أوروبا وأفريقيا... صفحة جديدة أم إحياء للجدل الاستعماري؟

قضية التراث الثقافي الموجود في متاحف الغرب تتفاعل من جديد

منحوتات أفريقية موجودة في المتاحف الأوروبية
منحوتات أفريقية موجودة في المتاحف الأوروبية
TT

أوروبا وأفريقيا... صفحة جديدة أم إحياء للجدل الاستعماري؟

منحوتات أفريقية موجودة في المتاحف الأوروبية
منحوتات أفريقية موجودة في المتاحف الأوروبية

كيل مونجر، أحد أبطال فيلم «بلاك بانتير»، يعثر على قطع أثرية أفريقية في متحف بلندن، وحين يسأل مديرة المتحف عن السعر، تجيبه هذه الأخيرة: «ولكن هذه القطع ليست للبيع يا سيدي». فيجيبها البطل الأفريقي: «صحيح... لا سيما أنكم لم تدفعوا شيئاً للحصول عليها...».
المشهد غني عن التعبير، ويحمل دلالة رمزية قوية على أن واقع التراجيديا التي أصابت كثيراً من الدول الأفريقية هو في الواقع أكثر مأساوية. تحف وقطع أثرية بالآلاف سلبت منها غصباً إبان حقبتها الاستعمارية، لينتهي بها المطاف على رفوف متاحف أوروبا تزين أروقتها وتستقطب لها ملايين السيّاح والمداخيل، بينما لا تزال هي نفسها تتخبط في مستنقع الفقر والتخلف منذ عقود.
قضية وجود التراث الأفريقي في متاحف الغرب يفتح الباب لتساؤلات أساسية: ماذا لو كانت المتاحف التي دُشنت تحت راية «المصالحة بين الشعوب» و«الثقافة العالمية»، هي في الواقع شعارات جوفاء مبنية على وهم كبير قائم على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، على النهب والسّرقة وطمس الهويّة؟ هل إرجاع الغرب للقطع الأثرية المنهوبة من أفريقيا محاولة لفتح صفحة جديدة، أم تقليب للمواجع وإحياء للجدل الاستعماري؟
منذ بضعة سنوات تسارعت وتيرة مطالبة الدول الأفريقية مستعمريها القدامى بإرجاع قطعها الأثرية المنهوبة، كما فعلت جمهورية بنين التي بعثت بأول طلب رسمي (في تاريخ العلاقات الفرنسية الأفريقية) عام 2016، للمطالبة بكنوز مملكة «داهومي» (نحو أربعين قطعة) أو بصفة غير رسمية كما تفعل نيجيريا ومالي والسنغال ومصر والجزائر. الأرقام تؤكد النزيف الذي تعرضت له القارة السمراء: 90 في المائة من القطع الأثرية موجودة حالياً خارج حدود القارة السمراء، حسب وزيرة الثقافة المالية السابقة، أميناتا تراوري. خبير الفن البلجيكي، ديديي كليس، يذهب في حوار مع صحيفة «لوموند» لأبعد من ذلك، متحدثاً عن نسبة 99 في المائة.
الجدل حول هذا الموضوع عاد من جديد، بعد الضجّة التي أحدثها إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إثر جولته الأفريقية في 28 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، في جامعة واغادوكو قائلاً: «لا يمكن للتراث الأفريقي أن يظل حكراً على المعارض الخاصّة والمتاحف الأوروبية... يجب علينا تعزيز قيمته، ليس فقط في باريس، ولكن أيضاً في داكار ولاغوس وكوتونو... سوف أجعل من هذه القضية إحدى أولوياتي، وأتمنى أن نهيئ في ظرف خمس سنوات كل الظروف المناسبة لعودة القطع الأفريقية لمواطنها الأصلية». تلا الإعلان السياسي إجراءات عملية تمثّلت في تعيين خبيرين هما: الباحثة في التاريخ، بنيديكت سافوا، والكاتب والجامعي السنغالي فيلوين سار. ومهمة الاثنين رصد خريطة بأهم القطع الأثرية، وتاريخ وحيثيات وجودها بالمتاحف الفرنسية، ومن ثم البحث في سبل التنسيق مع المسؤولين الأفارقة، للتأكد من عودتها في أحسن الظروف لمواطنها الأصلية.
القرار أثار مخاوف أمناء المتاحف؛ لأنه يهدد مؤسسات متحفية بأكملها. الأول على القائمة هو متحف «كي برانلي» للفنون والحضارات الأفريقية والآسيوية، الذي يحوي 70 ألف قطعة أفريقية المصدر، ويستقبل سنوياً نحو مليون ونصف مليون زائر. متحف اللوفر أكثر المتاحف زيارة في العالم، برقم قياسي يتعدى 8 ملايين زائر، مهدد هو الآخر، علماً بأن الجناح المخصص للآثار المصرية مثلاً يضم أهم القطع الفرعونية في العالم، إلى جانب متحف القاهرة و«البريتيش موزييوم» بـ78 ألف قطعة، 6500 منها معروضة حالياً داخل أروقة المتحف.
تجارب الدول الأخرى
تقول بنيديكت سافوا، الباحثة والمسؤولة في متحف برلين: «الأشياء تبدو مختلفة من وجهة نظر جيراننا الأوروبيين... فالأوساط الثقافية الألمانية تركز منذ العشرية الأخيرة على البحث في المصادر، وإعادة كتابة تاريخ المجموعات الأثرية وجرد الأرشيف، كخطوة أولى قبل الحديث عن إرجاع التحف لأصحابها».
دول أخرى كبريطانيا أصبحت تعرض إعارات طويلة المدى، وهو ما فعله متحف ألبير وفيكتوريا؛ حين طالبته الحكومة الإثيوبية بإرجاع كنوز الإمبراطور الحبشي تيودوروس. وكسابقة أولى من نوعها قدمت بريطانيا اعتذارات رسمية وتعويضات مادية بلغت 20 مليون جنيه، لقبائل «كيكويو» الكينية، التي واجهت النهب إثر الحملات التبشيرية التي عرفتها في السنوات الخمسين.
على أن معظم عمليات «الاسترداد» التي تمت، كانت في إطار اتفاقية اليونيسكو عام 1970: ألمانيا أعادت في مارس (آذار) 2018 عدة قطع أثرية للمكسيك، يعود تاريخها إلى 3000 سنة، بعد عشر سنوات من التحقيق، وسويسرا أرجعت في يونيو (حزيران) 2015 نحو 32 قطعة فرعونية لمصر.
هل أفريقيا مستعدة فعلاً
لاستقبال تراثها؟
يكتب الباحث في علم الاجتماع النيجيري أوزودينما إيفالا، على صفحات جريدة «لوموند»: «إذا كانت أوروبا صادقة في نيتها فتح علاقات جديدة مع أفريقيا، فعليها أولاً التخلي عن فكرة (أنا من يُعطي) واستبدالها بفكرة (هذا لكم، لي الشرف بأن أعيده لكم من جديد)، كفانا من العقلية الاستعمارية التي تعتبر الرجل الأفريقي قاصراً لا يستطيع تحمل المسؤولية». عبارات الباحث النيجيري هي ضمناً ما يقدمه الأوروبيون من حجّة لتفسير تحفظاتهم. والخُلاصة أن أفريقيا غير مستعدة بعد لاستقبال ثرواتها الفنية والتاريخية لانعدام الكفاءات اللازمة، وانعدام الاستقرار السياسي والأمن. هذه الحجج، حسب لوي جورج تان، رئيس المجلس الممثل لجمعيات السود بفرنسا: «في منتهى السخافة، وكأن اللص الذي سرق منك مجوهراتك يجيبك بأنه لن يرجعها لك؛ لأن خزنتك ليست آمنة بما فيه الكفاية».
البعض يرى أيضاً أن الساسة الأفريقيين يستغلون هذه القضية لأغراض سياسية بحتة، والدليل أن كل الوعود التي تقدمت بها الحكومات بتشييد متاحف وطنية لم تتحقق. القصر الملكي بؤومي الذي يدخل ضمن تصنيف التراث العالمي، تُرك من دون أي رعاية، حتى تعرّض لحريق كبير دمر جزءاً منه.
يضيف أوليفي بوافر دارفور، الكاتب والدبلوماسي الفرنسي: «إذا عادت هذه القطع، فهل تجد من يهتم بها؟ وكيف سيتم الاهتمام بها والمحافظة عليها من التلف؟ فعندما نزور قصور الملك جيزو في بنين، نكتشف أن هذه الأماكن الساحرة لم تعد إلا جدراناً فارغة في وضعية يرثى لها. لا أحد يزورها لأنها لا تحوي شيئاً. فإذا كان المسؤولون الأفارقة صادقين في طلبهم، فأولى الخطوات التي يجب اتخاذها هي الاهتمام أولاً بما تبقى من التراث من الداخل، والاهتمام بوزارة الثقافة».
غياب التعاون مع الأوروبيين هو أيضاً ما ينقص المؤسسات الأفريقية. التجربة الوحيدة قامت بها المنظمة الخيرية «زانسون» للفنون الأفريقية، التي أمضت اتفاقيات شراكة مع متحف «كي برانلي» لعرض بعض القطع في متحفها بمدينة «ويداه»، وتنظيم زيارات مستمرة لشباب المدارس والثانويات لتمكينهم من التعرف على تراث أجدادهم. وقد نجحت حتى الآن في اجتذاب نحو 4 ملايين زائر.
العراقيل القانونية
الإطار القانوني الوحيد المعترف به فيما يخص مسألة تنقل الممتلكات الثقافية هي «اتفاقية اليونيسكو لمنع استيراد وتصدير وتنقل الممتلكات الثقافية لعام 1970». على أن القوانين التي تحكم ملكية التراث الثقافي هي نوعان: المعمول بها في الدول ذات التقليد الأنجلو سكسوني، والتي تعتمد قاعدة استحالة توريث عقد ملكية تالف، وهو ما سمح مثلاً - بعد سنوات من المعارك القانونية - بإرجاع 5 لوحات للفنان غوستاف كليمت، لأصحابها الشرعيين. النوع الثاني يعتمد القانون المدني، كفرنسا مثلاً التي تعتبر التراث الثقافي الموجود داخل متاحفها ممتلكات وطنية، لا يمكن التصرف فيها أو الاستغناء عنها.
المحامية المتخصصة كورين هيرزوكوفيتش تشرح في كتابها «إرجاع التحف الفنية» (دار نشر «هازان»): «هناك تقليد قديم في فرنسا سائر المفعول منذ القرن الخامس عشر، يقضي باعتبار كل القطع الأثرية التي تدخل متاحفنا تراثاً وطنياً يقع تحت مبدأ عدم قابلية التصرف والتقادم أو الانتزاع. بمعنى ألا أحد بمقدوره إصدار قرار بإرجاع القطع وتنفيذه بين ليلة وضحاها، وهو ما حدث حين قررت فرنسا إرجاع أقنعة (ماووري) التي كانت نيوزيلندا تطالب بها، حيث استغرق النقاش في البرلمان أسابيع، قبل أن تقرر لجنة التفكيك (تغيير القانون) لإخراج الأقنعة من نطاق (الملك العام) وإرجاعها لموطنها الأصلي».
جغرافيا ثقافية جديدة
«فتح باب النقاش في هذا المجال لا يخصّ الثقافة فقط؛ بل هو متعلق أيضاً بالتاريخ، والسياسة، والقانون، والأخلاق، والاقتصاد، وهو حتماً سيعود على الجميع بالفائدة»، تقول الباحثة بنيديكت سافوا، «المهم هو ألا نقع في فخ إحياء الجدل الاستعماري. وأول خطوة يجب على الغرب اعتمادها، الاعتذار عن تجاهله للدول التي ظلّت تطالب بكنوزها منذ سنوات دون أن تلقى أي ردّ، ثم إشراكها في كل مراحل إعادة التحف الأثرية».
يضيف الباحث السويسري ميشال شيروتي: «من المهم إعادة التراث التاريخي لأصحابه ببساطة؛ لأن الهوية لا تبنى إذا كان التاريخ غائباً. لقد أخذنا من هؤلاء جزءاً من تاريخهم حين أخذنا معنا تراثهم الفني، استرداد هذا الجزء سيساعدهم على إعادة بناء هويتهم والانفتاح أكثر نحو الآخر. السؤال الذي يبقى مطروحاً متعلق بمصداقيتنا وحجم المساعدات التي سنضعها في يد هؤلاء، لكي يجتازوا العراقيل الأولى بسلام».
بعيداً عن المسألة السياسية والثقافية، فإن استرجاع القطع الأثرية حسب رئيس جمهورية بنين، باتريس تولون، قد يعتبر بمثابة أداة فعالة لمحاربة الفقر، وخلق فرص عمل جديدة، مما سيسمح لقطاع السياحة بالانتعاش.
لوي جورج تان، رئيس المجلس الممثل لجمعيات السود بفرنسا، يلخص الفكرة: «لا يمكن لـ(الحوار بين الثقافات) أن يسير جنباً لجنب مع (النهب بين الثقافات). نحتاج اليوم لعلاقة تكافؤ وسلام بين الشرق والغرب، وهذا لن يتم إلا بعد أن نسترجع ما سُرق منا».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!