندية. والمثير أن ثمة قصة منتشرة هذه الأيام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مفادها أن الاستخبارات الباكستانية ألقت القبض على عميلين يعملان لحساب الاستخبارات الهندية داخل مصنع لتكرير السكر يملكه شريف. وهنا، يعرب المحلل السياسي ضيغم خان، المقيم في العاصمة إسلام آباد، عن اعتقاده أن «تصوير نواز شريف وحزب (الرابطة الإسلامية الباكستانية) على أنهما عاجزان عن الفوز دفع نسبة الـ12 في المائة التي تمثل الأصوات المترددة بعيداً عنهما. وكان هذا هو (التلاعب) الذي جرى قبل الانتخابات».
لغط حول الاستخبارات
أضف لما سبق أن حزب شريف تعرض لاتهامات بخيانة قضية قسَم «خاتم النبوات»، التي كبدت «الرابطة» في النهاية 14 مقعداً في وسط البنجاب. وتبعاً لمحمد أمير رانا، الخبير بشؤون مكافحة الإرهاب والتطرف، فإن حزب «(الرابطة الإسلامية الباكستانية) خسر 14 مقعداً عن وسط البنجاب بسبب حركة (تحريك لبيك باكستان). واستمرت الدعاية ضد (الرابطة) لما يزيد على السنة، وبلغت ذروتها داخل وحول المراكز الحضرية في وسط إقليم البنجاب، معطية انطباعاً قاطعاً بأن حزب شريف سيخسر لا محالة».
هنا، يعتقد مراقبون سياسيون أن هذا الأمر برمته كان جزءاً من حملة «تلاعب» منظمة من قبل الاستخبارات الباكستانية للإبقاء على شريف وحزبه بعيداً عن السلطة. وفي هذا الصدد، يقول أحمد بلال محبوب، رئيس «المعهد الباكستاني للتنمية التشريعية والشفافية»، شارحاً: «يبدو أن كلا الاتهامين بالعمالة للاستخبارات الهندية، وقضية قسَم (ختم النبوات)، جزء من حملة تلاعب ممنهجة مقصود منها الإضرار بشريف وحزبه. ليس هناك دليل مادي على ذلك، لكن الشكوك والأدلة الظرفية تشير إلى أن الوكالات الأمنية تحرض على هذه الفوضى».
أخيراً.. كيف تبدو الإمكانات المستقبلية لعمران خان كرئيس وزراء لباكستان؟ الملاحظ أن خان رفع سقف توقعات الشعب الباكستاني على نحو بالغ. وفي أثناء حملته الانتخابية، تعهد أمام حشود من الجماهير بإحداث تحول للبلاد نحو الأفضل، ووعد بالقضاء على الفقر.
هذا واقع غير مشجع، لأن معظم الخبراء السياسيين والاقتصاديين يتفقون على أن أي حل فوري للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية في باكستان سيفتقر بدرجة بالغة إلى الشعبية، خصوصاً أن الباكستانيين يحملون حكامهم مسؤولية الصعاب التي يجابهونها.