مصر إلى مرحلة جديدة للخروج من «عنق الزجاجة»

وسط حملة تغيير واسع في الثقافة الاقتصادية والاجتماعية

مصر إلى مرحلة جديدة للخروج من «عنق الزجاجة»
TT

مصر إلى مرحلة جديدة للخروج من «عنق الزجاجة»

مصر إلى مرحلة جديدة للخروج من «عنق الزجاجة»

يقود الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تغييراً واسعاً في الثقافة الاقتصادية والاجتماعية. ولدى دخوله بالبلاد إلى مرحلة جديدة للخروج من «عنق الزجاجة»، أشار إلى وجود العزيمة لإنجاز هذا التغيير في عدة لقاءات مع الشباب أخيراً. وقال للمصريين في مؤتمر للشباب قبل أسبوع، إن رفض الإصلاح الاقتصادي يعني أننا سنواجه معضلة كبيرة.
عدد سكان مصر يربو الآن على 100 مليون يعيشون في معاناة، منذ عقود، في قلب منطقة الشرق الأوسط التي تعج بالاضطرابات والتربص والحروب. ولكن بات من الممكن أن يرى المرء على جانبي الطرق الدولية الجديدة مشاريع ضخمة لم يُعلن عنها رسمياً بعد، مع مرونة سياسية ودبلوماسية في التعاطي مع تقاطعات تضرب منطقة الشرق الأوسط بين حين وحين. ووفق الدكتور إبراهيم عبد الله، الأستاذ في الجامعة الأميركية بالقاهرة، المستشار الاقتصادي لوزارة الداخلية المصرية، فإن «ما يجري تطبيقه الآن من سياسات يعكس إيقاعاً هادئاً، لحقن مجموعة قرارات، في جسد الاقتصاد المصري، لتصحيح وتصويب ما ارتُكب من أخطاء في الماضي».
يتابع العديد من الخبراء والاقتصاديين ويترقبون توجهات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتغلب على الواقع الاقتصادي الصعب، ويعتبرون أن من شأن ما يقوم به تغيير وجه مصر في السنوات المقبلة، مع ملاحظة أن السيسي يفضل مكاشفة الرأي العام بما يجري. وبالفعل، دعا الشعب إلى ضرورة تحمل إجراءات الإصلاح الاقتصادي، قائلاً: «أنتم مَن سيتحمل النجاح والفشل أيضاً بجانب الدولة».
على أرض الواقع تبدو الأسعار حالياً مرتفعة، والحياة مُرَّة، لدى قطاع كبير من عامة المصريين، خصوصاً بعد ما يزيد على سنة من تحرير سعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، وكان هذا قراراً لم يجرؤ أي رئيس سابق على الإقدام عليه. غير أنه تظهر اليوم، وفق محللين ومتابعين، بوادر للأمل لكي يشعر الناس بالطمأنينة. فوفقاً للمؤشرات والتقارير الاقتصادية، ومنها تقرير مؤسسة «فيتش» للتصنيف الائتماني، الأخير، تبدو معدلات الاستثمار بمصر مشجعة، وهي على ارتفاع. ويقول رجل الأعمال المصري، محمد أبو العينين: «انظر... في عامي 2011 و2012 كان المعدل صفراً في المائة. أما اليوم فأصبح يزيد على 5.2 في المائة. هذه معدلات جيدة. أقول لك إن هذا إنجاز ضخم جدا، مقارنة بالظروف التي مررنا بها». وبينما تؤكد الحكومة أنها تستهدف مواصلة زيادة معدل النمو للوصول به إلى 7 في المائة وأكثر، تتوقع «فيتش» أن يصل المعدل إلى 5.5 في المائة خلال العام الحالي (2018 - 2019).

انعكاسات الوضع الأمني
في السنوات الثلاث التي أعقبت إطاحة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، فقد الشارع المصري الأمن، وانتشرت أعمال السرقة والإرهاب وخطف السيارات. وصار السفر عبر الطرق السريعة محفوفاً بالمخاطر. كذلك توقفت السياحة الأجنبية المهمة لخزينة الدولة، وهجر كثير من المستثمرين البلاد. وبالتالي، حين تولى السيسي الحكم في منتصف عام 2014 وضع على رأس أولوياته تحقيق الأمن وإنعاش الاقتصاد.
وحقاً، تراجعت العمليات الإرهابية بشكل كبير، بعد اتخاذ إجراءات دقيقة ومعقدة. أما بالنسبة للاقتصاد، فالحقيقة على الأرض تقول إن الشكوى من الغلاء لم تمنع تدفق نحو 15 مليون مصري، إلى سواحل البحر للاستجمام و«التصييف» في شهور الحر الحالية، كما يقول الخبير الاقتصادي الذي يعيش في الساحل الشمالي الغربي، أيمن غازي. وأنعش هذا تجاراً ومشاريع عقارية، وقطاعات النقل السياحي. وظهرت في الخلفية مقاطع مصورة لمشاهير وهم يرقصون بجوار سياراتهم، وهي تتحرك، على أغنية «كيكي»، التي تم حظرها في عدة دول، بعدما اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي. وانتشر المصريون بعائلاتهم في المصايف، خصوصاً على الشواطئ الممتدة من الإسكندرية حتى مرسى مطروح. ويقول أيمن غازي: «هؤلاء لديهم قدرة على الإنفاق... وحين تكون هناك حركة، فالكل يستفيد».
ولكن يقول محللون إن الأمر لا يتعلق فقط بإصلاح حكومة السيسي لتداعيات كارثية نتجت عن مرحلة اضطرابات كبرى من عام 2011 إلى عام 2013. ويرون أن القضية تتجاوز ذلك إلى عقود مضت، حين كانت الدولة هي من يقوم بكل شيء نيابة عن المواطن. وفي محاولة لترسيخ أوضاع جديدة، في الوقت الراهن، فإن الدولة ستظل موجودة، لكنها لن تقدم لك الطعام في ملعقة وأنت جالس في البيت؛ فقد ورث المصريون، منذ ما قبل العهد الاشتراكي، مقولة: «إن فاتك الميري (العمل الحكومي) تمرّغ في ترابه».

تركة الاشتراكية
وحاول الرئيس الأسبق أنور السادات تغيير هذا النمط، في أواخر سبعينات القرن الماضي، لكنه لم يكمل الخطة. ومن بعده حاول مبارك فعل الشيء نفسه، وألغى بنوداً اشتراكية و«اتكالية» من الدستور والقانون، وطبق برامج للإصلاح، إلا أنه لم يتمكن من الترسيخ العملي لاقتصاد السوق المتكامل. أما اليوم، حسب الدكتور رشاد عبده، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة ورئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية: «من حيث المبدأ، الأوضاع تتحسن... نعم، لكن بشكل بطيء». لقد حاول مبارك لي ذراع الأدبيات الخاصة بالاشتراكية، وعلى رأسها الاعتماد على الدولة في التوظيف والسكن ودعم الخدمات والسلع، بما فيها وقود السيارات، إلا أن المقاومة كانت أكبر من إمكانيات النظام السياسي الذي ظل يحكم لمدة 30 سنة. كانت هناك عوامل أخرى، بطبيعة الحال، تحاول أن تحرك الشارع ضد مبارك، من بينها التنظيمات الاشتراكية، وجماعة «الإخوان»، وخصومه الآخرون داخلياً وخارجياً. وشارك الاشتراكيون و«الإخوان» بقوة في الحراك الذي أسقط نظامه في 2011.
وحين تولّت جماعة الإخوان الحكم، برئاسة الرئيس الأسبق محمد مرسي، حاولت أن تفعل كما فعل أتباع الإمام الخميني مع شركائهم في «الثورة الإسلامية» في إيران في 1979. وبدأ إخوان مصر في إظهار «العين الحمراء» للاشتراكيين المصريين، لدرجة أن مرسي كان يلتقي بأغلب مسؤولي الأحزاب ما عدا اليساريين. ولم يكن برنامج «الإخوان» الاقتصادي واضح المعالم. ووقفت غالبية الاشتراكيين في نهاية المطاف مع السيسي، حين وقف ضد سياسات مرسي الفوضوية. لهذا من السهل أن تفهم سبب مؤازرة كثير من اليساريين لنهج السيسي بما فيه من تحولات اقتصادية كبيرة، بشرط توفير السلع الرئيسية بأسعار مناسبة للطبقات الفقيرة. وفي اجتماع لقيادات أحد أهم الأحزاب الاشتراكية في وسط القاهرة، كانت هناك ثقة في إجراءات الرئيس.
ويقول أحد هذه القيادات: «الرئيس السيسي يقوم بالتحديث، ومحاربة الفساد، وهذا مهم بالنسبة لنا». ويضيف: «في الحقيقة نرى أنه يواجه (لوبي) يرفض تحديث المجمعات الاستهلاكية التي تبيع السلع المدعومة للفقراء، ويواجه (لوبي) يرفض عودة التصنيع الوطني (القطاع العام)». ويزيد قائلاً: «في النهاية، وجود رأسمالية وطنية، أفضل من الحكم الفاشي لجماعة الإخوان».
وفي العموم، لم يعد هناك من يقبل في مصر بأن تكون الدولة هي «ماما... وبابا». وهو مصطلح شهير ظهر في فيلم «عمارة يعقوبيان» بطولة الفنان عادل إمام. وبدأت الدولة في تقليب هذه الأرض. ويقول رجل الأعمال محمد أبو العينين: «الحقيقة هناك قرارات جريئة تم اتخاذها، من أجل توصيل الدعم لمستحقيه، ولتقليل فاتورة الدعم التي تتحملها الموازنة العامة للدولة. هذه القصة بالتأكيد تجعل الناس تشعر بالأذى. لكن هناك مزايا على الاقتصاد الكلي. وهذا مهم جداً». ويضيف «أعتقد أن (ترشيد الدعم) عالج مشكلة أساسية كنا نعاني منها خلال الثلاثين سنة الماضية، وهي عملية (ترشيد الاستهلاك). وفي الوقت الحالي أصبح كل واحد يقوم بترشيد نفسه غصباً عنه. عاداتنا وتقاليدنا في الاستهلاك كان يجب أن تتغير منذ فترة طويلة»، ثم يزيد قائلاً: «يوجد برنامج إصلاح، مضت منه سنوات وباقي سنوات. إنه دواء مرّ. ونحن نقوم بالمعالجة. نريد تصحيح سياسات أربعين سنة مضت، حتى يتم بناء مصر الحديثة، من خلال تعمير الصحراء وتدشين المدن الجديدة، وتشغيل عمالة تصل إلى 11 مليون عامل في المشاريع القومية كافة».
من جانبه، يلفت غازي الانتباه إلى طريقة الاستثمار الجديدة المرتبطة بالتحديث ومواكبة العصر، سواء في الطرق أو المنشآت. ويقول إن بعض المستثمرين من المصريين والعرب، أصبحوا يعملون بعقلية أوروبية في التخطيط وتقديم الخدمات. ويضيف: «هؤلاء لديهم خبرة. ويرون أن الأجواء الاقتصادية التي تقدمها الدولة مواتية، سواء في محور قناة السويس، أو في الساحل الشمالي.. نحن ننتقل نقلة كبيرة، لكن، أصارحك القول: هذه النقلة تحتاج إلى تنظيم محلي قادر على مواكبة مثل هذه المتغيرات، وعلى كل حال، سوف تتسبب هذه المشاريع الجديدة في طفرة إيجابية بشكل عام في اقتصاد الدولة».
وعلى كل حال يمكن أن تلمس تغير الطريقة التي أصبح يفكر بها كثير من المصريين، من خلال الدردشة مع سائقي سيارات الأجرة، وأنت تتنقل معهم في شوارع القاهرة. إنهم يشكون من ارتفاع أسعار البنزين إلى أضعاف ما كان عليه أيام مبارك، لكن يوجد تفهم للأمر مع نوع من الصبر. وفي شارع مراد في محافظة الجيزة المجاورة، على سبيل المثال، تنتظر ألوف السيارات لوقت طويل، يومياً، بسبب اختناق المرور أمام ميدان النهضة. وهذا الحال كان مستمراً لسنوات دون علاج. وتقوم الحكومة حالياً بإنشاء نفق للقضاء على مشكلة التكدّس في هذا الميدان، مما فاقم مشكلة المرور أكثر من السابق، وحوَّل السير إلى مسارات جانبية صعبة. ويقول سائق الأجرة وكأنه يحثك على الصبر: «نحن، في مصر، لدينا مشكلات كثيرة. لكننا نعلم أن كل هذا سينتهي، مثلما سينتهي هذا الزحام بمجرد افتتاح النفق قريباً». ويقع على هذا الشارع سفارات عدة. ويوجد فيه كذلك فنادق كبرى ظلت مظلمة في فترة الاضطرابات قبل تولي السيسي الحكم. والآن يمكن أن ترى طوابق بأكملها مضاءة. وهذا يعني عودة الحجوزات سواء للسياح، أو رجال الأعمال. لقد انتهت تقريباً مرحلة الترويج ضد النظام الجديد على ضفاف النيل.

بيئة آمنة للاستثمار
ويقول أبو العينين، الذي يعد قطباً سياسياً واقتصادياً في البلاد منذ عقود: «نعم... كانت هناك حملات منظمة، ومدفوعة، قام بها أهل الشر، لكي يروّجوا بأن مصر غير آمنة للاستثمار، خصوصاً الاستثمار الأجنبي. لكن أريد أن أقول لك إنه في الفترة القليلة الماضية، بدأت الأمور تتحسن بشكل كبير، مقارنة بأعوام 2012 و2013 و2014. وهذا بفضل زيارات متكررة قام بها الرئيس للخارج، وأيضاً بفضل مجهودات بعض الناس ممن جاءوا وقالوا إن الدنيا، في مصر، آمنة. والتفَّ الشعب المصري في ثورته ضد حكم «الإخوان» في 30 يونيو (حزيران) 2013، حول السيسي، حين كان وزيراً للدفاع، وانتخبه رئيساً للدولة بعد ذلك بسنة.
وقال الرئيس في كلمة له قبل شهر، بمناسبة الذكرى الخامسة للثورة، إن نتائج برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تنفذه مصر، منذ ذلك الوقت، تشير إلى أننا نسير على الطريق الصحيح. فأثناء حكم «الإخوان» تراجع احتياطي النقد الأجنبي في الدولة إلى أقل من 15 مليار دولار. بينما زاد في ظل حكم السيسي إلى أكثر من 44 مليار دولار. ويهدف الرئيس المصري، في برنامجه الاقتصادي، إلى تحقيق أمرين... الأول وقف تردي الأوضاع الاقتصادية، والثاني تحقيق نهضة اقتصادية واسعة وحقيقية من خلال بنية تحتية ومشروعات عملاقة توفر ملايين فرص العمل.
ويرى الرئيس أن الإصلاح في مصر، تم تأجيله كثيراً في السابق، لكنه اليوم ضرورة وليس رفاهية. ووضع البرلمان والحكومة تشريعات مشجعة، وأسساً لمشاريع عملاقة في مناطق مختلفة من البلاد، بعضها تم افتتاحه رسمياً، وبعضها ما زال تحت الإنشاء. وبالإضافة إلى توسيع مجرى قناة السويس، تقوم ببناء ميناء ضخم في منطقة جرجوب (شمال غربي مصر)، بالإضافة إلى إنشاء أكبر مزرعة سمكية في منطقة الشرق الأوسط على البحر المتوسط، بالتعاون مع مستثمرين عرب وأجانب، إلى جانب المصريين.
أبو العينين، الحاصل على جائزة «أفضل صانع في أفريقيا لهذا العام»، يضيف: «في الحقيقة الدولة المصرية قامت بعمل قانون استثمار جديد، وهذا القانون محفِّز إلى حد كبير. ويعطي مزايا خاصة للاستثمار في بعض المناطق المعينة، وإعفاءات، وغيرها... معدلات الاستثمار في تزايد. وتوقعاتي أنها ستزداد أكثر، لأنه توجد مصداقية لدى الدولة، وجدية بأنه مطلوب مشاركة حقيقية بينها وبين القطاع الخاص؛ فالمستثمر الأجنبي، والعربي أصبح له الحقوق والمزايا ذاتها التي يحصل عليها المستثمر المصري».
وأيا ما كان الأمر، هناك شروط للسير قدماً، دون عراقيل كبيرة، أو، على الأقل، لتسريع الانتقال من حال إلى حال أفضل؛ فمن جانبه، يقول الدكتور رشاد عبده، إنه لكي تقوم بنقلة حقيقية في مصر، فأنت في حاجة لعدة نقاط... «تحتاج، أولاً، أن يكون لديك سياسات اقتصادية ثابتة ومستقرة. وهذا نفتقده. تحتاج لأن يكون هناك تحدٍ حقيقي لمواجهة الفساد والبيروقراطية والروتين، وتحتاج بشكل قوي للاستعانة بالكفاءات، بعيداً عن أهل الثقة».
ويضيف أن البرلمان كذلك «يحتاج إلى أن يقوم بدوره الحقيقي نحو تحسين بيئة ومناخ الاستثمار، وإصدار تشريعات تعمل على جذب الاستثمار، والمستثمرين، وتعطيهم ضمانات، ولا نقول حوافز... هذا كله ليس موجودا بعد. هذه مشكلة كبيرة جدّاً. خصوصاً قضية عدم الاستعانة بالكفاءات. فهذه مشكلة العالم الثالث كله. من الخطأ أن تأتي بالأقرب، لا الأكفأ».
لكن الدكتور عبده يعود ويقول إنه «بلا جدال، المؤشرات الدولية والوكالات العالمية، والمنظمات الدولية، سعيدة بما يتم في مصر... نعم، لأن المؤشرات جيدة، ولأن معدل النمو، بالفعل، يرتفع، ومعدل البطالة ينخفض، وكل شيء جيد»، إلا أنه، مع هذا كله، لديك مشكلة كبيرة، وهي المواطن. ويستطرد: «المواطن يعاني بشدة نتيجة لما سُمِّي بالإصلاح، لأن هناك ضغوطاً عليه من غلاء في الأسعار، ثم هو غير قادر على أن يعيش حياة كريمة. وما إلى ذلك. أعتقد أن هذا هو التحدي».
ويوضح الدكتور عبده أن إقامة «الطرق، وغيرها من المشاريع القومية، هي بلا جدال شيء جيد، لأنها خلقت فرص عمل كثيفة وسريعة... لكن ضخّ الأموال في الخزينة العامة للدولة، معظمها قروض وسندات، بينما المطلوب أن يكون ضخ الأموال في الخزينة العامة من نتاج عمل الشعب المصري». ويزيد قائلاً: «إن شروط إنجاح نظام اقتصاد السوق في مصر، مثلما هو الحال في بيئات رأسمالية كثيرة كدول أوروبا وأميركا، يتطلب (سوق المنافسة الكاملة)»، مضيفاً: «في مصر، للأسف، لدينا سوق احتكار القلة.. عدد محدود يحتكرون السلع، ويتحكمون في الاستيراد، ويتفقون مع بعضهم بعضاً على تحديد الأسعار، بما يفوق طاقة المستهلكين».
أما الدكتور عبد الله، الأستاذ في الجامعة الأميركية بالقاهرة، فيقول إن الوضع الاقتصادي في مصر يتلخص في «بضع نقاط، بعيداً عن المبالغات، وبعيداً عن النفاق». ويضيف: «رأس المال، بطبيعته، جبان. ولن يأتي لك أحد للمخاطرة برأسماله في بيئة استثمارية ملتهبة، ما لم تكن هذه البيئة فيها مزايا تنافسية أفضل من بيئات أخرى منافسة لك في منطقة البحر المتوسط».
ويشير عبد الله إلى ارتفاع معدلات الإقبال على الاستثمار في مصر في الفترة الأخيرة بشكل غير مسبوق، «لدرجة أنك حين تذهب إلى مقر هيئة الاستثمار، تجدها تعمل على مدار اليوم، وبسبب الزحام تضطر للانتظار إلى أن يأتي دورك». ويوضح قائلاً أن «هذا دليل على وجود إقبال كبير في هيئة الاستثمار. ووجود رؤوس أموال، وإيداعات في البنوك، وقيد شركات. نعم... هذا دليل على أن بيئة الاستثمار المصرية أصبحت بيئة جاذبة»، ويضيف أن «كل هذا يعكس أمرين... استقرار في الحالة الاقتصادية، خصوصاً بعد تعويم الجنيه، ووصوله لقيمته الحقيقية أمام كل العملات. والأمر الثاني صدور مجموعة من التسهيلات، لا يختلف عليها اثنان. وعلى رأسها المنفذ الواحد في هيئة الاستثمار».
وعن شكوى البعض من عدم شعور طبقات فقيرة بالانتعاشة الاقتصادية بعد، يقول إن «الرضا الحقيقي لا يقاس بالأكل والشرب فقط، ولكن بالوئام العام في حياة المواطنين، مثل توفير رعاية صحية وتعليم ومواصلات وبنية تحتية. وهذا ما تقوم به الدولة في الوقت الراهن، مع توفير الحماية الحقيقية للطبقات الفقيرة. ويدرك السيسي، من خلال أقواله وأحاديثه المفتوحة، أن غالبية المصريين يتحملون معه المصاعب الاقتصادية، وينتظرون العبور من عنق الزجاجة.

السيسي متفائل... والرهان على الإصلاح الاقتصادي
> خلال كلمة للرئيس عبد الفتاح السيسي أمام مؤتمر الشباب، توجه بالتحية إلى «كل رب أسرة، ولكل ربة أسرة، يتحملون، في كبرياء وشموخ، مشاق توفير الحياة الكريمة لأبنائهم... أؤكد لهم أن المستقبل أفضل لهم ولأبنائهم، وأنهم بوعيهم الحقيقي بمتطلبات إصلاح وطنهم، يضربون المثل والقدوة ويثبتون مجدداً مدى حكمة وعبقرية هذا الشعب».
وبين حين وآخر يستخدم الرئيس السيسي روح الفكاهة في مؤتمرات مذاعة على التلفزيون، لتلطيف أجواء الإصلاحات الصعبة؛ فبعد نحو شهرين من زيادة سعر الوقود، في مؤتمر الشباب، تحدث مداعباً الحضور: «تركبون السيارات وتقولون كيكي، وما كيكي»، في إشارة إلى تلك الرقصة. ثم التفت إلى وزير البترول، طارق الملا، قائلاً له: «زوّد البنزين... لا تقلق». وضجّت القاعة بالتصفيق.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.