ديفيد بوم.. الحوار من رحم فيزياء الكم

كان لا يرى فرقا بين الطبيعة الحوارية للبحث العلمي والعمل الفني الجمالي

ديفيد بوم
ديفيد بوم
TT

ديفيد بوم.. الحوار من رحم فيزياء الكم

ديفيد بوم
ديفيد بوم

ولد ديفيد بوم David Bohm في ولاية بينسلفينيا الأميركية خريف 1917 وتوفي في لندن في خريف 1992 بعد أربع وسبعين سنة عمل فيها كأحد أهم علماء فيزياء الكم في القرن العشرين، وكأحد أهم منظري الحوار في القرن ذاته. قد يوحي هذا الاهتمام المشترك بالعلم والحوار بشيء من الغرابة من الوهلة الأولى. في الأخير العلم مشغول بإيجاد معلومات موضوعية عن الواقع وهذه المعلومات يفترض أن لا تخضع للقراءات الفردية. وفي المقابل فإن الحوار قائم على التواصل من خلال القراءات الذاتية والرؤى الفردية. هذه الصورة توحي بتعارض ظاهري يعترض عليه بوم ويعد أنه سبب من أسباب أزمة التواصل التي عصفت ولا تزال تعصف بالبشرية. لا يرى بوم فرقا بين الطبيعة الحوارية للبحث العلمي والعمل الفني الجمالي. في كلتا الحالتين ينخرط الباحث كما الأديب في عملية تواصل مع المعرفة القائمة وممثليها من خلال تقديم رافد جديد وروح جديدة تستفزّ وتستنفر الوضع القائم لإنجاز قول جديد وفتح الإمكانية لما هو مختلف ومفارق. لا يستطيع العالم ولا الفنان أن ينتج دون أن يتحصّل على صدى صوته القادم من الآخرين. ذلك الصدى هو علامة حياة الفكر وإبقائه في حالة حركة وحيوية هي مهمة العالم والفنان في ذات الوقت. الفنان والعالم هما في الآخرين باعثان للحياة في روح الفكر والحوار هو شاهد حياة الفكر والفنون والعلم في ذات الوقت.
هذه الصورة الكليّة للمعرفة الإنسانية وطبيعتها الحوارية هي الأمل الذي يعوّل عليه بوم لعلاج معضلة التواصل. مؤخرا، يدرك بوم أن التواصل بين الناس أصبح أسهل وأيسر من أي وقت مضى ولكنه في ذات الوقت أقل تحققا وفاعلية. ينطلق بوم هنا من تجربتين أساسيتين: الأولى تجربته كعالم معاصر ومسهم في أحدث وأهم الكشوفات الفيزيائية في عصره. نتحدث هنا عن منجزات النظرية النسبية ونظرية الكم التي غيّرت جوهر تصوّر البشرية للكون والطبيعة إلى الأبد. التجربة الأخرى هي تجربته كإنسان عاصر الحرب العالمية الأولى والثانية وشاهد بعينيه إحدى أكبر علامات الفشل والانهيار لقدرات البشر على التواصل والتعايش السلمي. لم يسقط بوم في الإحباط واليأس والعدمية بل اختار أن يدفع باتجاه ما يراه الفرصة الأخيرة وهي محاولة إيجاد طريقة للتواصل والحوار بين البشر يمكن أن تمرّ من خلاله خلافاتهم بدلا من مرورها عبر طريق الحروب الكارثية.
عبر هذا الأمل عمل بوم على مدار سنين طويلة من عمره على تنظيم حوارات جماعية بين فئات مختلفة على الناس نتج عنها تأملات أصبحت تعرف لاحقا بفلسفة بوم الحوارية. يقترح بوم تعريفا خاصا للتواصل لا يسعى لجعل معنى ما متداولا بقدر ما يسعى لإنتاج المعاني بشكل تداولي. بمعنى أن جوهر التواصل يتحقق في عملية التواصل المشتركة لا في إنتاج معنى مشترك. من خلال تجربته في الحوارات الجماعية يلاحظ بوم أنه من السهل علينا ملاحظة كيف يحجب الناس تفكيرهم بانفعالاتهم وتعصّباتهم ولكنه من الصعب علينا إدراك كيف نحجب نحن تفكيرنا بانفعالاتنا وتعصّباتنا. الفرق بين الحالتين يكمن بحسب بوم في أننا نفقد الإحساس بدور الفكر في إنتاج الأفكار. بمعنى أننا ننسى دور الطريقة التي نفكّر فيها على الأفكار التي نستنتجها. ما نقوله لأنفسنا باستمرار هو أن فكرنا الخاص يرينا الأشياء كما هي ولا يقوم بصياغتها. هذه هي الفجوة الهائلة التي تعزلنا عن إدراك دور فكرنا في صياغة الواقع وتشكيله وفقا لرغباتنا وظروفنا الخاصة. الفكر هنا هو لب المشكلة وليس الأفكار التي ينتجها. توقفنا عند التعامل مع الأفكار دون التنبّه إلى مصدرها أي طريقة التفكير التي أنتجتها يعني أننا نحاول حل المشكلة مستعينين بسبب المشكلة. ما نفشل فيه عادة هو أن ندرك دور انحيازاتنا ومواقفنا الخاصة في إنتاج أفكارنا مما يجعلنا نفشل في فهم عدم قدرة الآخرين على تصوّر الأمور كما نتصوّر. هذه المشكلة هي ما يسميها بوم مشكلة التشظي والعزلة. هذه المشكلة تبدأ في الفكر وتتحقق كذلك في الوجود العياني. التشظي يعني أن نعجز عن إدراك المنبع الذي ينتج أفكارنا. أي العجز عن إدراك الرابط المشترك الذي يربط أفكارنا والذي هو الفكر ذاته أو طريقة التفكير. هذا العجز يعني أن نعامل الأفكار بشكل منفرد ومنعزل. هذا يعني أن نحاول التعامل مع المشكلة دون إدراك النظام الأكبر الذي أنتج تلك المشكلة. عيانيا يعاني الناس في حياتهم الاجتماعي من ذات ظاهرة التشظي. فشل الأفراد في إدراك دور النظام الاجتماعي الذي يتحركون داخله في كل شؤون حياتهم يؤدي إلى العجز عن إدراك حقيقة المجتمع وبالتالي يشعر الأفراد بالعزلة والعجز.
الحوار هو الحل المقترح لمشكلة التشظي والعزلة في الفكر والاجتماع. الحوار هنا فرصة للفرد أن يرى انعكاس فكره في الآخرين. بمعنى أن الحوار يتيح للفرد أن يرى كيف يفكر الآخرون بطريقة مختلفة في ذات القضية التي يفكر فيها. هذا الأجراء يمثل نافذة يمكن أن يعبر من خلالها الفرد للتأمل في فكره وليس فقط في أفكاره. الآخرون هنا يعملون كمرآة نرى من خلالها مالا نستطيع رؤيته بأنفسنا عن أنفسنا. الحوار هنا سلوك اجتماعي معرّض لكل المشاكل الاجتماعية مما يعني أنه معرّض للفشل ولكنه تجربة تعدنا دائما بما هو أفضل. ما يؤكد عليه بوم كثيرا لإنجاح عملية الحوار هو أن نتجنب موقف الدفاع عن أفكارنا. بمعنى أننا مطالبون بشرح أفكارنا ومحاولة توصيلها ولكننا يجب أن نبتعد عن الدفاع عنها. يكفي أن نطرحها بوضوح وندعها تتحرك بذاتها داخل ساحة الحوار. هذا يعني أن نعطي تلك الأفكار فرصة التعديل والتطوير والجدل حولها دون أن يكون ذلك موقفا شخصيا منّا بالضرورة.



10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

دوايت غارنر
دوايت غارنر
TT

10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

دوايت غارنر
دوايت غارنر

لطالما حظيت روايات الكاتبة الأسترالية هيلين غارنر بتقدير كبير من الأشخاص الذين أثق بذوقهم. ومع ذلك، عندما كنت أبدأ بقراءة رواياتها كنت أرتد عنها مثل مركبة فضائية أخطأت في العودة إلى الغلاف الجوي للأرض. لا بد أن يكون لكل قارئ كاتب أو اثنان من هذا القبيل، كاتب أو اثنان يشعر بأنه يجب أن يُعجب بهما لكنهما لا يكونان كذلك أبداً. بدت أعمال غارنر، في قراءاتي الموجزة ركيكةً، ركيكة وتفتقر إلى الصقل.

والآن يأتي كتاب «كيف تُنهي قصة»، وهو كتاب بوزن ثقيل للغاية يجمع 3 مجلدات من مذكراتها اليومية من 1978 إلى 1998، بدءاً من منتصف الثلاثينات من عمرها. يقع هذا الكتاب في أكثر من 800 صفحة، وهو يضم كثيراً من مذكرات غارنر اليومية (دون صلة مباشرة). كدتُ أضع هذا الكتاب جانباً أيضاً لأنه يبدأ بداية مرتجلة ومترددة.

نقاد الكتب، مثل العاملين في مجال النشر، يبحثون دائماً عن عذر للتوقف عن القراءة. لكن بعد فترة من الوقت بدأتُ في الانسجام مع صوتها. وبحلول ربع الطريق، كنتُ غارقاً بين يديها تماماً. ويا لخطئي الفادح!

هذا الكتاب موجه إلى الانطوائيين، الحذرين والمتشائمين، غير المتيقنين من مظهرهم أو ذوقهم أو موهبتهم أو مكانتهم الطبقية. تمتلك غارنر صوتاً مثالياً للتعبير عن مخاضات القلق والضيق في وقت متأخر من الليل، بعضها أكثر هزلية من البعض الآخر. أسلوبها في النثر واضح وصادق ومقتصد؛ إما أن تقبله أو ترفضه، على الطريقة الأسترالية.

وهي في سردها من النوع الذي قد يُخطئ الناس في اعتبارها أحد العاملين في مهرجانات الكتاب. يتوجَّه الناس إليها على نحو مفاجئ ويسألونها: «ما الخطب؟» (وهذا أمر أكرهه بصورة خاصة أيضاً). وهي تخشى على آداب المائدة. يقول لها المصورون أشياء مثل: «إن هيئة وجهك ليست هي الأفضل».

إذا سبق لك أن نظرت إلى صورة فوتوغرافية لنفسك وشعرت بالذهول من قبح مظهرك، حسناً، إن غارنر هي صاحبة السبق في هذه التجربة:

* لقد عرضت عليّ بعض الصور التي التقطها لي العام الماضي وصُدمت من قبح مظهري: بشرة مرقطة، ووجه مجعد، وقَصة شعر قبيحة، وتعابير داكنة. أعني أنني صُدمت للغاية. وذعرت من احتمال أن أكون بمفردي الآن لبقية حياتي.

يمتد إحساسها بعدم الجدارة إلى كتاباتها الخاصة. تقول: «أنا مجرد حرفية ذات مستوى متوسط». و«الحزن ليست كلمة قوية للغاية لما يشعر به المرء أمام ضعفه وتواضعه». إنها تحارب مستويات من «متلازمة المحتال» من الدرجة الفائقة للغاية.

احتفظ الكُتّاب بمذكرات لأسباب لا تُعد ولا تُحصى. تمنت آناييس نين أن تتذوق الحياة مرتين. وكانت باتريشيا هايسميث تتوق إلى توضيح «الأمور التي قد تهاجم ذهني وتحتل مُخيلتي». كما أرادت آن فرنك أن تستمر في الحياة بعد موتها. وشعرت شيلا هيتي بأنها إذا لم تنظر إلى حياتها من كثب فإنها تتخلى عن مهمة بالغة الأهمية.

تلك هي غرائز غارنر أيضاً. لكنها تقول أيضاً وبكل افتتان: «لماذا أكتب هذه الأشياء؟ جزئياً من أجل متعة رؤية القلم الذهبي يتدحرج على الورق كما كان يفعل عندما كنت في العاشرة من عمري». كانت هذه الكتابة تخدم غرضاً أكثر جدية. إذ قالت غارنر ذات مرة لمجلة «باريس ريفيو»: «المذكرات اليومية هي الطريقة التي حوَّلتُ بها نفسي إلى كاتبة - تلك هي الـ10 آلاف ساعة خاصتي».

تتألق تفاصيل حياتها اليومية دوماً في هذا الكتاب - النباتات المزروعة في الأصص التي تنمو إلى جانبها، ورحلات التسوق («كيمارت، ومنبع كل الخير»)، وحفلات العشاء، وغسل ملابسها الخاصة في دلو، وإزالة فضلات الكلب، وإصلاح التنورة، والذهاب إلى السينما، والاحتفاظ بنسخة من كتاب «الفردوس المفقود» في الحمام الخارجي. تعيش أحياناً في شقق صغيرة في المدينة، وأحياناً أخرى في منزل ريفي حيث ترى الكوالا، والكنغر، والنسور، والكوكابورا.

هذا هو تقريرها عن إحدى وجبات تناول العشاء في الخارج: «في منزل الهيبيز لتناول العشاء، وجدت في شريحة الكيشي التي أتناولها عنصرين غريبين: عود ثقاب مستعمل وشعر. أخفيتهما تحت ورقة الخس وواصلنا الحديث».

حديثها الأدبي يتسم بالحماسة والبراعة: «تظل العاطفية تتطلع من فوق كتفها لترى كيف تتقبل الأمر. لكن (الانفعال)، على الرغم من ذلك، لا يهتم سواء كان أحد ينظر إليه أم لا».

إنها تقيّم منطقة الانفجار حول بعض الأمور المملة. عن عشاء مع أكاديميين، تكتب قائلة: «أعفوني من افتراض كبار السن الهادئ بأن أي شيء يقولونه مهما كان مملاً أو بطيئاً أو رتيباً يستحق أن يُقرأ وسوف يحظى بجمهور».

لا يحتاج هذا الكتاب إلى جرعة من الدراما، ولكن الجرعة تأتي لا محالة. بعد زيجتين فاشلتين، تدخل غارنر في علاقة مع كاتب صعب المراس ومتزوج، تدعوه باسم «ڨي». (إنه الروائي موراي بايل). وفي نهاية الأمر يتزوجان، وتزاحم احتياجاته احتياجاتها فتغلبها. ثم تشرع في الشعور وكأنها دخيلة في شقتها الخاصة. فهو الذي تحق له الكتابة هناك، بينما يجب عليها الذهاب إلى مكان آخر للعمل. إنه يغار من أي نجاح تحرزه بنفسها. فأيهما هو المضيف وأيهما الطفيلي؟

يبدأ الزوج علاقة غرامية مع امرأة أخرى، وهي رسامة، ويراوغ ويكذب. تتظاهر غارنر، لأشهُر، بأنها لا تلاحظ ذلك. وتتشبث به لفترة أطول مما تتصور. ويصبح الأمر مروعاً. فعلاقتهما صارت الوعاء الذي تتكسر فيه عظامها حتى تستحيل إلى عجينة. وتكتب فتقول: «للمرة الأولى، بدأت أفهم نفسية النساء اللاتي يبقين مع رجال يضربونهن باستمرار».

العمل هو خلاصها وجسرها إلى العالم. خطتي هي أن أعود إلى كتبها الأخرى، وأن أخوض فيها هذه المرة لما هو أبعد من حجم كاحلي.

*خدمة «نيويورك تايمز»