مصر إلى مرحلة جديدة للخروج من «عنق الزجاجة»

وسط حملة تغيير واسع في الثقافة الاقتصادية والاجتماعية

مصر إلى مرحلة جديدة للخروج من «عنق الزجاجة»
TT

مصر إلى مرحلة جديدة للخروج من «عنق الزجاجة»

مصر إلى مرحلة جديدة للخروج من «عنق الزجاجة»

يقود الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تغييراً واسعاً في الثقافة الاقتصادية والاجتماعية. ولدى دخوله بالبلاد إلى مرحلة جديدة للخروج من «عنق الزجاجة»، أشار إلى وجود العزيمة لإنجاز هذا التغيير في عدة لقاءات مع الشباب أخيراً. وقال للمصريين في مؤتمر للشباب قبل أسبوع، إن رفض الإصلاح الاقتصادي يعني أننا سنواجه معضلة كبيرة.
عدد سكان مصر يربو الآن على 100 مليون يعيشون في معاناة، منذ عقود، في قلب منطقة الشرق الأوسط التي تعج بالاضطرابات والتربص والحروب. ولكن بات من الممكن أن يرى المرء على جانبي الطرق الدولية الجديدة مشاريع ضخمة لم يُعلن عنها رسمياً بعد، مع مرونة سياسية ودبلوماسية في التعاطي مع تقاطعات تضرب منطقة الشرق الأوسط بين حين وحين. ووفق الدكتور إبراهيم عبد الله، الأستاذ في الجامعة الأميركية بالقاهرة، المستشار الاقتصادي لوزارة الداخلية المصرية، فإن «ما يجري تطبيقه الآن من سياسات يعكس إيقاعاً هادئاً، لحقن مجموعة قرارات، في جسد الاقتصاد المصري، لتصحيح وتصويب ما ارتُكب من أخطاء في الماضي».
يتابع العديد من الخبراء والاقتصاديين ويترقبون توجهات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتغلب على الواقع الاقتصادي الصعب، ويعتبرون أن من شأن ما يقوم به تغيير وجه مصر في السنوات المقبلة، مع ملاحظة أن السيسي يفضل مكاشفة الرأي العام بما يجري. وبالفعل، دعا الشعب إلى ضرورة تحمل إجراءات الإصلاح الاقتصادي، قائلاً: «أنتم مَن سيتحمل النجاح والفشل أيضاً بجانب الدولة».
على أرض الواقع تبدو الأسعار حالياً مرتفعة، والحياة مُرَّة، لدى قطاع كبير من عامة المصريين، خصوصاً بعد ما يزيد على سنة من تحرير سعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، وكان هذا قراراً لم يجرؤ أي رئيس سابق على الإقدام عليه. غير أنه تظهر اليوم، وفق محللين ومتابعين، بوادر للأمل لكي يشعر الناس بالطمأنينة. فوفقاً للمؤشرات والتقارير الاقتصادية، ومنها تقرير مؤسسة «فيتش» للتصنيف الائتماني، الأخير، تبدو معدلات الاستثمار بمصر مشجعة، وهي على ارتفاع. ويقول رجل الأعمال المصري، محمد أبو العينين: «انظر... في عامي 2011 و2012 كان المعدل صفراً في المائة. أما اليوم فأصبح يزيد على 5.2 في المائة. هذه معدلات جيدة. أقول لك إن هذا إنجاز ضخم جدا، مقارنة بالظروف التي مررنا بها». وبينما تؤكد الحكومة أنها تستهدف مواصلة زيادة معدل النمو للوصول به إلى 7 في المائة وأكثر، تتوقع «فيتش» أن يصل المعدل إلى 5.5 في المائة خلال العام الحالي (2018 - 2019).

انعكاسات الوضع الأمني
في السنوات الثلاث التي أعقبت إطاحة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، فقد الشارع المصري الأمن، وانتشرت أعمال السرقة والإرهاب وخطف السيارات. وصار السفر عبر الطرق السريعة محفوفاً بالمخاطر. كذلك توقفت السياحة الأجنبية المهمة لخزينة الدولة، وهجر كثير من المستثمرين البلاد. وبالتالي، حين تولى السيسي الحكم في منتصف عام 2014 وضع على رأس أولوياته تحقيق الأمن وإنعاش الاقتصاد.
وحقاً، تراجعت العمليات الإرهابية بشكل كبير، بعد اتخاذ إجراءات دقيقة ومعقدة. أما بالنسبة للاقتصاد، فالحقيقة على الأرض تقول إن الشكوى من الغلاء لم تمنع تدفق نحو 15 مليون مصري، إلى سواحل البحر للاستجمام و«التصييف» في شهور الحر الحالية، كما يقول الخبير الاقتصادي الذي يعيش في الساحل الشمالي الغربي، أيمن غازي. وأنعش هذا تجاراً ومشاريع عقارية، وقطاعات النقل السياحي. وظهرت في الخلفية مقاطع مصورة لمشاهير وهم يرقصون بجوار سياراتهم، وهي تتحرك، على أغنية «كيكي»، التي تم حظرها في عدة دول، بعدما اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي. وانتشر المصريون بعائلاتهم في المصايف، خصوصاً على الشواطئ الممتدة من الإسكندرية حتى مرسى مطروح. ويقول أيمن غازي: «هؤلاء لديهم قدرة على الإنفاق... وحين تكون هناك حركة، فالكل يستفيد».
ولكن يقول محللون إن الأمر لا يتعلق فقط بإصلاح حكومة السيسي لتداعيات كارثية نتجت عن مرحلة اضطرابات كبرى من عام 2011 إلى عام 2013. ويرون أن القضية تتجاوز ذلك إلى عقود مضت، حين كانت الدولة هي من يقوم بكل شيء نيابة عن المواطن. وفي محاولة لترسيخ أوضاع جديدة، في الوقت الراهن، فإن الدولة ستظل موجودة، لكنها لن تقدم لك الطعام في ملعقة وأنت جالس في البيت؛ فقد ورث المصريون، منذ ما قبل العهد الاشتراكي، مقولة: «إن فاتك الميري (العمل الحكومي) تمرّغ في ترابه».

تركة الاشتراكية
وحاول الرئيس الأسبق أنور السادات تغيير هذا النمط، في أواخر سبعينات القرن الماضي، لكنه لم يكمل الخطة. ومن بعده حاول مبارك فعل الشيء نفسه، وألغى بنوداً اشتراكية و«اتكالية» من الدستور والقانون، وطبق برامج للإصلاح، إلا أنه لم يتمكن من الترسيخ العملي لاقتصاد السوق المتكامل. أما اليوم، حسب الدكتور رشاد عبده، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة ورئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية: «من حيث المبدأ، الأوضاع تتحسن... نعم، لكن بشكل بطيء». لقد حاول مبارك لي ذراع الأدبيات الخاصة بالاشتراكية، وعلى رأسها الاعتماد على الدولة في التوظيف والسكن ودعم الخدمات والسلع، بما فيها وقود السيارات، إلا أن المقاومة كانت أكبر من إمكانيات النظام السياسي الذي ظل يحكم لمدة 30 سنة. كانت هناك عوامل أخرى، بطبيعة الحال، تحاول أن تحرك الشارع ضد مبارك، من بينها التنظيمات الاشتراكية، وجماعة «الإخوان»، وخصومه الآخرون داخلياً وخارجياً. وشارك الاشتراكيون و«الإخوان» بقوة في الحراك الذي أسقط نظامه في 2011.
وحين تولّت جماعة الإخوان الحكم، برئاسة الرئيس الأسبق محمد مرسي، حاولت أن تفعل كما فعل أتباع الإمام الخميني مع شركائهم في «الثورة الإسلامية» في إيران في 1979. وبدأ إخوان مصر في إظهار «العين الحمراء» للاشتراكيين المصريين، لدرجة أن مرسي كان يلتقي بأغلب مسؤولي الأحزاب ما عدا اليساريين. ولم يكن برنامج «الإخوان» الاقتصادي واضح المعالم. ووقفت غالبية الاشتراكيين في نهاية المطاف مع السيسي، حين وقف ضد سياسات مرسي الفوضوية. لهذا من السهل أن تفهم سبب مؤازرة كثير من اليساريين لنهج السيسي بما فيه من تحولات اقتصادية كبيرة، بشرط توفير السلع الرئيسية بأسعار مناسبة للطبقات الفقيرة. وفي اجتماع لقيادات أحد أهم الأحزاب الاشتراكية في وسط القاهرة، كانت هناك ثقة في إجراءات الرئيس.
ويقول أحد هذه القيادات: «الرئيس السيسي يقوم بالتحديث، ومحاربة الفساد، وهذا مهم بالنسبة لنا». ويضيف: «في الحقيقة نرى أنه يواجه (لوبي) يرفض تحديث المجمعات الاستهلاكية التي تبيع السلع المدعومة للفقراء، ويواجه (لوبي) يرفض عودة التصنيع الوطني (القطاع العام)». ويزيد قائلاً: «في النهاية، وجود رأسمالية وطنية، أفضل من الحكم الفاشي لجماعة الإخوان».
وفي العموم، لم يعد هناك من يقبل في مصر بأن تكون الدولة هي «ماما... وبابا». وهو مصطلح شهير ظهر في فيلم «عمارة يعقوبيان» بطولة الفنان عادل إمام. وبدأت الدولة في تقليب هذه الأرض. ويقول رجل الأعمال محمد أبو العينين: «الحقيقة هناك قرارات جريئة تم اتخاذها، من أجل توصيل الدعم لمستحقيه، ولتقليل فاتورة الدعم التي تتحملها الموازنة العامة للدولة. هذه القصة بالتأكيد تجعل الناس تشعر بالأذى. لكن هناك مزايا على الاقتصاد الكلي. وهذا مهم جداً». ويضيف «أعتقد أن (ترشيد الدعم) عالج مشكلة أساسية كنا نعاني منها خلال الثلاثين سنة الماضية، وهي عملية (ترشيد الاستهلاك). وفي الوقت الحالي أصبح كل واحد يقوم بترشيد نفسه غصباً عنه. عاداتنا وتقاليدنا في الاستهلاك كان يجب أن تتغير منذ فترة طويلة»، ثم يزيد قائلاً: «يوجد برنامج إصلاح، مضت منه سنوات وباقي سنوات. إنه دواء مرّ. ونحن نقوم بالمعالجة. نريد تصحيح سياسات أربعين سنة مضت، حتى يتم بناء مصر الحديثة، من خلال تعمير الصحراء وتدشين المدن الجديدة، وتشغيل عمالة تصل إلى 11 مليون عامل في المشاريع القومية كافة».
من جانبه، يلفت غازي الانتباه إلى طريقة الاستثمار الجديدة المرتبطة بالتحديث ومواكبة العصر، سواء في الطرق أو المنشآت. ويقول إن بعض المستثمرين من المصريين والعرب، أصبحوا يعملون بعقلية أوروبية في التخطيط وتقديم الخدمات. ويضيف: «هؤلاء لديهم خبرة. ويرون أن الأجواء الاقتصادية التي تقدمها الدولة مواتية، سواء في محور قناة السويس، أو في الساحل الشمالي.. نحن ننتقل نقلة كبيرة، لكن، أصارحك القول: هذه النقلة تحتاج إلى تنظيم محلي قادر على مواكبة مثل هذه المتغيرات، وعلى كل حال، سوف تتسبب هذه المشاريع الجديدة في طفرة إيجابية بشكل عام في اقتصاد الدولة».
وعلى كل حال يمكن أن تلمس تغير الطريقة التي أصبح يفكر بها كثير من المصريين، من خلال الدردشة مع سائقي سيارات الأجرة، وأنت تتنقل معهم في شوارع القاهرة. إنهم يشكون من ارتفاع أسعار البنزين إلى أضعاف ما كان عليه أيام مبارك، لكن يوجد تفهم للأمر مع نوع من الصبر. وفي شارع مراد في محافظة الجيزة المجاورة، على سبيل المثال، تنتظر ألوف السيارات لوقت طويل، يومياً، بسبب اختناق المرور أمام ميدان النهضة. وهذا الحال كان مستمراً لسنوات دون علاج. وتقوم الحكومة حالياً بإنشاء نفق للقضاء على مشكلة التكدّس في هذا الميدان، مما فاقم مشكلة المرور أكثر من السابق، وحوَّل السير إلى مسارات جانبية صعبة. ويقول سائق الأجرة وكأنه يحثك على الصبر: «نحن، في مصر، لدينا مشكلات كثيرة. لكننا نعلم أن كل هذا سينتهي، مثلما سينتهي هذا الزحام بمجرد افتتاح النفق قريباً». ويقع على هذا الشارع سفارات عدة. ويوجد فيه كذلك فنادق كبرى ظلت مظلمة في فترة الاضطرابات قبل تولي السيسي الحكم. والآن يمكن أن ترى طوابق بأكملها مضاءة. وهذا يعني عودة الحجوزات سواء للسياح، أو رجال الأعمال. لقد انتهت تقريباً مرحلة الترويج ضد النظام الجديد على ضفاف النيل.

بيئة آمنة للاستثمار
ويقول أبو العينين، الذي يعد قطباً سياسياً واقتصادياً في البلاد منذ عقود: «نعم... كانت هناك حملات منظمة، ومدفوعة، قام بها أهل الشر، لكي يروّجوا بأن مصر غير آمنة للاستثمار، خصوصاً الاستثمار الأجنبي. لكن أريد أن أقول لك إنه في الفترة القليلة الماضية، بدأت الأمور تتحسن بشكل كبير، مقارنة بأعوام 2012 و2013 و2014. وهذا بفضل زيارات متكررة قام بها الرئيس للخارج، وأيضاً بفضل مجهودات بعض الناس ممن جاءوا وقالوا إن الدنيا، في مصر، آمنة. والتفَّ الشعب المصري في ثورته ضد حكم «الإخوان» في 30 يونيو (حزيران) 2013، حول السيسي، حين كان وزيراً للدفاع، وانتخبه رئيساً للدولة بعد ذلك بسنة.
وقال الرئيس في كلمة له قبل شهر، بمناسبة الذكرى الخامسة للثورة، إن نتائج برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تنفذه مصر، منذ ذلك الوقت، تشير إلى أننا نسير على الطريق الصحيح. فأثناء حكم «الإخوان» تراجع احتياطي النقد الأجنبي في الدولة إلى أقل من 15 مليار دولار. بينما زاد في ظل حكم السيسي إلى أكثر من 44 مليار دولار. ويهدف الرئيس المصري، في برنامجه الاقتصادي، إلى تحقيق أمرين... الأول وقف تردي الأوضاع الاقتصادية، والثاني تحقيق نهضة اقتصادية واسعة وحقيقية من خلال بنية تحتية ومشروعات عملاقة توفر ملايين فرص العمل.
ويرى الرئيس أن الإصلاح في مصر، تم تأجيله كثيراً في السابق، لكنه اليوم ضرورة وليس رفاهية. ووضع البرلمان والحكومة تشريعات مشجعة، وأسساً لمشاريع عملاقة في مناطق مختلفة من البلاد، بعضها تم افتتاحه رسمياً، وبعضها ما زال تحت الإنشاء. وبالإضافة إلى توسيع مجرى قناة السويس، تقوم ببناء ميناء ضخم في منطقة جرجوب (شمال غربي مصر)، بالإضافة إلى إنشاء أكبر مزرعة سمكية في منطقة الشرق الأوسط على البحر المتوسط، بالتعاون مع مستثمرين عرب وأجانب، إلى جانب المصريين.
أبو العينين، الحاصل على جائزة «أفضل صانع في أفريقيا لهذا العام»، يضيف: «في الحقيقة الدولة المصرية قامت بعمل قانون استثمار جديد، وهذا القانون محفِّز إلى حد كبير. ويعطي مزايا خاصة للاستثمار في بعض المناطق المعينة، وإعفاءات، وغيرها... معدلات الاستثمار في تزايد. وتوقعاتي أنها ستزداد أكثر، لأنه توجد مصداقية لدى الدولة، وجدية بأنه مطلوب مشاركة حقيقية بينها وبين القطاع الخاص؛ فالمستثمر الأجنبي، والعربي أصبح له الحقوق والمزايا ذاتها التي يحصل عليها المستثمر المصري».
وأيا ما كان الأمر، هناك شروط للسير قدماً، دون عراقيل كبيرة، أو، على الأقل، لتسريع الانتقال من حال إلى حال أفضل؛ فمن جانبه، يقول الدكتور رشاد عبده، إنه لكي تقوم بنقلة حقيقية في مصر، فأنت في حاجة لعدة نقاط... «تحتاج، أولاً، أن يكون لديك سياسات اقتصادية ثابتة ومستقرة. وهذا نفتقده. تحتاج لأن يكون هناك تحدٍ حقيقي لمواجهة الفساد والبيروقراطية والروتين، وتحتاج بشكل قوي للاستعانة بالكفاءات، بعيداً عن أهل الثقة».
ويضيف أن البرلمان كذلك «يحتاج إلى أن يقوم بدوره الحقيقي نحو تحسين بيئة ومناخ الاستثمار، وإصدار تشريعات تعمل على جذب الاستثمار، والمستثمرين، وتعطيهم ضمانات، ولا نقول حوافز... هذا كله ليس موجودا بعد. هذه مشكلة كبيرة جدّاً. خصوصاً قضية عدم الاستعانة بالكفاءات. فهذه مشكلة العالم الثالث كله. من الخطأ أن تأتي بالأقرب، لا الأكفأ».
لكن الدكتور عبده يعود ويقول إنه «بلا جدال، المؤشرات الدولية والوكالات العالمية، والمنظمات الدولية، سعيدة بما يتم في مصر... نعم، لأن المؤشرات جيدة، ولأن معدل النمو، بالفعل، يرتفع، ومعدل البطالة ينخفض، وكل شيء جيد»، إلا أنه، مع هذا كله، لديك مشكلة كبيرة، وهي المواطن. ويستطرد: «المواطن يعاني بشدة نتيجة لما سُمِّي بالإصلاح، لأن هناك ضغوطاً عليه من غلاء في الأسعار، ثم هو غير قادر على أن يعيش حياة كريمة. وما إلى ذلك. أعتقد أن هذا هو التحدي».
ويوضح الدكتور عبده أن إقامة «الطرق، وغيرها من المشاريع القومية، هي بلا جدال شيء جيد، لأنها خلقت فرص عمل كثيفة وسريعة... لكن ضخّ الأموال في الخزينة العامة للدولة، معظمها قروض وسندات، بينما المطلوب أن يكون ضخ الأموال في الخزينة العامة من نتاج عمل الشعب المصري». ويزيد قائلاً: «إن شروط إنجاح نظام اقتصاد السوق في مصر، مثلما هو الحال في بيئات رأسمالية كثيرة كدول أوروبا وأميركا، يتطلب (سوق المنافسة الكاملة)»، مضيفاً: «في مصر، للأسف، لدينا سوق احتكار القلة.. عدد محدود يحتكرون السلع، ويتحكمون في الاستيراد، ويتفقون مع بعضهم بعضاً على تحديد الأسعار، بما يفوق طاقة المستهلكين».
أما الدكتور عبد الله، الأستاذ في الجامعة الأميركية بالقاهرة، فيقول إن الوضع الاقتصادي في مصر يتلخص في «بضع نقاط، بعيداً عن المبالغات، وبعيداً عن النفاق». ويضيف: «رأس المال، بطبيعته، جبان. ولن يأتي لك أحد للمخاطرة برأسماله في بيئة استثمارية ملتهبة، ما لم تكن هذه البيئة فيها مزايا تنافسية أفضل من بيئات أخرى منافسة لك في منطقة البحر المتوسط».
ويشير عبد الله إلى ارتفاع معدلات الإقبال على الاستثمار في مصر في الفترة الأخيرة بشكل غير مسبوق، «لدرجة أنك حين تذهب إلى مقر هيئة الاستثمار، تجدها تعمل على مدار اليوم، وبسبب الزحام تضطر للانتظار إلى أن يأتي دورك». ويوضح قائلاً أن «هذا دليل على وجود إقبال كبير في هيئة الاستثمار. ووجود رؤوس أموال، وإيداعات في البنوك، وقيد شركات. نعم... هذا دليل على أن بيئة الاستثمار المصرية أصبحت بيئة جاذبة»، ويضيف أن «كل هذا يعكس أمرين... استقرار في الحالة الاقتصادية، خصوصاً بعد تعويم الجنيه، ووصوله لقيمته الحقيقية أمام كل العملات. والأمر الثاني صدور مجموعة من التسهيلات، لا يختلف عليها اثنان. وعلى رأسها المنفذ الواحد في هيئة الاستثمار».
وعن شكوى البعض من عدم شعور طبقات فقيرة بالانتعاشة الاقتصادية بعد، يقول إن «الرضا الحقيقي لا يقاس بالأكل والشرب فقط، ولكن بالوئام العام في حياة المواطنين، مثل توفير رعاية صحية وتعليم ومواصلات وبنية تحتية. وهذا ما تقوم به الدولة في الوقت الراهن، مع توفير الحماية الحقيقية للطبقات الفقيرة. ويدرك السيسي، من خلال أقواله وأحاديثه المفتوحة، أن غالبية المصريين يتحملون معه المصاعب الاقتصادية، وينتظرون العبور من عنق الزجاجة.

السيسي متفائل... والرهان على الإصلاح الاقتصادي
> خلال كلمة للرئيس عبد الفتاح السيسي أمام مؤتمر الشباب، توجه بالتحية إلى «كل رب أسرة، ولكل ربة أسرة، يتحملون، في كبرياء وشموخ، مشاق توفير الحياة الكريمة لأبنائهم... أؤكد لهم أن المستقبل أفضل لهم ولأبنائهم، وأنهم بوعيهم الحقيقي بمتطلبات إصلاح وطنهم، يضربون المثل والقدوة ويثبتون مجدداً مدى حكمة وعبقرية هذا الشعب».
وبين حين وآخر يستخدم الرئيس السيسي روح الفكاهة في مؤتمرات مذاعة على التلفزيون، لتلطيف أجواء الإصلاحات الصعبة؛ فبعد نحو شهرين من زيادة سعر الوقود، في مؤتمر الشباب، تحدث مداعباً الحضور: «تركبون السيارات وتقولون كيكي، وما كيكي»، في إشارة إلى تلك الرقصة. ثم التفت إلى وزير البترول، طارق الملا، قائلاً له: «زوّد البنزين... لا تقلق». وضجّت القاعة بالتصفيق.



الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.