بلاغة الربيع العربي بدلاً من خطابات النخب الأدبية والفكرية والسياسية

أكد المنجز الأدبي العربي الحديث قدرة المبدعين العرب على التجاوب مع الأحداث الكبرى، سواء على المستوى الوطني أو القومي، وحتى الدولي، والتي كان لها دور أساسي في رسم كثير من التحولات على صعيد المنجز الإبداعي، على أكثر من صعيد.
مرحلة «الربيع العربي»، آخر المحطات المؤثرة التي عاشتها المنطقة العربية في العصر الحديث، لها خصوصياتها، من منطلق أنها ارتبطت بسياقات كان المؤمل منها أن تغير وضع المنطقة نحو الأفضل، قبل أن تنحرف عن سكتها، لتتناسل الأسئلة الحائرة. وبالطبع، لا يمكن الحديث عن «الربيع العربي»، اليوم، دون استحضار الدور الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة، التي يسر استعمالها سبل التواصل ونقل عدوى الاحتجاجات، بشكل أكد، حسب تعبير المفكر الفرنسي إدغار موران، «القوة التحريرية» التي يتميز بها الإنترنت، من جهة أنه كان «وسيلة للتواصل، سمحت للشباب والجماهير بالتحرُّك فوراً»، ومن جهة أخرى، كونه فتح الباب أمام «حريّة المعرفة والمقاومة والتمرّد والصراع ضد الاستبداد».
إذن، كان هناك خطاب مختلف عن ذاك الذي عهدناه في المنطقة في المنعطفات التي مرت بها على الأقل منذ خمسينات القرن الماضي.
ما هي عناصر هذا الخطاب، وكيف تشكل؟
هذا ما يعالجه كتاب «البلاغة الثائرة... خطاب الربيع العربي... عناصر التشكل ووظائف التأثير»، الذي ضمَّ ستة عشر بحثاً، لكتاب من مصر وفرنسا والمغرب والأردن وفلسطين والكويت ولبنان والجزائر، التفت بعضهم إلى الدلالات المعجمية والأسلوبية للربيع العربي وشعاراته، والآخر اعتنى بخطاب الانكسار السياسي، وغيرهم بالنكت السياسية والكاريكاتير الساخر، بينما انصرف آخرون إلى فحص الخطاب الإعلامي.
يقول الدكتور سعيد العوادي في تقديمه للكتاب: «لا أحد ينكر أن الربيع العربي قد اقتلع الكراسي المتشبثة» غير أنه يستدرك سريعاً بقوله: «لكنه لم يظل ربيعاً كما أعلن عن نفسه، بل سرعان ما تحول إلى صيف حارق يكوي جلود المبشرين به».
عن فكرة كتاب «البلاغة الثائرة»، يذكر العوادي أنها «انبنت على ضرورة حضارية فرضها الحراك الشعبي الذي عرفه الشارع العربي في بقاع كثيرة ومختلفة من الوطن العربي، حيث خرجت الجموع الغاضبة مطالبة بالحقوق المهضومة والمؤجلة. فكان من نتائج ذلك الإطاحة بأنظمة ديكتاتورية جثمت على صدور مواطنيها ردحاً من الزمن». ويضيف أن «الحديث عن «مع الربيع العربي» أو «ضده» ليس هماً استراتيجياً عندنا؛ لأن هذا الكتاب ليس سياسي المنزع، وإنما هو بلاغي بالمعنى الحديث لكلمة بلاغة. ولذلك فما يهمه شيء مختلف تماماً. إنه يهتم بما أنتجه الربيع العربي من خطابات متعددة قد تكون هي وروده المتبقية. تلك الخطابات التي ألفها المواطن البسيط والمثقف ليعبر من خلالها عن رفضه لشرطه التاريخي من جهة، وتطلعه إلى قيم العدل والحرية والأمن والمساواة والكرامة من جهة أخرى».
يواصل العوادي تقديمه للكتاب بسخرية، تنقل، ربما، روح النكتة الساخرة التي رافقت ثورات «الربيع العربي»، فيقول: «ربما لن تذكر المعاجم مفردة الربيع في المستقبل المنظور وما يليق بها من الورود والأقاحي والبنفسج والياسمين، ولن يعود لها ذلك الألق الجميل الذي طالما احتفى به الشعراء والعشاق والأطفال. وقد تغيب عن مقرراتنا الدراسية قصيدة البحتري المتدفقة في وصف الربيع الضاحك».
بعد أن يضعنا في صورة الورود المتبقية عن هذا الربيع الذي تحول إلى كابوس، ويعلي من شأن «تلك الخطابات التي ألفها المواطن البسيط والمثقف ليعبر من خلالها»، سينقلنا العوادي إلى مستوى آخر من النقاش، الذي يحضر في أكثر البحوث التي تضمنها الكتاب، مشيراً إلى إنتاجات المواطن العربي التي شكلت «محفلاً خِطابياً نادر الوجود في مسيرة التاريخ العربي القديم والحديث سواء من حيث الكم أو النوع. فتنوعت إلى الهتاف والشعارات والجداريات والكاريكاتير والرسوم والنكت والخطب والأشعار والقصص والروايات والمسرحيات والأفلام»، كما يرى.
في ختام تقديمه، يدعونا العوادي إلى تعديل البوصلة والالتفات إلى مسارات جديدة وغنية للبحث. فـ«ما أحوج وطننا العربي إلى بلاغة تنزل من علياء السماء إلى أديم الأرض، فتفحص خطابات الناس الكثيرة كخطاب الباعة وخطاب المتسولين وخطاب اللصوص وخطاب التعليق الرياضي وخطاب العرافين وخطاب السائقين!».
في هذا السياق، يرى الدكتور عماد عبد اللطيف، أحد المساهمين في هذا المؤلف الجماعي، أن «بلاغة الجمهور» استهدفت، منذ تدشينها، «تمكين الجمهور من مقاومة الخطابات السلطوية التي تسعى لفرض هيمنة المتكلم أو سيطرته أو تلاعبه. وقاومت التصور المهيمن للبلاغة العربية بوصفها علماً يخدم المتكلمين الراغبين في إنجاز الإقناع والتأثير، اللذين استعملا عادة في الفضاءات السياسية العمومية لغرض السيطرة على السلطة، والاحتفاظ بها، وإضفاء الشرعية عليها».
من جهته، ينوه غسان إسماعيل عبد الخالق، في معرض تناوله لـ«بلاغة الشارع ومعجم ألفاظ الربيع العربي»، بحقيقة أن الباحث يعاين هذه اللحظة التاريخية، التي انفتحت أمام العرب ما بين نهاية عام 2010 حتى نهاية عام 2012. «من موقع الناقد الثقافي الذي يرى في انطلاقة الربيع العربي تجسيداً لمشهد تحققت فيه شروط تحطيم النسق السائد سياسيا وثقافياً، وبروز المخزون الشفوي، وتصاعد سطوة الشعار والإعلان والملصق والبيان السياسي والبرامج الإذاعية والتلفزيونية والنقد النسوي وتقدم وسائل التواصل الاجتماعي، وسواها من الممارسات الدالة، فضلاً عن تراجع أدب النخبة أمام أدب العامة».
في سياق الرؤية، يتحدث عماد عبد اللطيف عن «نقد مقاربة بلاغة الجمهور لخطابات الربيع العربي»، مشيراً، في هذا الصدد، إلى تعدد الانتقادات التي توجه إلى دراسة خطابات الجمهور في «الربيع العربي»، ومن ذلك قول بعضهم «لا بلاغة في كلام العامة!»، مشيراً، في هذا السياق، إلى انتقادات «تقليدية» تستند إلى دعوى التقليل من أهمية دراسة خطابات العامة عموما. إذ ترى أن دراسات البلاغة، والتواصل، وغيرها، يجب أن تعنى بالنصوص والخطابات التي تنطوي على قيم بلاغية، وجمالية معترف بها؛ أي خطابات النخب (الأدبية، والسياسية، والفكرية).
بالنسبة لعماد عبد اللطيف، دائماً، «لا يقتصر مفهوم البلاغة - وفقاً لبلاغة الجمهور - على الجمالي أو التزييني، أو المجازي من الكلام؛ بل تدرك البلاغة على أنها كل العلامات التي تنجز إقناعاً وتأثيراً. ومن ثم، فإن علم البلاغة هو العلم الذي يدرس العلامات التي تنجز الإقناع والتأثير؛ مهما تكن طبيعة هذه العلامات، وطبيعة منتجيها».
يجيء هذا الكتاب، الذي يحتفي ببلاغة الربيع العربي، في الوقت الذي يرى فيه كثير من المبدعين أن هذا الربيع العربي «لم ولن يستطيع أن يخلق أدبا»، وأنه «قد يخلق، فقط، لحظة صمت تجعل الكاتب يفكر بشكل أكثر جدية في أبعاد الكتابة».