رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي

مناهضة شديدة لليمين... وباحثة عن مكانة للمسلمين في المجتمع والحكومة

رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي
TT

رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي

رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي

تتأهب رشيدة طليب (42 سنة) لدخول مجلس النواب الأميركي كأول امرأة فلسطينية مسلمة تحظى بعضوية أحد مجلسي الكونغرس. وحقّقت طليب هذا الإنجاز المتوقع أن يتأكد رسمياً في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، بعدما فازت بالانتخابات التمهيدية للمقعد المخصص للدائرة الـ13 عن الحزب الديمقراطي في ولاية ميشيغان، التي كانت قد شغلت أحد مقاعد برلمانها (كونغرس ميشيغان) المحلي. وتجدر الإشارة إلى من شبه المحسوم أن تكسب طليب المقعد بالتزكية خلال الانتخابات النصفية الأميركية في نوفمبر بغياب منافس جمهوري ينافسها في دائرتها الانتخابية.
هذا، ولم تنجح المحامية الفلسطينية الأصل بسهولة في معركة الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين، بل تنافست مع خمسة مرشحين أبرزهم، رئيسة مجلس بلدية ديترويت بريندا جونز، ورئيس بلدية ويستلاند بيل ويلد، لكنها حصدت 33.6 في المائة من أصوات الناخبين، متفوقة على الجميع... وذلك بعدما بذلت جهوداً ذاتية كبيرة، وجمعت تبرّعات تفوق المليون دولار، مستندة إلى نشاط دائم وقديم في المنطقة؛ ما جعلها تعرف كل بيت تقريباً. ومن ثم شكرت طليب مؤيديها من موقعها على «تويتر» عقب إعلان فوزها بقولها «شكراً جزيلاً لكم لأنكم جعلتم هذه اللحظة الرائعة ممكنة».
بدأت رشيدة طليب، وهي حامية أميركية فلسطينية الأصل، حملتها للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للاحتفاظ بمقعد الدائرة الـ13 في ولاية ميشيغان بمجلس نواب الولايات المتحدة، موجهة رسالة قوية للمجتمع مفادها أن غير الأميركيين الأصل هم جزء من الحكومة، وجزء من المجتمع كذلك. وساعد طليب في ذلك أن الدائرة التي سعت إلى تمثيلها في ديترويت تقع في واحدة من أفقر الضواحي الحضرية في ميشيغان والولايات المتحدة، وإن نسبة عالية من سكانها من أصول عربية وأفريقية مسلمة. وهذا، مع أنها تشير إلى أن انتماءها الديني أو العرقي لم يكن موضوع نقاش عندما كانت تلتقي الناخبين.
طليب قالت أثناء الحملة «الناس يعانون من نطق اسمي، لكنهم يتذكرون أنني أتيت إلى منزلهم». كذلك، تتذكر أنها في إحدى المرات حينما طرقت باب أحد الناخبين، قال لها «أتعرفين، إن تم انتخابك فذلك مؤشر على أنهم يستطيعون منعنا من القدوم إلى البلاد، لكنهم لن يستطيعوا منعنا من دخول الكونغرس». وقال لها آخر «افعلي ما بوسعك للفوز، أولادي يعانون بسبب هويتهم، مع مَن يكونون؟ إنهم في حاجة إلى رؤية شخص يشبهم داخل الكونغرس، كي يقولوا نعم نحن ننتمي إلى هنا (أميركا)».
والحقيقة أن كثرة من الناس في مدينة ديترويت وضواحيها يعرفون رشيدة طليب أو عنها. ويذكر الكثير منهم أن لها إنجازات مهمة، منها أنها استطاعت إبان عملها التشريعي في كونغرس الولاية أن تحقق إنجازات مهمة مثل رفع الحد الأدنى للأجور، وتحسين مستوى خدمة الرعاية الصحية. وحتى بعدما غادرت كونغرس ولاية ميشيغان ظلت ناشطة في المجتمع، تكافح من أجل العدالة الاجتماعية.
وبرزت طليب لاحقاً كمعارضة شديدة لسياسات الرئيس الجمهوري دونالد ترمب. وقبل سنتين أوقفت وطُردت من لقاء عام بعدما قاطعت كلمة للرئيس في مدينتها ديترويت، وصرخت به «أطفالنا يستحقون أكثر»، وطالبته بقراءة الدستور الأميركي جيداً. وبعد ذلك قالت طليب لشبكة «سي إن إن»، إن والدتها غضبت جداً قائلة لها «لقد أوقفوكِ مباشرة على التلفزيون الوطني»، وردت هي بالقول «إنه أكثر تصرّف أميركي كان بوسعي القيام به».
وفي برنامجها الانتخابي لسباق الكونغرس الأميركي، كتبت طليب «سأقاتل ضد أجندة ترمب التي تضع أرباح الشركات وتخدم الأغنياء على احتياجاتنا... سأقاتل إلى جانبكم من أجل الرعاية الطبية للجميع؛ حتى يتمكن الجميع من الحصول على الرعاية الصحية التي يحتاجون إليها، وعلى أجر أدنى قدره 15 دولاراً يساعد العمال على إعالة أسرهم». وأضافت «سنعمل معاً على محاسبة المُلوثين... لا أستطيع الانتظار حتى أعمل من أجلكم». وترى طليب أن انتخاب ترمب رئيساً للولايات المتحدة كان بمثابة «إنذار» للكثير من النساء الأميركيات اللواتي لم يتقدمن من قبل بمثل هذه الأعداد الكبرى للكونغرس، وخصوصاً من بين صفوف الديمقراطيين. كذلك تقول، إن أسباباً شخصية أيضاً دفعتها إلى تقديم ترشيحها، وعلى رأسها، الصعوبات التي يواجهها ابناها لإيجاد مكانتيهما في بلد أصبح بشكل متزايد معادياً للمسلمين الذين يشكلون نحو 1.1 في المائة من الشعب الأميركي.

الأصول الفلسطينية
ولدت رشيدة حربي طليب في مدينة ديترويت، كبرى مدن ولاية ميشيغان، يوم 24 يوليو (تموز) من عام 1976 لعائلة بسيطة مهاجرة من فلسطين. ووفق سيرتها الذاتية؛ فهي البنت الكبرى بين الأولاد الـ14 لأبيها المتحدّر من بلدة بيت حنينا القريبة من مدينة القدس، وأمها التي هاجرت إلى الولايات المتحدة من قرية بيت عور الفوقا، قرب مدينة رام الله بالضفة الغربية. وهي متزوجة من فايز طليب، وأم لولدين، هما آدم ويوسف.
عمل والد رشيدة بعد استقراره في ميشيغان في أحد مصانع شركة فورد للسيارات، وكان بدايةً قد هاجر إلى نيكاراغوا، ومنها انتقل إلى الولايات المتحدة. وبحكم كون رشيدة أكبر إخوتها وأخواتها، فإنها ساعدت والديها في تربيتهم، بجانب دراستها. كما أسهم وضعها العائلي وكفاحها من أجل العيش الكريم في توجيهها باتجاه الحزب الديمقراطي الأميركي، وتحديداً التيار الليبرالي – اليساري فيه.
تلقت رشيدة طليب تعليمها في مدارس حكومية بديترويت، التي كانت ذات يوم عاصمة صناعة السيارات في العالم، وأنهت تعليمها الثانوي في مدرسة ساوثويسترن هاي سكول عام 1994. ومن ثم، دخلت جامعة واين الحكومية Wayne State University الكبيرة في المدينة، حيث حازت شهادة بكالوريوس الآداب في العلوم السياسية عام 1998، وبعدها التحقت بكلية توماس كولي للحقوق بجامعة ويسترن ميشيغان وتخرجت فيها مجازة في القانون عام 2004. وفي العام نفسه انطلقت في مسيرتها السياسية بالتوازي مع امتهانها المحاماة، فعملت محامية متخصصة في الدفاع عن قضايا مجتمعها المحلي، وناشطة في مكافحة التلوث البيئي، إلى جانب نشاطها في تعزيز قطاع التعليم.
كذلك، رعى ستيف توبوكمان، النائب السابق في كونغرس ميشيغان، خطواتها السياسية الأولى عندما عملت مساعدة له. وعندما تقاعد المقعد المخصّص للدائرة المحلية الـ12 - بحكم انتهاء مدة خدمته في المجلس - شجّعها على خلافته. وبالفعل، خاضت الانتخابات وفازت بالمقعد. وجدّدت فوزها به في انتخابات 2010 بفارق كبير. ثم بعد تغيير حدود الدوائر عام 2012 فازت طليب مجدداً بمقعد الدائرة السادسة الجديدة. واحتفظت به حتى 2014 عندما أخلته بحكم انتهاء مدة خدمتها البرلمانية.
والآن، انتقلت رشيدة طليب من الإطار المحلي في ميشيغان إلى الفضاء الأوسع... إلى الكونغرس الأميركي نفسه، وباتت قاب قوسين أو أدنى من دخوله بعد فوزها بترشيح الديمقراطيين في الدائرة الـ13 المضمونة لهم. وهنا نشير إلى أنها لن تكون أول نائب مسلم في الكونغرس؛ إذ يوجد الآن عضوان مسلمان في الكونغرس، هما كيث إليسون (مينيسوتا)، وأندريه كارسون (إنديانا).

الفرحة في رام الله
أول ما فعلته طليب بعد تلقي نبأ الفوز أنها عانقت والدتها ابنة قرية بيت عور في الضفة الغربية في حين كانت جدتها وخالاتها وأخوالها يتابعون عن كثب مجريات ما يحدث. قالت طليب بعد أن وضعت والدتها العلم الفلسطيني على كتفيها، وقد اغرورقت عيناها بالدموع «لقد تسمّروا أمام شاشة التلفزيون، جدتي وخالاتي وأعمامي تجمّعوا لرؤية حفيدتهم». وللعلم، طوال حياة طليب في الولايات المتحدة، فإنها ظلت على علاقات مع أقربائها، وكانت قد زارت الضفة الغربية لأول مرة عندما كانت طفلة، لحضور زفاف عائلي. ويتذكر أقرباؤها أنها سارعت إلى التساؤل حول اللامساواة الصارخة التي عاينتها حولها في نقاط التفتيش، أو حين انتظار قدوم الحافلة. ومنذ ذلك الحين عادت لتزور فلسطين عدة مرات، آخرها في عام 2006.
وبطبيعة الحال، استقبلت جدة رشيدة وأخوالها وخالاتها والجيران في قرية بيت عور في الضفة نبأ فوز ابنتهم بكثير من الابتهاج، وتجمعوا أمام المنزل المؤلف من طابق واحد بجوار أشجار الزيتون للتهنئة. جاء المهنئون من القرية وباركوا التقدم المهم لابنة قريتهم الصغيرة.
وفي الوقت الذي تشير فيه طليب عبر موقعها على الإنترنت إلى جذورها الفلسطينية وتحتفي بالتراث الفلسطيني، لا يشير موقعها على الإنترنت إلى وجهات نظرها حول النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، وبحسب وكالة «أسوشييتد برس» التي لفتت إلى مقال كتبته رشيدة في عام 2016، فقد وصفت فيه نفسها بأنها سيدة أميركية ومسلمة عربية. لكن خلال الشهر الماضي تحدثت طليب عن كونها مسلمة من أصل فلسطيني، في تصريح لشبكة «سي إن إن »الأميركية قائلة «لا يتعلق الأمر فقط بأن تكون موجوداً وتتباهى بإيمانك... لقد قلت للناس دائماً إن إُظهار جوهر الإسلام، بطريقة مؤثرة، يأتي عبر خدمة المجتمع».

من جناح ساندرز اليساري
من جهة أخرى، مثل أي مرشح آخر تحظى رشيدة طليب بدعم من كثيرين من الليبراليين واليساريين. وهي تحسب من جناح بيرني ساندرز اليساري في الحزب الديمقراطي، بشكل عام تحظى بدعم روابط المعلمين والممرضين وتجار التجزئة في الولاية، وتركز في خطابها على برامج المرأة والطفل والرعاية الصحية.
وتقول سالي هويل، مديرة مركز الدراسات العربية - الأميركية في جامعة ميشيغان – ديربورن، التي تعرف رشيدة منذ 25 سنة، عنها، إنها امرأة «حازمة وكفوءة، وتعمل بجهد وتتمتع بجاذبية كبرى». وتضيف «إنها تهتم بالناس وبالمجتمع الذي نشأت فيه»، مستطردة «لم تنظم حملتها بصفتها مسلمة، بل كمواطنة من جنوب ديترويت مسلمة الديانة. لكن المجتمع المسلم، الذي يشعر بأنه مهمش إلى حد كبير، ساند بقوة ترشيحها».
وتدافع طليب، كما هو معروف لمتابعي حملتها، عن برنامج ينص على المساواة في الرواتب بين الرجال والنساء والتعليم الجامعي المجاني، مروراً بالصحة العامة وحقوق مثليي الجنس، وإلغاء مرسوم الهجرة الذي اعتمده ترمب، إلى جانب حماية البيئة.
وبسبب هذا البرنامج، حظيت كذلك بدعم مشاهير، في مقدمتهم المخرج العالمي اليساري مايكل مور، وهو من أبناء ميشيغان. إذ نشر المخرج صورة تجمعه مع رشيدة احتفاءً بفوزها على حسابه بموقع «إنستغرام»، ودعمها ببعض الكلمات لمساندتها في مشوارها نحو الكونغرس. إذ كتب مور «انتصار رشيدة طليب.. فازت في الانتخابات التمهيدية في ديترويت لتصبح أول امرأة مسلمة في الكونغرس! إنها أميركية فلسطينية، وديمقراطية اشتراكية. لكن الأهم أنها تمتلك قلباً وروحاً وشجاعة لقيادتنا نحو يوم أفضل... إلى الأمام». ومما يذكر أن مور، المعروف بعدائه السياسي مع الحزب الجمهوري الأميركي، ولا سيما الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، كان قد استعاض في العام الماضي عن الوقوف خلف الكاميرا الوقوف على خشبة المسرح في عمل منفرد في برودواي بنيويورك مناهضاً لسياسات الجمهوريين.
وبخلاف توقعات كثيرين، يبدو أن طليب تستقطب كل معارضي الرئيس الحالي ترمب، كما حظيت بدعم عدد من الجماعات الإسلامية التي هنأتها بفوزها، مع أنها أعلنت خلال الانتخابات انسجامها مع موقف التيار اليساري في حزبها المؤيد لـ«زواج المثليين» الذي ترفضه الشريعة الإسلامية.
من ناحية ثانية، يرى متابعو المشهد السياسي الأميركي، أن دخول طليب الكونغرس الأميركي شبه محسوم في نوفمبر المقبل بغياب منافس جمهوري على المقعد الذي شغله النائب الديمقراطي جون كونييرز في ميشيغان، منذ عام 1965 حتى ديسمبر (كانون الأول) الماضي. غير أن منظمات صهيونية وإسرائيلية عدة بدأت بالفعل حملة ضد طليب، مطالبة إياها بضرورة إعلان موقفها من إسرائيل والعداء للسامية، كما بدأت جماعات جمهورية عدة حملة ضدها بسبب معارضتها سياسة الإدارة الجمهورية الحالية.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.