عملاق الصلب الألماني «تيسن كروب» في أزمة

الشركة تواجه مخاطر التقسيم

عملاق الصلب الألماني «تيسن كروب» في أزمة
TT

عملاق الصلب الألماني «تيسن كروب» في أزمة

عملاق الصلب الألماني «تيسن كروب» في أزمة

بات واضحا للجميع أن شركة «تيسن كروب» الألمانية العملاقة لصناعة الصلب، ومقرها الرئيسي مدينة إسن، معرضة للتقسيم خلال الفترة المقبلة، مما يهدد مستقبل القلب التجاري النابض لألمانيا.
واللافت أن الكنيسة الألمانية دخلت مباشرة على خط الحوار لإطفاء نار الحرب التي اندلعت بين رؤساء الشركة وحملة أسهمها؛ فحسب تصريح للأسقف فرنس يوزف أوفربيك، ستخرج إدارة «تيسن كروب» خاسرة من أي قرار يرمي إلى تجزئتها.
وتذهب الكنيسة الألمانية إلى حد أبعد للجزم بأن أي عملية لتقطيع أوصال شركة تصنيع الصلب العملاقة تعد غير أخلاقية، علما بأن «تيسن كروب» التي تمتلك 670 فرعا حول العالم، تعد رمز الرأسمالية الألمانية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لأنها مرجع ودليل تجاري وإنتاجي وصناعي لحكومة برلين ورجال الأعمال الألمان ولنقابات العمال معًا.
ويقول الخبير الاقتصادي، ريكو غراتفول، إن حكومة برلين تتابع عن كثب أوضاع شركة «تيسن كروب» المتردية ومصيرها التجاري الغامض. ويبدو أن هذا العام لم يكن إيجابيا على الشركات الألمانية العملاقة، فها هي شركة «دايملر» القابضة تعلن عن وقف أنشطتها في إيران خوفا من انتقام الأميركيين منها إذا ما واصلت التعامل مع طهران التي تشدد واشنطن العقوبات عليها.
ويستطرد هذا الخبير: «صحيح أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تدخلت شخصيا لضمان استمرارية عمل هذه الشركة على أسس تجارية متينة محليا ودوليا. وصحيح أيضا أن أرمين لاشيت رئيس حكومة مقاطعة نوردراين ويستفاليا الواقعة في شمال ألمانيا، وهو عضو بارز في إدارة الشركة، يحاول بكل قواه تفادي تقطيع أوصال (تيسن كروب) الإنتاجية، إلا أن كبار الخبراء الألمان في برلين يتوقعون حربًا إدارية ضروسًا بين مؤسسي الشركة وحملة أسهمها، وهذا ستكون له عواقب وخيمة على ألمانيا».
ويضيف أنه مؤخرا وبعد أعوام طويلة من المحادثات المعقدة تمكن هاينريش هيزنغر، المدير العام السابق لشركة «تيسن كروب»، من إبرام صفقة تاريخية طموح، وهي الموافقة على دمج الشركة مع شركة «تاتا» الهندية. لكن سرعان ما تسببت تلك الصفقة في إحداث بلبلة إدارية داخلية أجبرته على الاستقالة الشهر الماضي. وسبب البلبلة هي الانتقادات اللاذعة التي وجهتها إليه أورسولا غاتر رئيسة مؤسسة «كروب»، وهي من بين حملة الأسهم الأكثر بروزا في «تيسن كروب» لأنها تمتلك 21 في المائة من إجمالي أسهم الأخيرة.
ويختتم الخبير الألماني بالقول إن حملة الأسهم الكبار في شركة «تيسن كروب»، مثل صندوق الاستثمار السويدي «سيفيان» ونظيره الأميركي «إليوت» اللذين يضغطان على مجلس إدارة الشركة منذ فترة طويلة لبيع بعض من أصولها الاستراتيجية على رأسها تجارة المصاعد المربحة، يتهمون رئيسة «مؤسسة كروب» بسلوكيات غامضة ومريبة تجاههما.
وكان المدير العام السابق بين أول المعارضين الرئيسيين لبيع هذه الأصول. كما أن استقالته أحدثت جوا من الإرباك في الأسواق المالية التي تدعم علنا مسألة تقسيم الشركة.
من جانبها، تقول الخبيرة المالية، هايدي غمور، الداعمة لفكرة تقسيم «تيسن كروب» وبيع بعض الأصول المهمة، إن التيار الإداري المحافظ في شركة «تيسن كروب» لن يصمد طويلا أمام رغبة حملة الأسهم الأجانب الذين يريدون مجاراة أوضاع الأسواق المالية والتيارات التجارية الجديدة.
وتضيف الخبيرة أن إدارة الشركة استندت مؤقتا إلى «غيدو كيركهوف» العاجز عن اتخاذ قرارات مصيرية لأنه يواجه ضغوطا كبيرة من صندوق الاستثمار الأميركي «إليوت» من جهة؛ ومن «مؤسسة كروب» التي تمارس إرهابا نفسيا على التيار الإداري المحافظ من جهة أخرى.
وتقف حكومة برلين مكتوفة الأيدي أمام المصير المجهول لآلاف العمال والموظفين ومصير شركة عملاقة لعبت دورا رائدا في النهضة الاقتصادية لألمانيا بعد خروج البلاد محطمة عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.



هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
TT

هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)

تواجه فرنسا في الوقت الراهن تحديات اقتصادية وسياسية معقدة، تتمثل في ارتفاع معدلات الدين العام وتزايد عدم الاستقرار السياسي، مما يهدد استقرارها الداخلي ويثير القلق بشأن انعكاسات هذه الأوضاع على منطقة اليورو بشكل عام. تأتي هذه الأزمات في وقت بالغ الأهمية، حيث يمر الاتحاد الأوروبي بفترة تحول حاسمة بعد تبعات الأزمة المالية العالمية، مما يطرح تساؤلات حقيقية حول قدرة الدول الأعضاء على مواجهة الأزمات الاقتصادية المقبلة. في خضم هذه التطورات، تظل فرنسا محط الأنظار، إذ يتعرض نظامها السياسي للشلل بينما يتصاعد العجز المالي. فهل ستتمكن باريس من تجنب مصير الدول التي شهدت أزمات مالية مدمرة؟ وما الدروس التي يمكن لفرنسا الاستفادة منها لضمان استدامة الاستقرار الاقتصادي في المستقبل؟

تتجاوز ديون فرنسا اليوم 110 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت تكلفة اقتراضها مؤخراً مستويات تفوق تلك التي سجلتها اليونان. ويوم الجمعة، توقعت «موديز» أن تكون المالية العامة لفرنسا أضعف بشكل ملموس خلال السنوات الثلاث المقبلة، مقارنة بالسيناريو الأساسي الذي وضعته في أكتوبر (تشرين الأول) 2024. هذه المعطيات أثارت مخاوف متزايدة من أن تكون هذه الأوضاع الشرارة التي قد تؤدي إلى أزمة جديدة في منطقة اليورو. ومع ذلك، عند مقارنة حالة الاتحاد الأوروبي في ذروة الأزمة المالية العالمية، حين كان يواجه خطر التفكك الكامل، مع الوضع الراهن، تتضح الفروق الجوهرية، حيث يظهر الوضع الحالي قدرة الاتحاد على الصمود بشكل أكبر بكثير، مما يعكس قوة أكثر استقراراً وصلابة في مواجهة التحديات الاقتصادية، وفق «رويترز».

وبعد انهيار حكومتها الهشة في أوائل ديسمبر (كانون الأول)، توجد فرنسا حالياً في دائرة الضوء. فقد أدت الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في يوليو (تموز) إلى انقسام الجمعية الوطنية، مما أدى إلى تعميق الأزمة السياسية في البلاد. وفي مسعى لتشكيل حكومة قادرة على استعادة الاستقرار، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السياسي المخضرم ميشيل بارنييه رئيساً للوزراء بعد الانتخابات، على أمل بناء إدارة مستدامة. لكن التوترات بين الحكومة والبرلمان اندلعت عندما دعا بارنييه إلى خفض الموازنة للحد من العجز المتوقع، والذي قد يصل إلى 6.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. وقد أدى هذا إلى تجمع أعضاء البرلمان من مختلف الأطياف السياسية لرفض الموازنة، وكان التصويت بحجب الثقة الذي أدى إلى إقالة بارنييه هو الأول من نوعه منذ عام 1962.

وأثناء تطور هذه الأحداث، ارتفعت عوائد السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات بشكل مؤقت إلى مستويات أعلى من نظيرتها اليونانية، مما أثار المخاوف من أن فرنسا قد تصبح «اليونان الجديدة». ومع ذلك، إذا تم النظر إلى ما حدث في اليونان في عام 2012، عندما وصلت عوائد سنداتها لأجل عشر سنوات إلى أكثر من 35 في المائة، يلاحظ أن الوضع اليوم مختلف بشكل جذري. ففي الوقت الراهن، تقل عوائد السندات اليونانية عن 3 في المائة، مما يعني أن العوائد الفرنسية قد ارتفعت بأقل من 60 نقطة أساس خلال العام الماضي لتصل إلى مستويات مماثلة.

ومن خلال تحليل التغييرات في عوائد السندات في منطقة اليورو خلال السنوات الأخيرة، يتضح أن اليونان قد نجحت في تحسين وضعها المالي بشكل ملحوظ، في حين أن فرنسا شهدت تدهوراً طفيفاً نسبياً.

قصة التحول: اليونان

بعد أن اجتاحت الأزمة المالية العالمية أوروبا في أواخر العقد الأول من الألفية، تعرضت اليونان لمحنة مالية شديدة، حيث تكشفت حقيقة الوضع المالي للبلاد، وارتفعت تكاليف ديونها بشكل كبير. وفي إطار استجابة لهذه الأزمة، حصلت اليونان على حزم إنقاذ من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي مقابل تنفيذ حزمة من الإجراءات التقشفية القاسية. ونتيجة لذلك، دخلت اليونان في ركود اقتصادي طويل دام لعقد من الزمن، بينما تعرضت لعدة فترات من عدم الاستقرار السياسي.

لكن الحكومة الحالية التي تنتمي إلى التيار الوسطي - اليميني نجحت في استعادة بعض الاستقرار الاقتصادي، حيث تمكنت من تحقيق فائض أولي في الموازنة، وهو ما مكنها من تقليص عبء الديون الضخم. كما شهد الاقتصاد اليوناني نمواً بنسبة 2 في المائة العام الماضي، وهو ما يعد تحسناً ملموساً.

ورغم أن فرنسا قد تحتاج إلى جرعة من العلاج المالي ذاته، فإنها تبدأ من نقطة انطلاق أقوى بكثير من اليونان. فاقتصاد فرنسا أكثر تطوراً وتنوعاً، ويبلغ حجمه أكثر من عشرة أضعاف الاقتصاد اليوناني. كما أكدت وكالة «ستاندرد آند بورز غلوبال ريتنغ» قبل أسبوعين تصنيف فرنسا الائتماني، مع التوقعات بأن تواصل البلاد جهودها في تقليص العجز في الموازنة. وأشارت الوكالة إلى أن «فرنسا تظل اقتصاداً متوازناً، منفتحاً، غنياً، ومتنوعاً، مع تجمع محلي عميق من المدخرات الخاصة»، وهو ما يعزز موقفها المالي.

الأمر الأكثر أهمية هنا هو أنه حتى في حال قرر المستثمرون الدوليون سحب أموالهم - وهو ما لا يوجد أي مؤشر على حدوثه - فإن فرنسا تملك إمداداً كبيراً من الأموال المحلية، يُمكِّنها من سد الفجوة المالية المتزايدة.

فعل كل ما يلزم

على الرغم من أن منطقة اليورو لا تزال تشهد تطوراً غير مكتمل، فإنه من المهم الإشارة إلى كيفية تعزيز النظام المصرفي في المنطقة منذ الأزمة المالية العالمية. كما ينبغي تذكر كيف أثبت البنك المركزي الأوروبي مراراً استعداده وقدرته على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الأزمات المالية في المنطقة. إلا أن ذلك لا يعني أن صانعي السياسات في باريس أو العواصم الأوروبية الأخرى يشعرون بتفاؤل مطلق بشأن التوقعات الاقتصادية للاتحاد.

ففي العديد من الجوانب، تبدو التحديات الاقتصادية التي تواجه فرنسا أقل حدة، مقارنة بتلك التي تواجهها ألمانيا، التي تعرضت حكومتها هي الأخرى لهزة قوية مؤخراً. ويعاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو من تداعيات سنوات طويلة من نقص الاستثمارات، حيث يواجه قطاعها الصناعي القوي سابقاً صعوبات حقيقية في التعافي. كما أن منطقة اليورو، التي شهدت تباطؤاً ملحوظاً في نمو إنتاجيتها، مقارنة بالولايات المتحدة على مدار السنوات الماضية، تواجه الآن تهديدات كبيرة بسبب الرسوم الجمركية التي قد تفرضها إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب.

لكن هذه التهديدات التجارية قد تكون هي التي تدفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ خطوة كبيرة أخرى في تطوره الاقتصادي. فالتاريخ يثبت أن الاتحاد يتخذ خطوات حاسمة عندما يُدفع إلى الزاوية. وفي وقت سابق، قدم ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، خطة لإصلاحات اقتصادية طال انتظارها، داعياً إلى استثمار إضافي قدره 800 مليار يورو سنوياً من قبل الاتحاد الأوروبي.

وقد لاقت هذه الخطة دعماً واسعاً من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، حتى أن رئيس البنك المركزي الألماني، المعروف بتوجهاته المتشددة، دعا إلى تخفيف القيود على الإنفاق في ألمانيا. وإذا أسفرت الانتخابات في ألمانيا وفرنسا عن حكومات أقوى العام المقبل، فقد يُتذكر عام 2025 ليس بوصفه بداية لأزمة جديدة في منطقة اليورو، بل بوصفه عاماً شهدت فيه المنطقة اتخاذ خطوة كبيرة نحو تحقيق النمو الاقتصادي المستدام.