{محكمة المياه} في فالنسيا تعقد أسبوعيا منذ القرن العاشر الميلادي

يكرّ الزمان، ويترسّخ لديك الاعتقاد بأن العرب، بعد سقوط آخر ممالكهم الأندلسية في غرناطة عام 1492 خرجوا من التاريخ الحي ودخلوا الأسطورة. وكلّما وقعت على مواطن الإبداع التي وشمت المعمار الإسباني بجماليات مذهلة، وخصّبت العلوم الغربية بتجلّيات خالدة ورصّعت لغة ثرفانتيس بأعذب الكلِم وأرقّه، تخلص إلى حاصلة هي أن الوجود العربي الذي امتدّ ثمانية قرون في الأندلس لم يأخذ قسطه من الدراسة والبحث والتقدير، وأن استحضار ذلك الغابر المجيد قد يكون باباً إلى الفعل مجدداً في الحضارة العالمية بعد طويل سُبات.
كانت الزراعة من الحقول التي تفوّق فيها العرب إبّان حكمهم بلاد الأندلس، فوضعوا دراسات وأقاموا أنظمة ومؤسسات ما زالت سائدة إلى اليوم. وفي مدينة فالنسيا الواقعة وسط خاصرة البحر المتوسط الغربية، تنعقد مرة كل أسبوع أشهر وأقدم المحاكم من نوعها في العالم: محكمة المياه التي تأسست عام 962م على عهد الخليفة عبد الرحمن الثالث لفضّ النزاعات والخلافات التي تنشأ عن توزيع مياه الري على بساتين الغوطة الفالنسية من السواقي المتفرّعة عن نهر خوكار.
قبيل انتصاف النهار من كل يوم خميس يتوجّه الوكيل Alguacil، أو المباشر، إلى مكتب مستشار المحكمة ليتسلّم منه شعار الغوطة والألبسة الرسمية التي يرتديها القضاة الشعبيون الذين ينصبون ميزان العدل فوق المياه التي تروي بساتين فالنسيا وكرومها. وفي غضون ذلك يبدأ الناس، بين معني ومهتمّ وفضولي وسائح، بالتوافد إلى ساحة الكاتدرائية، ويتحلّقون أمام «باب الرسل» حيث اعتادت المحكمة أن تعقد جلساتها التي يحضرها أحيانا مراقبون عن مؤسسات وهيئات قانونية، وطنية وأجنبية. وما أن تدقّ أجراس ساعة البرج معلنة تمام الثانية عشرة ظهرا، حتى يجلس القضاة بقمصانهم الفضفاضة على مقاعد خشبية موزعة بشكل دائري، وعلى كل منها اسم المحلّة أو الساقية Acequia التي يرأسها القاضي ويمثلها في هيئة المحكمة.
يعلن الرئيس افتتاح الجلسة، فيستأذنه المباشر للمناداة على المدّعي والمدَّعى عليه وناطور الساقية، والشهود في حال وجودهم، وجرت العادة أن يُنظر في الشكاوى حسب ترتيب السواقي، بدءاً بالأولى على مجرى النهر حتى الأخيرة، ثم يأذن الرئيس بالكلام، مشيراً بقدمه – وهي عادة عربية حسب أصحاب النوايا الصافية – بعد أن يستمع إلى تقديم الشكوى: إغراق بستان جار المدّعى عليه و«تعويمه» عمداً بقصد إتلاف المحصول، أو السقاية في يومٍ أو موعد غير الذي يحدده نظام الري المتفق عليه.
بعد الاستنطاق والاستجواب والاستماع إلى الشهود، يبدأ أعضاء المحكمة بالتشاور في شبه خلوة، من غير مشاركة القاضي المنتدب عن الساقية المتنازع على مياهها، وذلك من باب الحرص على الحياد. وجرى العرف أنه إذا كان المدّعي من ساقية على ضفة النهر اليسرى، فإن قضاة سواقي الضفة اليمنى هم الذين يقترحون العقاب أو الغرامة على المدّعى عليه إذا ثبتت مسؤوليته.
وتكون الغرامات عادة أقل من تلك التي ينصّ عليها القانون الجزائي، لكن التكاليف تزداد عندما يضطر الوكيل للانتقال إلى موقع المخالفة للمعاينة الميدانية، آخذاً في حسبانه مساحة الحقل موضع الشكوى أو الخلاف. وقد جرت العادة منذ جلوس الملك السابق خوان كارلوس الأول على عرش إسبانيا بعد وفاة الجنرال فرنكو، أن يفتتح العاهل الإسباني الدورة السنوية للمحكمة مطلع موسم الري كل عام.