لعبة «تخييل ذاتي» بين «فرنسي جبان» و«مغربي خائب»

كيف تصبح فرنسياً في 5 أيام ومن دون معلم ... لجمال بدومة

جمال بدومة  -  غلاف «كيف تصبح فرنسياً»
جمال بدومة - غلاف «كيف تصبح فرنسياً»
TT

لعبة «تخييل ذاتي» بين «فرنسي جبان» و«مغربي خائب»

جمال بدومة  -  غلاف «كيف تصبح فرنسياً»
جمال بدومة - غلاف «كيف تصبح فرنسياً»

في «محاكاة ساخرة لكتب تعلم اللغات، في خمسة أيام ومن دون معلم»، أتى كتاب «كيف تصبح فرنسياً في 5 أيام (ومن دون معلم)» للكاتب المغربي جمال بُدومة، ليقترح علينا تجربة «تخييل ذاتي» تضع القارئ في خضم لعبة «أنا مخاتلة» تجمع بين «فرنسي جبان» و«مغربي خائب».
على عكس ما يظهره وجه غلاف الكتاب، حيث نقرأ إشارة إلى أن الكاتب هو «جيرار لو لاش (جمال بدومة سابقا)»، يشير الظهر، بشكل واضح، كما هو حال الكعب، إلى اسم جمال بدومة، مع نبذة مقتضبة، تقول إن جمال بدومة كاتب وشاعر مغربي، من مواليد 1973، صدر له «الديناصورات تشتم ستيفن سبيلبرغ» (شعر، 2001) و«نظارات بيكيت» (شعر، 2006)، مع صورة شخصية تظهره (أي جمال بدومة) وهو يحتسي فنجان قهوة.
تضع إشارة «جيرار لو لاش (جمال بدومة سابقاً)»، على وجه الغلاف، القارئ في منطقة تجاذب بين جيرار لو لاش وجمال بدومة: بين الشخصية الخيالية والشخصية الواقعية. بين جيرار لو لاش وهو يفضح جمال بدومة، وجمال بدومة وهو يخترع جيرار لو لاش.
بالنسبة لبدومة، الكاتب، يبقى «التخييل الذاتي»، ربما، هو «الجنس الأدبي السردي الأقرب إلى مزاج الشعراء»، مشيراً إلى أن هذا النوع من التخييل «ليس بالضرورة لعبة تمويه؛ بل انحياز حر وواع لجنس إبداعي لم نتعود عليه كثيراً في الأدب العربي»، مرجعاً سبب الاختيار إلى «الرغبة في اختبار بعض الأدوات المتعلقة ببناء الشخصيات، انطلاقاً من المعطيات الذاتية»، من دون أن يخفي أن لذلك، ربما، علاقة بتكوينه المسرحي، بشكل يجعل من النص «لعبة تخييلية ودراماتورجيا ذاتية، مستلهمة مما يسميه المسرحي الروسي ستانيسلافسكي بـ(لو السحرية)، أي أنك تقول: (لو كنت كذا ماذا سأصنع؟)، وتشرع في التخيل»، مع تشديده على أنه «ليس في المسألة أي تخف أو تصفية حساب؛ بل هو بناء درامي له منطقه الخاص»، إذ «كما أن هناك رواية تخييلية وسيرة ذاتية، هناك التخييل الذاتي».
مع إشارة وجه الغلاف إلى «جيرار لو لاش (جمال بدومة سابقاً)»، نكون مع اسمين يتنازعان شرف من يكون الكاتب، غير أن كلمة «سابقاً»، التي ارتبطت باسم جمال بدومة، تعيد الشرف لجيرار لو لاش، من دون أن تصرفه عن بدومة؛ لأننا كقراء «أذكياء» (هذا ما يفترضه فينا بدومة، على الأقل) سنفهم أن جيرار لو لاش، ليس، في نهاية المطاف، إلا بدومة البطل والمخرج، وأنه واحد في ثلاثة؛ فيما اعتمد الكاتب ضمير الأنا؛ لكنه، كما يقول: «أنا مخاتلة تتحول وفق لعبة محبوكة، السيرة الذاتية فيها جزء من التخييل، يرتبط بالذاكرة، وبالنرجسية وأنا الكاتب؛ لأنك مهما استحضرت الأحداث التي عشتها بصدقية، فلا بد أن تنسى بعض التفاصيل أو تحور أخرى. إنه تخييل غير إرادي. أما التخييل، في جنس التخييل الذاتي، فهو متعمد في إطار إخراج بالمعنى المسرحي بطله شخصية الكاتب»؛ الشيء الذي يبرر لمَ صدّر الكاتب نصه، في الصفحتين 3 و5، بتنبيهين: الأول «تنبيه للقارئ... جيرار لو لاش شخصية خيالية، أنا اخترعتها»، من توقيع «ج. بدومة»؛ والثاني «تنبيه للقارئ الغبي... جمال بدومة شخصية واقعية، أنا فضحتها»، من توقيع «ج. لو لاش».
انطلاقاً من خلفيته المسرحية، يدفع الكاتب بشخصية جيرار لو لاش إلى الواجهة، جاعلاً منها «أكثر من قناع»، مشدداً على أنها «شخصية متخيلة بالكامل، يلعب دورها الكاتب بالاعتماد على طريقة التشخيص (التمثيل)، كما تحددها مدرسة ستانيسلافسكي. وأول مفتاح لتقمص الشخصية، وفقاً للمسرحي الروسي، هو الانطلاق من المعطيات والأحاسيس والطباع الشخصية، ثم تطويرها وتلوينها والدفع بها إلى مناطق قصية، كي تنتج شخصية كثيفة وحية، تملك مزاجاً وخصائص، ليست، في آخر المطاف، سوى تنويع على طباع الممثل الأصلية»؛ الشيء الذي يبرر ربط جيرار لو لاش بجمال بدومة، في الحيز المخصص للكاتب، في اختيار يبرره بدومة، بقوله: «ربما لأنني فشلت في أن أصبح ممثلاً (رغم أنني درستُ التمثيل في المعهد العالي للمسرح)، أعوض ذلك في الكتابة عن طريق تقمص شخصيات بالمعنى المسرحي للكلمة. الكاتب عادة يكتفي باختراع شخصيات يحركها في فضاء الحكاية. أما أنا فقد اخترعت الشخصية وتقمصتها وأعلنت ذلك منذ البداية. هناك شخصية الكاتب (جمال بدومة) وشخصية جيرار لو لاش، التي يتقمص دورها الكاتب»، مع حرص على أن يبقى «لكل شخصية مزاجها».
بقدر ما يدخلان القارئ في لعبة التخييل، يكشف التنبيهان عن مزاج الشخصيتين الرئيسيتين: «جمال بدومة، الذي يتحدث إلى القارئ باحترام كما يصنع أي كاتب يؤكد لقرائه أن (أي تشابه للأحداث والشخصيات مع الواقع هو مجرد صدفة)، وجيرار لو لاش، الشخصية (السينيكية)، التي تحمل حَنَقاً كبيراً على العالم، يريد أن يصرخ ويشتم ويفضح كل شيء، ويتحدث بنبرة مستفزة ومغرقة في السخرية السوداء».
لا يخفي بدومة أن الكتاب «يشتغل على السخرية، خصوصاً السخرية من الذات»، مستحضراً مجموعة من النصوص الغائبة مع مسحة من السخرية، مرتبطة أحياناً بالعناوين أو بسيرة الكتّاب: «السخرية خيار استراتيجي في بناء الكتاب، جيرار لو لاش يسخر من العالم كله، سخرية سوداء وسينيكية، وأول واحد يسخر منه هو جمال بدومة».
لن يحيط القارئ بما يثيره التنبيهان من أسئلة، تتراوح بين الاختراع والفضح، إلا في آخر النص، حيث نقرأ: «يبدو أنني سافرت أبحث عن الحياة وضيّعت نفسي في الطريق. لست متصوفاً أكره التوحّد والتعدد؛ لكن صدقوني: ذهبت بمفردي إلى فرنسا وعدت ثلاثة أشخاص متفرقين... ثلاثة في واحد... أنا المغربي الخائب، والفرنسي الجبان، ومن يحدثكم عنهما».
لا يتعلق الأمر، هنا، إذن، بجيرار لو لاش أو بجمال بدومة، أو كليهما؛ بل بثلاثة في واحد: ثلاث شخصيات تتنفس هواء مختلفاً، كما أن لها خطاباً مختلفاً، وكل هذا يرتبط بالجنس الأدبي للكتاب، الذي هو رواية بطلها الكاتب، مع كثير من التخييل. لعبة أقنعة، وثلاث شخصيات في واحد: شخصية الكاتب الذي يروي كل هذا، والشخصية الرئيسية التي هي جيرار لو لاش، والتي هي، أيضاً، شخصية جمال بدومة الكاتب: ثلاث شخصيات تتحدث لتصنع هذه الرواية، فيما يشبه الإخراج السينمائي لتحريك الشخصيات، حين يلعب المخرج دوراً في فيلم أو في مسرحية.
يبقى أن التنبيه الموجه إلى «القارئ الغبي»، والذي يحمل توقيع جيرار لو لاش، لا يعني أن جمال بدومة (الكاتب، هذه المرة) لا يهتم بـ«القارئ الذكي»، وذلك من منطلق أن رهانه يبقى على هذا القارئ (أي القارئ الذكي)، الذي سيفهم أن الكاتب يتحدث عن ذاته، من خلال لعبة تخييل ذاتي، في كتاب يعتمد في أساسه، كما يقول كاتبه، على «معطيات حقيقية تم الاشتغال عليها، وتحويل ملامحها وإغنائها بما يخدم البناء الدرامي، ويسند السرد، ويجعله مشوقاً»؛ حيث إن «هناك أماكن حقيقية وأخرى متخيلة. شخصيات حقيقية وأخرى متخيلة. هناك أفعال حقيقية وأخرى متخيلة؛ لكن هناك أماكن وشخصيات وأفعالاً هجينة، يختلط فيها الواقعي بالتخييلي، وهي الغالبة. التخييل الذاتي لعبة تنطلق من شخصيات حقيقية، وتخترع لها مصيراً، وتجعلها تلتقي بشخصيات متخيلة، تعتمد على أماكن حقيقية يمكن تحويلها وتأثيثها بما يخدم الحبكة، وتتحدث عن أحداث حقيقية يتم التصرف في عقدتها وتطورها ونهايتها».
لا يمكن لمضمون باقي كتابات بدومة إلا أن تورطنا، أكثر، في مزيد من الأسئلة بصدد حدود الواقعي والمتخيل، الحقيقة والكذب، في كتاب «كيف تصبح فرنسياً في 5 أيام»، متسائلين عن جدوى تعمد كاتبه التخفي وراء قناعه، مستبعداً المحافظة على حضوره في نصه بشكل صريح، بدليل لعبة الأقنعة التي جعلته يتحدث، مرة عن جيرار لو لاش، أي «الفرنسي الجبان»، وأخرى عن جمال بدومة، أي «المغربي الخائب»، من جهة أن ما يسعى النص، ربما، إلى «فضحه»، من خلال شخصية جيرار لو لاش، موجود في نصوص وكتابات أخرى، لم يكن فيها جمال بدومة (الكاتب) في حاجة إلى التخييل الذاتي للتعبير عن المضامين التي تناولها؛ رغم تشديده على أنه ليس في اختراع شخصيات النص وتحريكها في فضاء الحكاية «أي تخف أو تصفية حساب»، وأنه «بناء درامي له منطقه الخاص»، إذ «كما أن هناك رواية تخييلية وسيرة ذاتية، هناك التخييل الذاتي».
يعتبر بدومة أن حضور كثير من المواقف، المعبر عنها في عمله التخييلي، في كثير من كتاباته الأخرى: «شيء طبيعي»؛ لأن بناء شخصية جيرار لو لاش: «ينطلق من طباع وخصائص في شخصية جمال بدومة، كما تقتضي لعبة التخييل الذاتي»، سوى أن «لو لاش أكثر جذرية في أحكامه وفِي مواقفه، وفخور بحقارته وبجبنه»، من منطلق أن جيرار لو لاش - يوضح بدومة - هو «الابن العاق للبلاد التي... والابن الشرعي لهذا الجيل الضائع الذي تحدثت باسمه في كتابي الأخير. طباعه ومزاجه ومواقفه تختزل وتكثف أفكار هذا الجيل»؛ حيث يتأرجح الكتاب بين أنا الكاتب الواقعي، التي تحاول أن تطغى على حلم أنا أخرى، بعد أن أصيبت بالإحباط وخيبة الأمل وتحول أملها، واستيهامات جيل بكامله، إلى كابوس مرعب، وغدت مدينة الأنوار سجناً كبيراً من العذاب والبؤس لكل المهاجرين والطامعين في أوراق الإقامة، لخصتها حالة الغضب التي تملكت الكاتب، في نصه، فاتحة إمكانية جديدة للاشتغال على «لو» السحرية، كما طورتها مدرسة ستانيسلافسكي، التي كانت المحرك الرئيسي لـ«كيف تكون فرنسياً في خمسة أيام»، حيث نقرأ: «لسوء حظنا أننا نولد دون أن يستشيرنا أحد. لأجل ذلك أحمل في نفسي غضباً قديماً. يسميه العارفون: (الغضب الوجودي). وأتساءل الآن: كيف صار سارتر وجودياً وسط كل الجمال الباريسي؟ كيف كان سيكون لو ولد مغربياً».


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»
TT

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

مرت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الأصعدة، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة وطالت لبنان، ولا تزال مشاهدها الدامية تراكم الخراب والدمار على أرض الواقع. في غبار هذا الكابوس تستطلع «الشرق الأوسط» أهم قراءات المثقفين والمبدعين العرب خلال 2024.

في دول الخليج تنوّعت قراءات المثقفين والكتاب ما بين القراءات الشعرية والروائية، مع انفتاح على التجارب الأدبية في العالم العربي، ومقاربات للأعمال التي رصدت التجربة الحداثية وتأثيراتها، وكذلك التجارب النسوية في الرواية والسيرة الذاتية، وبينها كتب في الفكر والفلسفة والتاريخ الاجتماعي.

 

باسمة العنزي: ثوب أزرق وقبيلة تضحك ليلاً!

 

من الكويت، تقول الكاتبة والروائية الكويتية باسمة العنزي: سنة عاصفة مليئة بالأحداث المحبطة والأخبار البائسة! القراءة بدت فيها كاستراحة من لهاث متابعة أخبار الحروب وتردي الأوضاع وانحدار البشرية السريع. المفرح وسط كل هذا أن يقع بين يديك أعمال مبهرة هي الأولى لأصحابها!

قرأت للكاتبة السورية الكردية هيفا نبي «ثوب أزرق بمقاس واحد» الصادر عن دار «جدل» عام 2022، وهي رواية كتبت على شكل مذكرات، تناقش موضوع اكتئاب ما بعد الولادة بسرد جميل ونبرة أنثوية تغلغلت لتفاصيل عالم الأمومة الجديد لدى شابة مهجّرة من مدينتها بسبب الحرب. سرد شفاف يحلّق نحو ذات وحيدة تجتاز أزمتها عبر البوح. وهو عمل - للأسف - لم يحظَ بما يستحقه من اهتمام وانتشار رغم تجلي موهبة الكاتبة وتمكنها اللغوي وقدرتها على اقتناص الحالات النفسية ووصفها بكل تدرجاتها.

أما العمل الثاني فهو للكاتب السعودي سالم الصقور «القبيلة التي تضحك ليلاً» الصادر عن دار «مسكيلياني» عام 2024، وهو أيضاً يتناول موضوعاً جديداً في الرواية العربية عن عدم القدرة على الإنجاب في مجتمع قبلي معاصر، العمل مكتوب بلغة شعرية فذة وبنظرة فلسفية عميقة تضع تحت المجهر مفاهيم مثل الأمل والحرمان وخسارات الحياة القسرية. نوفيلا مكتنزة تدور أحداثها في نجران ليوم واحد يتحدد فيه مصير أبوة البطل المنتظرة!

هيفا نبي وسالم الصقور جاء عملاهما كإضاءة مبشّرة بالكثير في عالم يفقد دهشته ويخفت فيه صوت الحكمة، وقرأتهما في عام شحّت فيه الأشياء المدهشة!

 

د. عبد الرزّاق الربيعي: عودة لعبد الوهاب البياتي

ومن سلطنة عُمان، يقول الشاعر الدكتور عبد الرزاق الربيعي: كتب كثيرة قرأتها هذا العام، والبعض أعدت قراءته، وفق نظرة جديدة أكثر نضجاً، وتمحيصاً، وتذوّقاً، كالأعمال الشعرية لعبد الوهاب البياتي، والذي حفّزني للعودة إليها كتاب صدر عن دار «أبجد» هذا العام ضمن فعاليات مهرجان بابل العالمي للثقافات والفنون والإعلام (دورة 2024)، حمل عنوان «عبد الوهّاب البيّاتي... دراسات وشهادات وحوارات»، حرّره وقدّم له د. سعد التميمي. في بادرة ولمسة وفاء تُحسَب لرئيس المهرجان د. علي الشلاه.

وتأتي أهمية الكتاب كون محرّره د. التميمي، أستاذ النقد والبلاغة بالجامعة المستنصرية، وجّه دعوة ضمنيّة لقراءة البياتي، والكشف عن دوره الريادي، وفحص نتاجه من قبل النقاد الذين صرفت غزارة إنتاجه الشعري أنظارهم عنه، فهذه الغزارة بنظر د. حاتم الصكر «لم تدع فسحةً لقراءة نصيّة مناسِبة، فكثير من منتقدي سيرته السياسية اتبعوا ما أشيع عنه دون تمحيص؛ إذ لم يضعه الشيوعيون العراقيون - كما يشاع - محل السياب حين ارتدّ عنهم، لأنهم ليسوا بحاجة لشاعر، ومعهم مثقفوهم وأدباؤهم، كما أن البياتي ينتهج فكراً يسارياً قبل اصطفافه نصيراً للفكر اليساري التقليدي، وقد عزا ذلك - حين كتب (تجربتي الشعرية) - إلى ما كان يرى وهو صبي، من مظالم ومآسٍ تحيق بالمشردين والفقراء والنازحين للمدينة، وهو يراهم حول مزار الصوفي عبد القادر الجيلاني بوسط بغداد، حيث ولد البياتي ونشأ». وقد شارك في الكتاب كل من: د. حاتم الصكر، ود. بشرى موسى صالح، ود. خالد سالم، ود. محمد عبد الرضا شياع، ود. أناهيد الركابي، والشعراء: علي الشلاه، وهادي الحسيني، ومحمد مظلوم، ومحمد تركي النصار، ود. عبد الرزاق الربيعي، واشتمل على دراسات وشهادات وحوارات مسلطاً الضوء «على الإرث الشعري الذي خلّفه البياتي، وإسهاماته في تحديث القصيدة العربية، ورؤية البياتي للشعر، والحداثة وموقف الشاعر من السلطة والحرية، فضلاً عن تقنية كتابة القصيدة، وفاعليته في الوسط الثقافي».

قسّم التميمي الكتاب إلى ثلاثة فصول: تضمن الأول دراسات وقراءات، والثاني شهادات وذكريات، والثالث حوارات. وقد احتل الفصل الأول مساحة واسعة؛ إذ ضم سبع دراسات هي: القصيدة... المنفى... الموت... مفردات في تجربة البياتي الشعرية، للدكتور حاتم الصكر، وهالة الأسطورة في شعر عبد الوهاب البياتي، للدكتورة بشرى موسى صالح، والمتعاليات النّصّيّة في شعر البياتي، للدكتور محمد عبد الرضا شياع، والتجربة الإسبانية لدى البياتي، للدكتور خالد سالم، والبياتي من فلسفة الرفض إلى استشراف الرؤية، للدكتور سعد التميمي، ومركزية الهامش في شعر البياتي، للدكتورة أناهيد الركابي، ومجد الشعلة الخالدة الآخر في مرآة البياتي الشعرية، لمحمد تركي النصار.

أمّا الفصل الثاني، فقد ضمّ ثلاث شهادات حملت العناوين: «رجاءً عدم الجلوس... عبد الوهّاب البيّاتي قادمٌ بعد قليل» لعبد الرزاق الربيعي، و«في ذكرى البياتي» لهادي الحسيني، و«البياتي وسنواتنا في عمّان» للدكتور علي الشلاه.

وخُصّص الفصل الثالث لحوارات أجريت مع البياتي، وقد تناولت الدراسات الأثر الذي تركه البياتي ليس فقط لدى الشعراء العرب، بل تجاوز ذلك إلى الإسبان، خلال إقامته بمدريد في الفترة (1980-1990).

لقد أعاد هذا الكتاب لنفسي شغفي بقصيدة البياتي، التي تأثّرت بها في بداياتي مطلع الثمانينيات، فوفّر لي فرصة العودة للمنابع الشعرية الأولى.

 

عبد العزيز الصقعبي: أيام الغزو وسير النساء الذاتية

ومن السعودية، يقول الروائي والمسرحي السعودي عبد العزيز الصقعبي: أنا متفرغ حالياً للقراءة والكتابة، فالكتاب وجبة يومية، من الصعوبة تركها، والجميل في زمننا هذا هو سهولة الوصول للكتاب، ورقياً أو إلكترونياً، الحصة الأكبر من قراءاتي دائماً الرواية والقصة ثم الشعر والمسرح، إضافة إلى الكتب الفكرية والدراسات المهمة.

ربما - وأنا أتحدث عن نفسي كروائي - يرد في ذهني أمر ما - ربما وليس أكيداً – أتناوله في مشروع روائي؛ لذا أكثف قراءاتي حول ذلك الموضوع، أطرح لكم بعض الأمثلة «أيام الغزو... يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت»، وهي يوميات للفنان التشكيلي إسماعيل شموط؛ حيث كان لدي اهتمام بتلك الفترة التي لم تؤثر على الكويت فقط، بل على كامل المنطقة وبالأخص المملكة، بالطبع قرأت عدداً من الروايات والكتب حول ذلك ومن أهمها السباعية الروائية «إحداثيات زمن العزلة» للروائي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، على الرغم من كل الكتابات فتلك الفترة تحتاج إلى مزيد من الكتابة.

وحقيقة من الصعوبة سرد بقية أسماء الكتب التي قرأتها، فهنالك مثلاً روايات، تكون مقبولة وأنتهي منها عند آخر صفحة، ولكن لا تبقى في الذاكرة ولا تشجّع على قراءتها مرة أخرى ناهيكم عن كثير من الكتب وبالذات النصوص السردية التي لا أستطيع إكمالها، اللافت في 2024 دخول عدد من السير الذاتية النسائية في دائرة قراءاتي، بدأتها بسيرة «السنوات» الحائزة جائزة نوبل (أني إرنو)، وبعد ذلك أجد نفسي أمام سيرتين متشابهتين وفي الوقت ذاته مختلفتين؛ «حد الذاكرة» لعائشة محمد المانع، و«حياتي كما عشتها... ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا» لثريا التركي، وبكل تأكيد هنالك قائمة طويلة أحتفظ بها لنفسي، من الكتب التي قرأتها أو سأقرأها، أو أتصفحها ربما تشدني للقراءة.

 

كاظم الخليفة: الأدب السعودي والعلاقة بين الأدب والفلسفة

ويقول الكاتب والناقد السعودي كاظم الخليفة: كان مشروعي القرائي لعام 2024 هو استكشاف الأفق الإبداعي للكتاب السعوديين، الذي أتاحه المرور على عناوين وتصفح بعض إصدارات مشروع «1000 كتاب» الذي تقوم عليه دار «أدب للنشر والتوزيع» بدعم من الصندوق الثقافي السعودي، وكذلك قراءة «كتاب أنطولوجيا القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية» - الجزء الثاني - ذلك المشروع الرائد الذي قام بجهد شخصي من الأديب والقاص خالد اليوسف؛ لإبراز المشهد السردي السعودي المعاصر ومدى تقدمه من خلال ممارسة التجريب وتنوع الأدوات السردية. والثالث، كان المشروع الآخر للشاعر عبد الله السفر «رمال تركض بالوقت» الذي كان برعاية من مركز الملك عبد العزيز الثقافي «إثراء»، وهو عبارة عن مختارات لنصوص شعرية تختص بقصيدة النثر السعودية بغية ترجمتها للقارئ الفرنسي.

تعرض تلك الكتب جانباً مهماً من حراك الأدب السعودي المعاصر الذي يتطلب الكثير من الدراسة والتأمل، لكن الانطباع العابر يمكن استخلاصه في أن القصيدة الكلاسيكية السعودية تحاول تجديد ثوبها من خلال جعل «ذات» الشاعر بهواجسه وأحلامه أحد مواضيعها المهمة. أي أن الدافع الذاتي للكتابة، واتخاذ القصيدة وسيلة فضلى للتفكير، قد عمل على تقليص المساحة الكبيرة التي كان يحتلها شعر «المناسبات» في دواوين الشعراء.

والانطباع الثاني عن مستوى التقدم في كتابة قصيدة التفعيلة، التي لم تتقدم وتكتسب نسبة وازنة في دواوين الشعراء المعاصرين بشكل ملحوظ. أما ملمح قصيدة النثر الحديثة فنجد بروزاً لموضوع «الميتاشعرية»؛ حيث سؤال القصيدة ومحرضات كتابتها وجدواها. وفي كلا الجنسين الشعريين: الكلاسيكي والنثري، نلحظ فيهما تجاوز الشواعر النساء أزمة «النِّسوية» وبالتالي الكتابة بروح الأنثى المدركة لكينونتها.

في السرد، نلحظ نمواً لجنس القصة القصيرة جداً واقترابها - في بعض التجارب - من شذرات قصيدة النثر. وما يخص جنس القصة القصيرة، فيمكن ملاحظة أنها اتجهت نحو التنوع - بشكل واضح - في مواضيعها، مع تناول أكبر بالتركيز على الجوانب الوجودية والأزمات النفسية لشخوص حكاياتها. أما الرواية، فيمكننا رؤية اجتذابها للكتاب الشباب بإنتاج متلاحق لبعضهم؛ حيث يفصل بين كل عمل روائي وآخر أقل من عام.

مجال القراءة الحرة كان من نصيب كتب مميزة في بابها، وإن لم تبتعد كثيراً عن الأدب. ولعل أبرزها كتاب حديث للناقد الفرنسي كاميل ديموليي «الأدب والفلسفة... بهجة المعرفة في الأدب» الذي يُعتبر من أواخر من دخلوا في حلبة الصراع والجدل - منذ أفلاطون – عمّن هو الأجدر بتمثيل «الحقيقة»؛ الأدب أم الفلسفة، وكذلك عن طبيعة العلاقة الملتبسة بينهما. ففي هذا الكتاب يستعرض ديموليي الجدل القديم/الجديد عن علاقة الفلسفة بالأدب، ويحاور فيه جميع آراء الأدباء والفلاسفة البارزين، ابتداء بأفلاطون وسقراط، وانتهاء بنيتشه وهايدغر، ثم في خاتمة الكتاب يميل إلى الرأي الذي يقول إن «فكرة الفلسفة هي الأدب»، وذلك بمعنيين: أولاً أن الأدب هو فكرة الفلسفة، أي أنها إبداعه أو ابتداعه؛ ثم إنها مدار دراسته. وهكذا صار الأدب في نتيجته هو منبع الأفكار الفلسفية، وأنها تعود فيه وكأنها تعود إلى أصلها المنسي، كما يقول. بل إن نيتشه والتيار الرومانسي حاولا إعادة الفلسفة والأدب إلى أصلهما الشعري، بصفته نشاطاً خلاقاً؛ حيث الفلسفة - من وجهة النظر هذه - يمكن أن تكون ضرباً من الشعر المتحجر؛ أي خطاباً بواسطة الصور والمجازات.

 

حمد الرشيدي: بين البردوني والأفلاج والزلفي

من الرياض، يقول الشاعر والروائي السعودي حمد حميد الرشيدي: كثيرة هي الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، وكتبت بعض انطباعاتي الشخصية لما قرأته منها، وهي كتب تُعنى بالأدب والشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والدراسات النقدية، وقرأت بعض الكتب التي أثارت اهتماماً من قبل القراء أو النقاد... ومن الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، كتاب «المكان في شعر البردوني» للدكتور خالد اللعبون، وهو دراسة موضوعية تحدث فيها الكاتب عن ظاهرة اكتناز شعر الشاعر العربي اليمني الكبير عبد الله البردوني (رحمه الله) بالمكان وجغرافيته وارتباطه الحسي والمعنوي بالإنسان.

وفي مجال أدب الرحلات، قرأت كتاب «الأفلاج كما رآها فيلبي» وهو من تأليف عبد العزيز المفلح الجذالين. ويتحدث فيه مؤلفه عن أهمية مدينة الأفلاج عبر التاريخ وما ذكره الرحالة الإنجليزي المعروف عبد الله فيلبي عن هذه المدينة عندما زارها زيارة ميدانية سنة 1918م.

وفي مجال علوم التاريخ والاجتماع، قرأت كتاب «الكويت والزلفي» لمؤلفه حمد الحمد، وهو يتحدث عن الصلات التاريخية والاجتماعية بين بعض العوائل والأسر العربية ذات العوامل المشتركة في الاسم والنسب والأرومة في كل من الكويت ومدينة الزلفي.

وفي الفكر والفلسفة، قرأت كتاب «الحضارة العربية الإسلامية وعوامل تأخرها» للدكتور أمين أحمد زين العابدين، وهو كتاب تطرّق فيه المؤلف للحضارة العربية والإسلامية عبر التاريخ وما مرت به من مراحل وتغيرات عبر الزمن وأثرها وتأثيرها في الحضارات الأخرى.

وفي العلوم، قرأت كتاب «في تاريخ العلوم» للدكتور عبد الله محمد العمري، وهو كتاب يبحث في تاريخ العلوم عند العرب القدامى حتى العصر الحديث، وأهم الاكتشافات والاختراعات التي قام بها العرب والمسلمون منذ القدم، ثم تم نقلها عنهم للشعوب الأخرى التي قامت بالاستفادة منها وتطويرها في الوقت الحاضر.

جمانة الطراونة

 

جمانة الطراونة: من «أشجار الكلمات» إلى «غيم على سرير»

الشاعرة الأردنية المقيمة في مسقط (سلطنة عُمان) جمانة الطراونة، تقول: أميل إلى قراءة كتب المختارات الشعرية، كونها تعطي فكرة عن التجارب الشعرية المتحقّقة، وضمن هذا السياق، قرأت كتاب «أشجار الكلمات»؛ وهو مختارات شعرية للشاعر عدنان الصائغ. اختارها وقدم لها: حاتم الصكر، وحسن ناظم، وناظم عودة. وصدر عن دار «صوفيا» للنشر والتوزيع في الكويت، ومما علق في ذهني قوله:

«في الليلِ

أرى شخصاً آخرَ

لا أَعْرِفُـهُ

يَتَعَقَّبُني

فأغذُّ خطايَ،

وأسرعُ

أسمَعُهُ يتوسّلُ خلفي:

– اصحبْني ظلاً

فأنا أخشى أنْ أمشي منفرداً في الطُرُقاتْ».

أما أحدث كتاب قرأته هذا العام من كتب المختارات فهو كتاب «غيم على سرير» وقد ضمّ بين دفتيه مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي، وقد صدر عن دار «شمس» للنشر والإعلام، بالتعاون مع بيت الشعر ببغداد، والنصوص من اختيار الشاعر عماد جبّار، وقدّم لها د. سعد التميمي، الذي قال: «ينفرد الشاعر عبد الرزاق الربيعي من بين شعراء جيل الثمانينات باتّساع تجربته الشعرية وعُمقها وتنوعها، وهو الحاضر باستمرار في الساحة الشعرية والقادر على الانتقال من منطقة إلى أخرى مجدِّداً في القصيدة على مستوى اللغة والأسلوب والمعالجة والمفارقة، كاشفاً ما يحمله من عمق معرفي يتجلى في تناصّاته المتنوعة، (...) فهو القادم من صومعة الشعر حاملاً الوطن المثخن بالجراح والألم وصور الخراب والموت التي يختلط فيها الدم بالدموع»، وعلى الغلاف الأخير للمختارات كتب د. حاتم الصكر شهادة حول تجربة الربيعي، وقد قرأت ديوان الصكر «الهبوط إلى برج القوس» الصادر عن دار «أرومة للدراسات والترجمة والنشر»، وأبحرت مع عوالم الفقد، وأحزان غربته، التي يسرّبها عن طريق الشعر الذي يعتبره ملاذه الأخير ويستثمر الموروث الرافديني حين يرسم «بورتريهات» لعدد من أصدقائه كما في «خُطى جلجامش» التي يهديها إلى الشاعر عبد الرزاق الربيعي.