واشنطن تقلص برامج تدريب عسكريي باكستان

إدارة ترمب تسعى إلى الضغط على إسلام آباد لمحاربة الجماعات المتشددة في أراضيها

TT

واشنطن تقلص برامج تدريب عسكريي باكستان

تواجه العلاقة الأميركية - الباكستانية هذه الأيام حالة من الجمود السياسي، الذي قد يهوي بها إلى تراجع كبير خلال الأيام المقبلة من فترة الرئيس دونالد ترمب الرئاسية، فبعد عام كامل من السعي المتواصل في أروقة الكونغرس والبيت الأبيض، بدأت الإدارة الأميركية تقليص برامج تعليم وتدريب عشرات الضباط الباكستانيين، وهي برامج ظلت سمة مميزة للعلاقات العسكرية بين البلدين خلال أكثر من عشر سنوات.
وبحسب وكالة «رويترز» الإخبارية، فإن إدارة الرئيس دونالد ترمب بدأت «بهدوء» في تقليص البرامج العسكرية والتدريبية، والتي لم يعلن عنها بعد، ووفقاً لعدد من المسؤولين الأميركيين قالوا للوكالة، إن الهدف من هذه الخطوة التي اتخذتها واشنطن هو للضغط على إسلام آباد إلى شن حملة على المتشددين في أراضيها، بيد أن وزارة الدفاع الأميركية وكذلك الباكستانية لم يعلقا على ذلك الأمر حتى الآن.
وأوضح مسؤولون أميركيون ل«رويترز»، إنهم يخشون من أن يكون من شأن هذه الخطوة تقليل الثقة بين الجانبين، وحذر مسؤولون باكستانيون من أن تدفع هذه الخطوة الجيش الباكستاني للتقرب من الصين أو روسيا سعيا للتدريب على القيادة العسكرية، فيما أبان متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ل«رويترز» إن رفع اسم باكستان من برنامج التعليم والتدريب العسكري الدولي التابع للحكومة الأميركية (آي إم إي تي) من شأنه غلق الأماكن التي خصصت لستة وستين ضابطا باكستانيا هذا العام، وسوف تبقى تلك الأماكن شاغرة أو تمنح لضباط من دول أخرى.
وقال مسؤولون أميركيون حاليون وسابقون إن وزير الدفاع جيم ماتيس رفض استبعاد الضباط الباكستانيين من برامج التعليم والتدريب العسكري الأميركية. وقال مسؤول دفاعي أميركي سابق شارك في الأحاديث حول هذا الموضوع: «أشعر بصدمة... لقد عملنا بقوة من أجل الإبقاء على هذا الشيء الوحيد».
بدوره، حذّر دبلوماسي باكستاني سابق من أن تكون إسلام آباد «كبش الفداء» للمأزق الأميركي في أفغانستان، وذلك بسبب التخبطات الداخلية المضطربة في أفغانستان من قبل أميركا والحكومة الأفغانية.
وأفاد الدبلوماسي السابق (فضّل عدم ذكر اسمه) لـ«الشرق الأوسط» بأن التغاضي عن أفغانستان وتعليق اللوم الكامل على باكستان من أجل الوضع في أفغانستان ليس عادلاً ولا دقيقاً، كما أنه لا يمت للحقائق الواقعية، مستنكراً من إدارة الرئيس ترمب السعي في تقليص البرامج العسكرية والتدريبات كرد فعل للوضع في أفغانستان.
وأضاف: «يجب أن تأخذ الحكومة المقبلة على عاتقها مسؤولية تحسين العلاقات الأميركية الباكستانية، وإعادة البرامج التدريبية والعسكرية إلى ما كانت عليه في السابق، وعدم التصعيد فيما يخص محاربة الإرهاب والوضع الحالي في أفغانستان».
من جهته، قال مصدر مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية ل«رويترز»، إن القيمة المالية لإلغاء تدريب الضباط الباكستانيين تقدر بمبلغ 2.41 مليون دولار حتى الآن. وأضاف أن هناك برنامجين آخرين تأثرا. ومن غير الواضح بالتحديد أي مستوى من التعاون العسكري ما زال باقيا بين البلدين خارج برنامج (آي إم إي تي) بخلاف الاتصالات رفيعة المستوى بين القادة العسكريين الأميركيين والباكستانيين.
ولطالما سعى الجيش الأميركي إلى إبعاد مثل هذه البرامج التعليمية عن التوترات السياسية، مشيرا إلى أن الصلات التي تقام من خلال استقدام ضباط أجانب إلى الولايات المتحدة لها فوائد على المدى البعيد. وأضاف: «على سبيل المثال تتباهى كلية الحرب التابعة للجيش الأميركي في كارلايل في بنسلفانيا والتي يدرس فيها ضابطان باكستانيان كل عام بأن من بين خريجيها الجنرال نافيد مختار، المدير العام الحالي لجهاز المخابرات المشتركة الباكستاني القوي».
وتقول كلية الحرب، وهي أهم كلية في الجيش الأميركي لتعليم الضباط الأجانب، إن 37 ضابطا باكستانيا تعلموا فيها خلال العقود الماضية، ولن يكون هناك طلاب من باكستان فيها في العام الدراسي الجديد، إذ تم رفع باكستان أيضا من برامج في كلية الحرب البحرية الأميركية وكلية الأركان البحرية وبرامج تشمل دراسات الأمن الإلكتروني.
وتعود الأزمة الحالية وتطوراتها إلى العام الماضي، والتي بدأت عندما رعى النائب الجمهوري تيد بوي رئيس لجنة الشؤون الخارجية لمكافحة الإرهاب في مجلس النواب، تشريعاً لاقى تأييداً من إدارة الرئيس دونالد ترمب للحد من وضع باكستان كحليف رئيسي للولايات المتحدة والحد من وصولها إلى الأسلحة الأميركية الصنع، مقترحاً قانوناً يلغي وضع باكستان كحليف كبير غير حلف الناتو.
وتأتي هذه الخطوة وسط تقارير متعددة ترى بأن إدارة الرئيس ترمب ستضغط على إسلام آباد للقضاء على المسلحين الذين يتخذون من باكستان مقرا لهم مثل شبكة حقاني وغيرها، وقال بوي في عرض مشروع القانون العام الماضي، «إن باكستان يجب أن تكون مسؤولة عن الدم الأميركي بين يديها، إذ عملت منذ سنوات كحليف للولايات المتحدة، في حين أنها أوت أسامة بن لادن لدعم حركة طالبان، ورفضت باكستان بعناد أن تعاقب الإرهابيين الذين يسعون بنشاط إلى الإضرار بآيديولوجيات معارضة لأميركا، بأي شكل من الأشكال، لذلك يتعين على الولايات المتحدة قطع الحلف مع باكستان ومعاملتها كحليف، أو على الأقل وقف تزويدها بالأسلحة المتطورة». الأمر الذي رفضه السيناتور الجمهوري بوب كوركر رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، لكنه أعرب عن أمله في أن تتخذ إدارة ترمب موقفا أكثر صرامة تجاه باكستان حول دعمها المزعوم لشبكة حقاني.
وقال كوركر: «لقد أنفقنا مليارات ومليارات الدولارات من الدافع الضريبي تجاه بلادهم، وأنا بالتأكيد غير راض، فالتهديد الأول للجنود الأميركيين هو شبكة حقاني، وباكستان تسمح لها أن تكون بلادهم ملاذا آمنا لهم». يذكر أن باكستان تتمتع بتحالف قوي مع أميركا كحليف غير الناتو منذ عام 2004، إلا أنها تواجه الآن بعض الصعوبات مع الرئيس ترمب الذي يميل نحو الهند أكثر من باكستان في كثير من تصريحاته، بيد أن الرئيس الأميركي جورج بوش وضع باكستان في قائمة الحلفاء خارج الناتو، وذلك لحصول باكستان على مساعدات الولايات المتحدة في حربها على القاعدة وطالبان.
وهذا الوضع يجعلها مؤهلة لتقديم المواد الدفاعية على سبيل الأولوية، وعملية بيع الأسلحة العاجلة، وبرنامج ضمان القروض الأميركية الذي يدعم القروض التي تصدرها المصارف الخاصة لتمويل صادرات الأسلحة. كما يمكنها من تخزين المعدات العسكرية الأميركية، وأن تشارك في برامج البحث والتطوير في مجال الدفاع وأن تباع أسلحة أكثر تطورا.
وقد أصبحت باكستان منذ ذلك الحين أحد المستفيدين الرئيسيين للمساعدات الخارجية الأميركية، ووفقاً لصحيفة الدفاع الأميركية فإن الكونغرس الأميركي خصص أكثر من 18 مليار دولار كمساعدات لباكستان بين عامي 2002 و2015، بما في ذلك 7.6 مليار دولار كمساعدات أمنية. ووفقا للبيانات التي جمعها مركز السياسة الدولية بواشنطن، تم إخطار الكونغرس في عام 2014 بإجمالي مبيعات الأسلحة الرئيسية لباكستان التي تجاوزت 600 مليون دولار، وفي عام 2015، كان هناك ما يقرب من مليار دولار من مبيعات الولايات المتحدة لباكستان، بما في ذلك طائرات الهليكوبتر الهجومية فايبر وصواريخ هيلفاير، وذلك الدعم المالي من الولايات المتحدة يأتي تحت التمويل العسكري الأجنبي.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟