«بلاككانسمان»... سبايك لي يواصل التصدي لموضوع العنصرية

الممثل الأول في فيلم سبايك لي الجديد «بلاككانسمان» (يكتبها الفيلم تحديداً: BlacKkKansman)، هو جون ديفيد واشنطن. الممثل الأول في فيلم سبايك لي «مالكولم إكس» كان دنزل واشنطن. وجون ديفيد هو ابن دنزل الفعلي. الفارق هو 26 سنة مرّت ما بين إنتاج تلك السيرة لأحد أبرز المعارضين للعنصرية وإنتاج هذا الفيلم.
المفارقة ليست فقط في استعانة المخرج بواشنطن الابن بعدما كان أسند دور البطولة لواشنطن الأب؛ لكن هناك مفارقة أخرى ناتجة عن أن الفيلمين ينتميان إلى طريق شقه المخرج لي عبر أفلامه، سار عليه واشنطن الأب ويسير عليه الآن واشنطن الصغير. وما يحف به الطريق من دلالات هي واحدة.
الفيلمان يتطرقان إلى العنصرية وينددان بها. يحيطان بالثقافة التي تؤجج العنصرية والبيئات الحاضنة لها، وموقف الشخصيتين الرئيسيّتين منها، وكيف اختارا محاربتها. إلى ذلك، مالكولم إكس كان، بالطبع، شخصية حقيقية، والشخصية التي يؤديها ابنه في الفيلم الجديد مبنية كذلك على شخصية حقيقية.
«بلاككانسمان» مأخوذ عن مذكرات نشرت كتاباً لرجل أفرو – أميركي، اسمه رون ستولوورث. وهذا وُلد سنة 1953، وأصبح أول رجل بوليس أسود في مدينة كولورادو سبرينغ، في ولاية كولورادو، وهو في التاسعة عشرة من عمره.
ستولوورث سعى لكي يكون شرطياً بلا بذلة رسمية (مخبراً كما يطلق عليه في بلادنا) وكان له ما أراد، ما مكنه بعد حين من جر قدم منظمة «كوكلس كلان» لقبوله عضواً بعد اتصاله بأحد رؤسائها، والادعاء، هاتفياً، بأنه شخص أبيض يشارك العصبة العنصرية مبادئها. هذا ما دعا العصبة للتقدم إليه بعرض انضمامه إليها، حتى من قبل أن تراه.
الفيلم يسرد ما يرد في الكتاب، ويكمل رصف أحداث نابعة منه. لكن سواء أكان المشاهد قرأ تلك المذكرات أو لم يقرأها، فإن قدراً من الذهول سيرتسم من مطلع الفيلم وحتى نهايته، ناتجاً عن كيف استطاع ستولوورث، كما يؤديه جون ديفيد واشنطن، خداع أعتى منظمة عنصرية في الولايات المتحدة، تلك التي مجّدها ديفيد وورك غريفيث، في فيلمه (الرائع فنياً) «مولد أمة» سنة 1915.
في فصل مبكر، كان على ستولوورث الحضور إلى مركز العصبة في المدينة، ليتعرف على أعضائها وليتعرفوا هم عليه. هنا يتم إيفاد زميله في البوليس فليب زيمرمان (أدام درايفر) وهنا أيضاً يبدأ الفيلم بالعرج قليلاً.
هل حدث ذلك فعلاً؟
في المذكرات، هناك فصل كامل عن هذا الموضوع. نعم تم إيفاد تحرٍّ آخر أبيض البشرة، مدعياً أنه ستولوورث، ويشارك العصبة كرهها للسود واللاتينيين والآسيويين، وكل من ليس أبيض البشرة. في كتاب آخر وضعه إد غوردون سنة 2016 عن الحادثة، تأكيد على أن ستولوورث طلب مساعدة تحرٍّ آخر صديق له، لكي يدّعي أنه هو، وأن هذا، بعدما نال موافقة رئيسه، قام بالمهمة على خير وجه. لكن لا المذكرات ولا الكتاب الموضوع يذكران أن الشخص الموفد كان يهودياً.

وضع غير مريح
ما حاول سبايك لي، الذي كتب السيناريو بمشاركة آخرين، تحقيقه هنا، هو التأكيد على أن اليمين المتطرف، كحال عصبة «كوكلس كلان»، لا تعادي السود فقط؛ بل اليهود أيضاً. نيّته في ذلك نبيلة؛ لكن الفيلم يكاد أن ينفصم إلى موضوعين، عندما يحشد المخرج مشاهد لأدام درايفر وهو يخوض تلك اللقاءات بينه وبين من قابلهم من تلك العصبة. يكاد الفيلم هنا أن ينسى أنه ليس بصدد الحديث عن زيمرمان بل عن ستولوورث.
لكن إلى جانب ذلك، فإن نجاح رجل في مثل هذه المهمة بملامح يهودية لا يمكن تخطئتها (ورجال «كوكلس كلان» ليسوا أغبياء لتمر عليهم الخدعة على هذا النحو) بعيد الاحتمال. إيفاد رجل بتلك الملامح والسمات لم يكن مقنعاً. ألم يكن من الممكن الاستعانة بممثل آخر يؤدي دور اليهودي، لكنه لا يمتلك تلك الملامح الظاهرة؟
يداري سبايك لي هذا الوضع بوجود عضو واحد من العصبة يرتاب في فليب، ويتحداه في المثول إلى جهاز لكشف الكذب مرّة، وفي مرّة أخرى للكشف عن عورته؛ لكن في كلا المرتين تتدخل ظروف مفاجئة لإنقاذ فليب من الورطة.
كل هذا يخلق وضعاً غير مريح إلى حد. ليس في قسم التشويق بالضرورة؛ بل في قسم السعي لتغطية ضعف الاحتمالات بغشاوة كوميدية. هذا يفرض على المخرج لي أن يرسم شخصيات كرتونية لمجرد أنها من تلك العصبة، ما يجعل الفيلم كاريكاتيرياً إلى حد. ما ينقذه من تبعات ذلك كله أن رسالة المخرج تبقى جادّة ومتواصلة.
هجوم سبايك لي على العنصريين يستمر بلا هوادة. ما يدعمه في ذلك أن القصّة، في أساسها، حقيقية حدثت في الواقع. هذا مهم جداً في عداد إيصال الرسالة، فلو أن الفيلم بُني على حكاية خيالية، لكان على المخرج، غالباً، معالجتها ككوميديا طوال الوقت ليمرر خلالها رسالته وسخريته.
علاقة سبايك لي بالأفلام المعادية للعنصرية ليست حديثة العهد طبعاً. نجدها في أفلامه الأولى مثل «افعل الشيء الصحيح» (1989)، و«حمى الغابة» (1991)، و«مالكولم إكس» (1992). تلك الأفلام الثلاثة على الأخص (يليها «مخدوع» Bamboozled و«اركب الحافلة») وضعته كأفضل مناوئ في السينما الأميركية للعنصرية. لكن لي خسر بعض ذلك الوهج عندما أقدم على أفلام لا تنتمي، مثل «الساعة الخامسة والعشرين» (2002)، و«معجزة في سانت آنا» (2008)، ثم «أولدبوي» (2013). على ذلك، بعض هذه الأفلام كان جيد التنفيذ، مثل «الساعة الخامسة والعشرين»، ومثل فيلم آخر جيد له مسحوب من حادثة حقيقية أخرى، هو «صيف سام» (1999).
استخدام المخرج في «بلاككانسمان» لمشاهد من «مولد أمّة» لتأكيد دوره في إذكاء التطرف العنصري، يتعدى هذا الفيلم إلى أخرى، مع مفادات مختلفة. لي يذكّر بالحرب الأهلية التي قامت، في أحد أهم دوافعها، لأجل تحرير العبيد، عبر مشهد من «ذهب مع الريح»، ثم يمضي إلى فترة السبعينات لعرض مثالين من بطولة سوداء، هما «كوفي» لجاك هِل (1973)، و«كليوباترا جونز» لجاك ستارِت (1973). الأول من بطولة بام غرير، والثاني بطلته تامارا دوبسون.
المخرج لي لا يمنح الممثلة الرئيسية في «بلاككانسمان» (لورا هاريير) البطولة؛ لكنه يجسدها كالمقابل الأنثوي للرسالة التي يحملها ستولوورث والفيلم، وعلى ضوء الرسالة المعادية للعنصرية التي جسدتها بعض أفلام السبعينات كهذين المثالين.
جون ديفيد واشنطن يتمتع بالموهبة التي تتيح له أن ينبري للدور في سياق طبيعي. هذا دور كان والده سيؤديه على نحو مختلف، لو أتاح له السن والظرف ذلك؛ لكن ابنه يقوم بالمهمة على خير وجه.