كتاب وشعراء ونقاد مصريون: نحنّ إلى أجواء رمضان التراثية

يكشفون عما يفتقدونه في الشهر الفضيل

كتاب وشعراء ونقاد مصريون: نحنّ إلى أجواء رمضان التراثية
TT

كتاب وشعراء ونقاد مصريون: نحنّ إلى أجواء رمضان التراثية

كتاب وشعراء ونقاد مصريون: نحنّ إلى أجواء رمضان التراثية

لشهر رمضان تأثير كبير على طفولة وتشكيل كثير من الكتاب والشعراء بأجوائه التراثية، والقصص التي كانت تروى في لياليه، التي حلت محلها الآن المسلسلات التلفزيونية كالسيرة الهلالية وغيرها، قد ساهمت في تنمية تغذية الخيال، وما يثيره من تداعيات، وحببت لنا القص الجميل الذي ظل لفترة طويلة مرتبطا بطقوس شهر رمضان، وعاداته اليومية.
هنا كتاب وشعراء ونقاد مصريون يتحدثون عن تأثيرات رمضان عليهم في فترة النشأة الأولى، وما يفتقدونه الآن في شهر رمضان وطقوسهم الكتابية في هذا الشهر.

* الشعر ورمضان
الشاعر عبد الرحمن الأبنودي رجع بذاكرته إلى أيام سحيقة، كاشفا عن مشاعره في شهر رمضان بقوله: «عبر كل هذا الزمان لم أسعد إلا برمضان في طفولتي وهو صاحب الأثر الأكبر في حياتي للآن، حيث لم يكن هناك تلفزيون ولا راديو ولا حتى ساعة ولكنه كان عظيم الشأن فكنا في الطفولة ونحن في تلك القرية البعيدة في أقاصي الصعيد الأعلى بمحافظة قنا نتحلق بعد العصر في أجواء شديدة الحرارة. ولكننا لم نكن نشعر بالحر لانشغالنا باللعب واللهو مع أطفال القرية في ساحة مسجد صغير من دون مئذنة، إذ كان شيخه رجلا ليس له صوت - فقده في حادث - وهو عم الشيخ رفاعي. وكنا نذهب إليه ساعة الغروب ونلتف حول المسجد ونترقبه وهو يصعد لسطح مبنى المسجد حتى يكون بيننا وبينه مسافة ثلاثة أمتار. ونشرئب كلما أخرج ساعته من جيبه كل فترة ثم ننطوي من جديد وهو يدخلها. وعندما تحين اللحظة التي ينظر فيها لساعته ثم يضع يديه على أذنيه ندرك أنه يؤذن لصلاة المغرب وأن وقت الإفطار قد حان! ونقوم نحن بدور أجهزة الإعلام في إخبار أهل القرية بقدوم الإفطار. وكنا نسير على نور السماء فلم تكن هناك كهرباء وكنا نغنى وقتها «افطر يا صايم على الكعك العايم» أي العائم في السمن على الرغم من فقرنا الشديد وعدم وجود هذا السمن عندنا لكنها كانت أمنيات طفولية في أغنياتنا. وما زلت أفرح من كل قلبي حينما أتنسم عبير ذكريات تلك الأيام ومنها تكونت شخصيتي ونما إحساسي بالبيئة، الذي عكسته أعمالي. ولا أنسى ليالي رمضان التراثية وحكاويها الجميلة وشاعر الربابة الذي أثر كثيرا في نفسي وقد قضيت 40 عاما أجمع السيرة الهلالية من كل الأنحاء فالتراث هو أجمل ما أخذته من رمضان. الآن أصبح رمضان «حاجة تانية» وأصبح أسوأ في بلدنا بالصعيد لافتقادهم هذه النزعة التراثية بعد أن سيطر التلفزيون على الأجواء الريفية فأفسدها. وعن نفسي فللأسف الشديد لم تعد حالتي الصحية تسمح لي بأن أعيش تلك الأجواء وأصبحت أكتفي بالقراءة والكتابة وبعض اللقاءات الرمضانية مع الأصدقاء الذين أستقبلهم من حين لآخر هنا في بيتي الكائن بقرية الضبعية الموجودة على أطراف الإسماعيلية لنستحضر معا رمضان في ذلك الزمان.

* فرصة لإطلاق الروح
أما الكاتبة سكينة فؤاد فستذكر، أولا، يوم العبور المصري في مثل هذه الأيام من 1973: «لازلت أستحضر تلك اللحظات الخالدة في يوم العبور العاشر من رمضان من عام 1973 وما زلت أذكر ملامح الحياة في مصر آنذاك فقد كانت الحياة كلها متوقفة انتظارا للحظة إعلان الثأر للكرامة المصرية والعربية، ولازلت أستشعر الفرحة التي انفجرت في ذلك اليوم من شهر رمضان رغم كل التحديات الكبيرة آنذاك فحدوث العبور في شهر رمضان جسد كل معاني وقيم الشهر الكريم وتجليات البطولة النادرة للشعب المصري مع خصوصية لرمضان في بورسعيد مدينتي الباسلة التي عاشت لحظات الحرب والصمود والنصر، فما زلت أذكر فيها زمن المقاومة ورائحة النصر»
أما عن تجربتها الإبداعية الخاصة، وطقوسها في هذا الشهر، فتقول: «لا أستطيع الربط المباشر بين شهر رمضان والإبداع لكنه يمثل لي نوعا من الصلابة الداخلية والتجليات الروحية واستعادتي لكثير من المكونات الأساسية لحياتي في الأيام العادية مثل حبي لمصر القديمة الذي لا أستطيع مزاولته في الأيام العادية والتجرد من الارتباطات المادية الأرضية، أي أن رمضان هو فرصة لإطلاق الروح، كما أن علاقتي بليل رمضان وطيدة، لأن أغلب حياتي ليلية من أجل القراءة والكتابة. لكنى للأسف أستشعر أن رمضان الآن افتقد كثيرا من تلك المكونات التي عشناها في الماضي ولم ننجح في إقامة جسور بين مستحدثات العصر من تقنيات وبين قدسية وجلال الشهر الكريم. فليس معقولا أن يكون شهر رمضان للمسلسلات فقط وكنت أتمنى أن نحيى فيه أيضا تاريخ النضال العربي. أنا أقدر أهمية الدراما ولكن لا يجب الإغراق فيها على حساب تلك القيم فلا شك أننا نفتقد الدراما التي تمثل فريضة إيمانية ودينية لاستعادة المكونات الأصلية لقيمنا وتراثنا ونضالنا».

* سويلم: شهر كتابة
ويتحدث الشاعر أحمد سويلم وعن انطباعاته الرمضانية: «أعتقد أن شهر رمضان اختلف فعلا عما كان عليه. وعلى المستوى الشخصي كان رمضان بالنسبة لي شهر إنتاج وكتابة بشكل جيد وإن كان هذا العام جاء صعبا لقسوة حرارة الصيف مما أوقف الاستمرار في برنامجي الإبداعي المعتاد في هذا الشهر. وللعلم فأنا كائن نهاري لا أحب السهر وحتى في رمضان أعيش حياتي بنفس طقوسي العادية. ولكنى متأثر بتقاليد الطفولة وحلقات الذكر باعتبار والدي كان أحد أكبر المشايخ الصوفية، ومن خلال هذه الحلقات عشقت شعر ابن الفارض وهو ما فتح عيني على الشعر وغرس في حبي له. ومن بين السنوات التي لا أنسى رمضانها «كانت فترة السبعينات وكنت أكتب مسرحية اسمها (الفارس) وأذكر أنني كتبت الفصل الأول ثم توقفت. وحينما جاء شهر رمضان، قلبت في أوراقي القديمة حتى وجدتها، فأكملتها حتى نهايتها بتأثير الأجواء الرمضانية».
وعما يفتقده من رمضان لرمضان عبر الزمان، قال سويلم: «اعتدت منذ عقود على زيارة المعارض الثقافية في شهر رمضان في مناطق حية من وسط القاهرة وكنت أسعد فيها جدا وأقضي أمسيات رمضانية ثقافية رائعة لكن للأسف بعد أن نقلت هذه المعارض في أماكن بعيدة افتقدت هذه المتعة ولا شك أن الحالة الثقافية كلها متأثرة سلبا وإيجابا بالمناخ العام».

* تفسيرا الطبري والزمخشري
أما الناقد الدكتور عبد المنعم تليمة أستاذ علم الجمال الأدبي بجامعة القاهرة فلا يشعر بأي اختلاف بين رمضان ورمضان، ويرى نفسه مستمتعا بالعادات الرمضانية وأجوائها القديمة نفسها. يقول: «إن شهر رمضان في نظري كما كل المسلمين له خصوصية سواء في بهجته أو في التضييق على بعض العادات المتاحة باقي أوقات السنة. وقد ساهمت ظروفي الشخصية في خصوصية أكبر نابعة من قسمين أحدهما نابع من الأسرة والآخر نابع من طبيعة عملي، فقد ولدت لأسرة أقرب للفقر منها لليسر لكنها عرفت في القرية ببيت العلم. وقد نشأت في بيت جدي لأبي عبد الباقي في ظل ثلاثة كتب كبيرة كانت موجودة على رف صغير أمام عيني دائما أولها كتاب القرآن الكريم والثاني في فقه المذاهب الأربعة والثالث صحيح البخاري. وكان جدي متدينا، التدين السهل اللين الحازم في الحق والمتسامح في الأمور الأخرى. وعندما جئت القاهرة كان مسكني في منطقة مجمع الأديان التي كنت أطل فيها من شرفتي على مسجد عمرو بن العاص والكنيسة المعلقة والمعبد اليهودي وهو ما ساهم في تشكيل وجداني الرمضاني. ففي المسجد كنا نصلى العشاء والتراويح في المساء أما فترات النهار فكنا نقضيها تحت أشعة الشمس الجميلة بالكنيسة المعلقة أو المعبد اليهودي مع أصدقائنا، حيث لم تكن هناك أية فوارق. وعندما تخصصت في علم الجمال الأدبي أحد أفرع النقد الأدبي تواصلت دراستي للقرآن تحت إشراف الدكتورة سهير القلماوي فساهم تخصصي أيضا في تشكيل رؤياي لشهر رمضان الكريم وحدث الانسجام بين دراستي العلمية ونشأتي العائلية. وأصبحت في كل رمضان أحرص على قراءة كتابين أساسيين عندي هما تفسير الطبري و تفسير الزمخشري، وهي طقوس لازلت أمارسها حتى اللحظة الحالية وبالتالي لم أفتقد لشيء من عاداتي في الشهر الكريم ولا أجوائه وساهم في الحفاظ على تلك الأجواء الرمضانية عبر الزمان كوني أعيش وحيدا طول عمري وزياراتي للآخرين قليلة.

* الليل للقراءة
ومن أجواء رمضان القاهرية يصحبنا الأديب النوبي حجاج أدول إلى أعماق الجنوب في النوبة ليكشف لنا طقوس الإبداع النوبي الرمضانية. يقول: «رمضان عندنا له خصوصية مكان وزمان في آن فقبل التهجير ارتبطنا بالبيئة النهرية بكل تضاريسها وأجوائها وكانت احتفالاتنا كلها لا تنفصل عن كوننا كائنات نهرية. وفى رمضان أتذكر الموائد الكبيرة أمام البيوت بحيث لا يمكن أن يأكل فرد بمفرده أبدا وكانت توجد مضيفة كبيرة عليها صوان مغطاة ومصنوعة من خوص النخيل ليجلس الجميع أمامها في صفوف يتناولون الطعام دون أي تمييز وكان نفس الأمر داخل البيوت بالنسبة للنساء، وفى الليل كانت جلسات السمر والذكر والمديح بينما كان يلعب الأطفال «الهانداكية» وهى لعبة تشبه الحجلة. وللأسف الشديد افتقدنا هذه الطقوس بعد تهجيرنا من منطقة النيل وافتقدنا معها رائحة ذلك الزمان في رمضان وأتمنى العودة ثانية لبيئتنا الأصلية من جديد. وأنا أديب نهاري الكتابة أما الليل فهو للقراءة فيما عدا الأيام الثلاثة الأولى من رمضان لأنها تكون صعبة على كل النوبيين الذين اعتادوا تناول كوب الشاي بالحليب مع كل صباح وهو ما نحرم منه في الصيام ونستغرق وقتا حتى نعتاد اليوم من دون الشاي بالحليب».



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.