المصالحة مع «طالبان» بين المطرقة والسندان

مؤشرات إيجابية إلى قدرة السلطات الأفغانية على تقويض «داعش»

مسلحون من {طالبان} خارج ولاية هلمند في أفغانستان («الشرق الأوسط»)
مسلحون من {طالبان} خارج ولاية هلمند في أفغانستان («الشرق الأوسط»)
TT

المصالحة مع «طالبان» بين المطرقة والسندان

مسلحون من {طالبان} خارج ولاية هلمند في أفغانستان («الشرق الأوسط»)
مسلحون من {طالبان} خارج ولاية هلمند في أفغانستان («الشرق الأوسط»)

«وعدتنا أميركا بالهزيمة واللهُ وعدنا بالنصر، فسننتظر أي الوعدين ينجز أولاً». من يقرأ مقولة زعيم {طالبان} الراحل الملا عمر يستنبط استحالة التوصل لمصالحة وطنية في أفغانستان، حتى وإن ظهرت بين الحين والآخر مساع للتوصل لمصالحة فإنها لم تنته في السابق بنجاح، بالأخص مع رفض حركة طالبان التصالح، وقناعة السلطات الأميركية ضرورة التخلص من الحركة.
كل ذلك يبدو وكأنه قد تم محوه في أعقاب تصريحات قائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال جون نيكلسون في مطلع يوليو (تموز) الماضي، إذ أكّد آنذاك حصول تفاوض سري ما بين مسؤولين في حركة طالبان ومسؤولين في السلطات الأفغانية من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وذلك في أول تواصل مباشر مع واشنطن في محادثات من أجل إحلال السلام في أفغانستان، الأمر الذي يؤكّد أن العلاقات ما بين الدول والتنظيمات لم تعد على نمط اللعبة الصفرية المحصلة، حيث لا يأتي ربح طرف إلا من خلال خسارة الطرف الآخر، وإنما بات الوضع أشبه بمحاولة التقارب من أجل وقف الصراع الدموي وتحقيق السلام، وإن كانت حيثياته قد جاءت نتيجة فشل القضاء على حركة طالبان لسبعة عشر عاماً من جهة، وظهور تنظيم داعش ليشكل ندّاً مباشرا لحركة طالبان في مواجهات ضارية، والأمر في الآونة الأخيرة يبدو أشبه بحلّ منطقي لجميع الأطراف.

تاريخ متأزم لحركة {طالبان}
ورغم ذلك فلا بد من وجود تساؤلات إن كان الحوار مع حركة طالبان مجدياً لا سيما نتيجة التاريخ المتأزم القديم لحركة طالبان في أفغانستان، منذ أن احتلّت كابل في سبتمبر (أيلول) 1996. بغض النظر عن ذلك، فإن اللافت أن في غضون المفاهمات بين الطرفين، يتضح إحراز حركة طالبان والسلطات الأفغانية تقدماً ملحوظاً في عراكهما مع تنظيم داعش في خرسان، حيث ذكر الناطق باسم حركة طالبان ذبيح الله مجاهد مقتل ما يزيد على 153 من أعضاء تنظيم داعش في خرسان على أيدي الحركة الطالبانية وقد قال بأن «ظاهرة «داعش» الخبيثة انتهت وتحرر الناس من عذاباتها في إقليم جوزجان» في شمال أفغانستان، فيما سلم ما يزيد على 200 «داعش»ي بمن فيهم قائدان أنفسهم للقوات الأفغانية فضلوا القيام بذلك بدل أن يتم القبض عليهم من قبل حركة طالبان.
ورغم أن حركة طالبان في فترة حكمها منذ سبتمبر 1996 وحتى عام 2001 أظهرت موقفها المتشدد في النهج الديني وفي التعامل مع المدنيين الأمر الذي وصل إلى النظام التعسفي ومحاكمة الآخرين وتقييد حرياتهم، ما تسبب بانتفاضة شعبية ضد الحركة. وفي أعقاب سقوط حكم طالبان عام 2001. أصبحت تنظيما مسلحاً يختبئ في المنطقة الجبلية الوعرة، الأمر الذي تسبب فيما بعد بسلسلة من الأحداث الإرهابية التي لم تمس القوات الأمنية أو الجنسيات التي تعتبرها مناوئة لها فحسب، وإنما تضرر منها الشعب الأفغاني برمته، وإن كانت حركة طالبان في بداية تأسيسها قد حرمت قتل المدنيين المسالمين، وتحرص على عدم المساس بالشعب الأفغاني، إلا أنها استمرت حتى إبان تحديد فترات للهدنة مع السلطات الأفغانية في تصريحاتها عن مساعيها مهاجمة القوّات الأجنبية في أفغانستان، الأمر الذي لا بد من معالجته حين تتم مناقشة المصالحة التي تهفو إليها السلطات الأميركية، وإن كانت تعتزم الانسحاب من الأراضي الأفغانية فوراً أم أن ذلك سيكون تدريجياً، إذ تتشابه حركة «طالبان» مع تنظيم «القاعدة» من حيث شيطنة أميركا وقوات «الناتو»، وتحويل كل منهما إلى العدو «الكافر» الذي لا بد من القضاء عليه، والتشديد على أهمية مغادرتهما للبلاد. وقد صرح زعيم حركة طالبان السابق في مناسبات كثيرة برفضه للمصالحة وإصراره على ضرورة مغادرة قوات الناتو لأفغانستان.

مبدأ «لا تفاوض مع الإرهابيين»
شاعت في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر سياسة رفض أغلب الدول المناوئة للإرهاب، التفاوض مع التنظيمات المتشددة، وبالأخص الولايات المتحدة، وقد برزت مقولات شائعة للرئيس الأميركي السابق جورج بوش الذي يندد بالإرهاب، ويذكر أهمية تعامل الدول جميعها مع التنظيمات الإرهابية بعنف وقد قسم العالم إلى قطبين أحدهما هو «محور الشر»، بالأخص وأن تصاعد الهجمات في تلك الحقبة حمل هالة إعلامية كبيرة، جعلت مجرد فكرة التفاوض معهم أشبه بالإذعان لهم وتأكيد شرعيتهم وإظهار الضعف، وإعطائهم الفرصة لتحقيق أهدافهم وللتمادي بالبطش بالآخرين أكثر.
إلا أن حالات كثيرة أكّدت أن الواقع يحتّم حدوث مصالحات مع التنظيمات المتطرفة من أجل تحقيق السلام.
سياسة عدم التفاوض مع المتطرفين برزت نتيجة صعوبة وضوح رؤى التنظيمات الإرهابية وهيكلها التنظيمي، بل وزاد ذلك ليصل في الآونة الأخيرة للتعتيم حتى على قادة التنظيمات وعدم ظهورهم الإعلامي بوفرة، مثل ما حدث مع تنظيم داعش مؤخراً. ورغم جدية الحكومات في قيامها بمساعي المصالحة في عدة حالات، إلا أنه يستحيل تصور إمكانية حدوثه مع التنظيمات الإرهابية التخريبية العابرة للحدود والمكونة من جنسيات متنوعة، وإن كانت القضية شائكة، فتنظيم داعش في خرسان على سبيل المثال يضم أعضاء كانوا في السابق ينتمون لحركة طالبان وقرروا الانسحاب منها والانضمام للتنظيم الآخر. وقبل ذلك قد حصل تنظيم «القاعدة» على ملاذ آمن في كنف حركة طالبان، الأمر الذي يحتّم في حال الوصول إلى تسوية ضرورة التأكيد على عدم إيواء التنظيمات المتطرفة في أفغانستان إلى جانب عدم استخدام الأسلحة وإن لم تكن هناك أي ضمانات لذلك.
ومن المقاربات التي يمكن أن تتشابه مع الأزمة الأفغانية مع حركة طالبان وطول فترتها، تفاوض الحكومة الكولومبية مع الحركة اليسارية المتمردة «فارك» أو «القوات المسلحة الثورية الكولومبية»، التي تأسست في عام 1964. ورغم حجم الضرر وعدد الضحايا الكبير من المدنيين، إلا أن الحكومة الكولومبية توصلت إلى مصالحة في 24 أغسطس (آب) 2016 حين تم التوصل إلى اتفاق للسلام. لم يكن هناك أي تصور بأن بإمكان زعيم حركة «فارك» رودريغو لوندونو أن يقول وسط احتفال رسمي في كولومبيا: «وداعاً للأسلحة، وداعاً للحرب، مرحباً بالسلام». أو أن يتم تسليم الأسلحة وصهرها في نصب تذكاري للسلام بعد سنوات تسببت بقتل أعداد كبيرة من الشعب الكولومبي.
من جهة أخرى فرغم تعهد رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر بعدم التفاوض مع الإرهابيين، إلا أنها خاضت مفاوضات مع الجيش الجمهوري الآيرلندي، وهي أحد أبرز الصراعات في بريطانيا، إذ استمرّت لفترة طويلة، وقد تشكل الجيش الجمهوري الآيرلندي في عام 1919 بهدف استقلال آيرلندا عن التاج البريطاني، واستمرت فيما بعد ذلك على نسق حرب العصابات واستخدام العنف لتحقيق هدفها.
وقد تأرجحت مساعي إحلال السلام مرات كثيرة، فشلت إحداها في يوليو 1972. وتلا ذلك أحداث يوم الجمعة الدموي في بلفاست حيث تم تفجير 22 قنبلة في غضون ثماني دقائق، ولم ينته هذا الصراع إلا في عام 2005 في فترة رئيس الوزراء السابق توني بلير، حين أعلن الجيش الجمهوري الآيرلندي إنهاء كل أنشطته العسكرية وأن مساعيه كلها سيتم تحقيقها من خلال الوسائل السياسية.
وإذا ما اختلفت توجهات كل من «فارك» الكولومبية اليسارية والجيش الجمهوري الآيرلندي الذي هو في الأساس نتاج صراع بروتستاني - كاثوليكي، إلا أنها تتشابه مع حركة طالبان بمدى تأزمها وطول فترتها وتعقيد تركيبتها التي تتداخل مع المجتمع، على نسق حركة طالبان المكونة من قبائل الباشتون التي تملك نفوذاً وقدرة على أعمال العنف وزعزعة الأمن.
وقد ظهر التوجه الدولي للمصالحة الأفغانية في الآونة الأخيرة من خلال عدة مساع، أبرزها مبادرة الملك سلمان بن عبد العزيز لتمديد الهدنة ما بين السلطات الأفغانية وحركة طالبان فترة عيد الفطر، وفيما بعد تعزز الاهتمام السعودي نحو مصالحة أفغانية من خلال المؤتمر الدولي للعلماء المسلمين حول السلم والاستقرار في أفغانستان والذي انعقد في مدينتي جدة ومكة المكرمة في 10 و11 يوليو لهذا العام، حيث تم التأكيد على أهمية الحوار الوطني بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان.
مثل هذه المصالحة من جهة أخرى تأتي من أجل إيقاف التقاتل الذي وقع ضحيته المدنيون في أفغانستان، وقد ظهرت أول بوادر إيجابية في قدرة السلطات الأفغانية على تقويض قوة تنظيم داعش في أفغانستان إلى جانب حركة طالبان.
من جهة أخرى قد يختلف النظر إلى المصالحة وقابلية أعضاء حركة طالبان وقف النزاع والاندماج حسب مكانة أعضاء حركة طالبان وموقعهم في الهرم القيادي، حيث يسهل التعامل مع الأعضاء كلما هبطوا في أسفل الهرم. ورغم ذلك فإنه من الحري أن يكون التوصل إلى المصالحة مع تأكيد لوقف إطلاق النار والاعتداء على المدنيين، أو إيواء الجماعات المتطرفة، وإن كانت لا توجد أي ضمانات على نبذ العنف، إلا أنه من المؤكد أن ستة عشر عاماً من محاولة التخلص من حركة طالبان من دون جدوى تحتم ترجيح كفة المصالحة كتمهيد لتحقيق السلام في أفغانستان.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.