ليوجييه: حضارة كونية واحدة لا حضارات عدة

العالم الفرنسي يرد على نظرية «هنتغتون» في كتاب جديد

ليوجييه: حضارة كونية واحدة لا حضارات عدة
TT

ليوجييه: حضارة كونية واحدة لا حضارات عدة

ليوجييه: حضارة كونية واحدة لا حضارات عدة

في فكرة مضادة لحتمية صراع الحضارات، حسب عالم الاجتماع الأميركي صموئيل هنتغتون في كتابه الشهير «صراع الحضارات»، الذي أصدره بداية التسعينات، يقدم رفائيل ليوجييه عالم الاجتماع أستاذ الفلسفة الفرنسي بجامعة «إكس أون بروفانس»، في كتابه «لن تكون هناك حرب حضارات»، الصادر مؤخرا عن دار النشر الفرنسية «سي إن أر إيديسسون» نظرية مغايرة تماما. فهو يرى أن العالم لن يشهد ما يسمى بـ«صدمة أو حرب الحضارات» لسبب واحد فقط يكمن في أن العالم ليس به سوى حضارة واحدة فقط وليس عدة حضارات. بل ذهب ليوجييه إلى ما هو أبعد من ذلك، داعيا إلى حتمية وسرعة إزالة الحدود بين الدول، لأننا نمثل في النهاية حضارة واحدة فقط، وهي الفكرة التي تمثل جوهر كتابه هذا على مدار صفحاته البالغة 240 صفحة من القطع المتوسط.
تكتسب نظرية العالم الفرنسي أهمية خاصة ليس فقط لأنها جاءت من جانب عالم رفيع الشأن في هذا المجال، ولكن أيضا من منطلق حرصه على تدعيم نظريته بالحجة والبرهان، لا سيما في ظل تقدم علم تكنولوجيا المعلومات الذي قرب المسافات وتجاوز الحدود، فأضحى من الطبيعي أن نجد رد الفعل في منطقة الشرق الأوسط سريعا للغاية بشأن واقعة محددة في أوروبا على سبيل المثال. ومن ثم يرى ليوجييه أننا أمام وضع يفرض استبعاد فكرة صدام أو حرب الحضارات، بل على العكس من ذلك، فإن المشهد الجديد الذي يحياه المواطن الطبيعي في جميع بقاع الأرض إنما يفرض علينا جميعا التعاون فيما بيننا والتفكير بشكل تكاملي وتعاوني وليس بشكل صدامي وتنافسي.
لم يكتف العالم الفرنسي بالرد على نظيرة هنتغتون، ولكنه ساق ردا قويا على رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق إيمانويل فالس الذي أكد في أعقاب العمليات الإرهابية التي ضربت بلادة في 2015 على أن هذه التصرفات هي نتاج مايسمى بـ«صدمة أو حرب الحضارات»، رافضا هذه الفرضية تماماً، مؤكدا استحالة حدوث ما يسمى بـ«حرب أو صراع الحضارات» لأنه ليست هناك سوى حضارة كونية واحدة فقط وشاملة، منحدرة من العولمة التي فرضت نفسها مؤخرا علينا جميعا في ظل تطور تكنولوجيا المعلومات.
ويشير ليوجييه إلى قوة العلاقة بين أوروبا من جانب وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، نظرا لعامل الجيرة بين الجانبين، وهو عامل يجب أن يمثل عنصر تعاون وتعايش بين شطري المتوسط. ويقول بهذا الشأن: «إذا كان الجار الشمالي قد اعتدى في السابق على جاره الجنوبي في إطار ما يسمى بالاستعمار الذي فسره البعض على أنه يعد أحد أوجه صراع الحضارات، إلا أن النظرية الفرنسية تؤكد على أن هذا التصرف لم يولد سوى الكراهية والحقد اللذين أصبحا يمثلان ميراثاً تاريخياً مؤلماً لهذا الاحتلال الذي أفسد علاقة الجيرة بين شطري المتوسط».
لكن ليوجييه يرى من جانب آخر أن تكنولوجيا المعلومات قد أخرجت الجماعات الأصولية العنيفة من إطارها التهميشي، فنجحت إلى حد كبير في فرض ونشر آدابها وأفكارها عبر شبكة الإنترنت التي جعلت منها سوقا كبيرة للإرهاب بدعوتها للأصولية، التي أثارت حالة من الفوضى ووجدت أرضا خصبة لها في بقاع كثيرة من العالم، خاصة مناطق الصراع، لا سيما في ظل سياسة «البحث عن كبش فداء» وهو وضع أدى إلى زيادة الرغبة الانتقامية لدى هذه الجماعات الأصولية العنيفة.
وحول البعد الآيديولوجي والديني، يرى عالم الاجتماع الفرنسي أن هذا الصراع ليس صراعا بين أديان مختلفة أو عيبا في دين دون غيره، ولكنه يعود في الأساس إلى صراعات بين تيارات عنيفة مختلفة داخل كل ديانة. وبالتالي فمن غير الإنصاف اتهام دين بعينه دون غيره بالإرهاب أو بالتطرف، لأن الإشكالية ليست في الدين ولكنها في التيارات العنيفة والمتطرفة المختلفة داخل كل ديانة، وهي تيارات تتصارع فيما بينها بعيدا عن صلب الديانات، التي تفسرها وفق حسابات وأهداف ومصالح خاصة، بحسب الكتاب.

عولمة الإرهاب

ورغم ما يشهده عالم اليوم من انتشار بعض الظواهر السلبية مثل ظاهرة الإرهاب على سبيل المثال، إلى أن ليوجييه يتحلى بالتفاؤل إلى حد كبير مؤكدا «أنه على الرغم من وجود صور وأنماط متطرفة تعتمد على آيديولوجيات دينية وسياسية، إلا أن المعتقدات الأساسية للأفراد إنما تتراجع رويدا رويدا كعناصر معارضة للقيم».
كما يرى العالم الفرنسي كذلك أن جميع الديانات تمر اليوم بثلاثة تيارات مختلفة جراء العولمة هي: الروحانية والكاريزمية والأصولية، مشيرا إلى أنها تيارات يمكن أن تتعارض فيما بينها، ولكن لا يمكن لها أبدا أن تتعارض فيما يتعلق بالأديان، كما أن هذه العناصر تشير إلى أن الانفتاح على العالم في ظل تطور تكنولوجيا المعلومات له تأثيره المباشر على الأديان وهو ما يتسق مع ما يدعو إليه ليوجييه حول «الحضارة الكونية الوحيدة» وليست الحضارات المتعددة، ضاربا المثل بـ«الإنترنت» الذي يمثل برأيه إحدى دلالات هذه الحضارة الكونية الوحيدة «كونه، يمثل قوة جبارة ورهيبة في مسألة الانتشار الثقافي دون حدود أو عوائق».
كما يرى المؤلف أن الإرهاب الراهن هو دلالة على ما يسمى بـ«عولمة الإرهاب»، فالأديان لا تتعارض فيما بينها ولكن تياراتها المختلفة هي التي تتعارض وتتناقض تماما فيما بينها، وبالتالي يسوق العالم الفرنسي فكرة متناقضة تماما للقراءة الكلاسيكية للصدمة بين الشرق والغرب وبين الإسلام والمسيحية، مبررا حالة الغضب التي عمت أوروبا جراء تأميم الزعيم المصري جمال عبد الناصر لقناة السويس في عام 1956، بأنه كان استشعارا لفكرة العيش في عالم واحد، وأن الخطر في أي منطقة من هذا العالم يؤثر على المناطق الأخرى، لكن وجهة النظر هذه تظل محض افتراض من الكاتب، وهي، على أية حال، حجة ضعيفة.



أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟