محمود درويش متحالفاً مع الخلود... منقباً عن فلسطين الأعماق

10 سنوات على غياب صاحب «الجدارية»

محمود درويش متحالفاً مع الخلود... منقباً عن فلسطين الأعماق
TT

محمود درويش متحالفاً مع الخلود... منقباً عن فلسطين الأعماق

محمود درويش متحالفاً مع الخلود... منقباً عن فلسطين الأعماق

لم يكن محمود درويش يحتاج إلى غيابه الجسدي لكي يتيح لنا أن نقف في ضوء هذا الغياب على المساحة الشاغرة التي خلفها وراءه.
ولم يكن الشاعر عرضة للتجاهل والغبن وسوء الفهم لكي نقول: لا بد من موته لكي ننتبه إليه. ذلك أن أحداً في دنيا العرب، ربما باستثناء نزار قباني، لم يكن ليملك تلك الكاريزما الآسرة التي امتلكها درويش منذ بداية شهرته في فلسطين المحتلة وحتى تحوله إلى أيقونة حقيقية في سني حياته الأخيرة. وهو من بين الشعراء القلائل الذين أمكن لأمسياتهم ولقاءاتهم مع الجمهور أن تتحول إلى تظاهرات حاشدة يتنادى لها الناس من مختلف الشرائح والأمزجة والأهواء الفكرية والسياسية، وتغص بها القاعات والمحافل ومدرجات الجامعات وملاعب كرة القدم. وفي حين ظلت النجومية في العالم العربي صناعة مقتصرة على المطربين والممثلين، فقد عرف درويش كيف يجسد بنضارة نصوصه وديناميتها، كما بالوسامة اللافتة التي لم تفارقه كهلاً، ما سماه الكاتب الآيرلندي جيمس جويس «صورة الفنان في شبابه». وحيث راح بعض الشعراء يردون على واقعهم المزري وفقرهم وتهميشهم من قبل السلطة أو المجتمع، عبر الصعلكة والتقوقع الشخصي وتدمير الذات، فإن الظروف القاسية التي واجهت درويش في الوطن المحتل وخارجه لم تزده إلا تشبثاً بصورة الشاعر الأنيق و«الأرستقراطي» الذي يعرف متى يقترب من الآخرين، ومتى يحتجب عنهم، والذي يرى في الشعر رديفاً للكرامة والجمال والترفع، لا للمهانة والتسكع والسلوك العدمي. فإذا كان لا بد من الجنون، فليكن بالنسبة له من داخل النص وعبره، وإذا كان لا بد من الصعلكة فلتكن عن طريق الانقلاب على المتن المتوارث والبلاغة السائدة.
لكن السؤال الأكثر إلحاحاً في هذا السياق لا يتعلق بالمكانة التي اكتسبها محمود درويش في حياته، بل بالعوامل المختلفة التي وفرت لاسمه ولشعره أن يظلا، بعد عشر سنوات من موته، راسخين أشد الرسوخ في الوجدان العربي والإنساني. وما على أي منا سوى التأمل قليلاً في مواقع التواصل الاجتماعي لكي يتبين له المدى الواسع لتفاعل الآلاف مع نتاج درويش، واستشهادهم بنصوصه الشعرية والنثرية، لا حين تحضرهم مأساة فلسطين فحسب، بل في شتى المواقف والمناسبات المتعلقة بشؤون الحياة في مباهجها ومكابداتها.
وفي حين أن عشرات الشعراء الفلسطينيين والعرب ممن يدينون بنجوميتهم إلى الرافعتين الآيديولوجية والإعلامية، قد عادوا بعد رحيلهم إلى كنف النسيان المطبق، لا يزال اسم درويش يحتفظ ببريقه السابق، ويلتف من حوله قراء ومتابعون كثر من الأجيال القديمة أو الصاعدة. والحقيقة أن القيمة المضافة لمكانة صاحب «سرير الغريبة» لا تتعلق بالقضية العادلة التي حمل لواءها مع كثر غيره، بل بإيلائه الشعر كل عنايته ووقته، وجعْله له جوهر حياته ومعنى وجوده الأهم. فهو لم يركن في مسيرته الشاقة إلى الموهبة وحدها، ولم ينم على حرير التعاطف التلقائي والمسبق للجمهور الواسع الذي هتف في وجهه ذات يوم «أنقذونا من هذا الحب القاسي». وهو أيضاً لم يستسلم لإغواء السلطة التي وصل يوماً إلى سدتها في قيادة منظمة التحرير، بل وضع كل ذلك خلف ظهره وانتهج الطريق الأصعب لخوض معركته القاسية والقاتلة مع الكلمات. ومن يتتبع المجموعات الأولى للجيل الذي انتمى إليه الشاعر لن يعثر على فروق تُذكر بينه وبين أقرانه، فيما تكشف أعماله اللاحقة عن ثقافة واطلاع عميقين، وعن تبتل روحي قارب حدود التنسك، وعن نزف نفسي وجسدي ما لبث أن قاد شرايينه الواهنة إلى الانفجار.
كانت «هجرة» محمود درويش من فلسطين باتجاه العالم الأرحب في مطلع سبعينات القرن الفائت أول الأثمان التي كان لا بد من دفعها في سبيل تطوير لغته وإخراجها من دائرة الكتابة الخام والفضفضة الغنائية والتحريض المباشر باتجاه الترميز والتكثيف الدلالي والأسئلة الإنسانية العميقة. فضلاً عن أن تلك الهجرة كانت، رغم ما سُدد باتجاهه من سهام التجريح، أكثر من حاجة ملحة لاستكناه فلسطين الأعماق واستردادها عبر الشعر بما هي بحث مضن عن قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، لا بوصفها مساحة جغرافية محددة. ولدى إقامته في بيروت أظهر درويش انحيازاً واضحاً للشرط الإبداعي في وجه اللافتات السياسية والتعليب الآيديولوجي المحْكم، وهو ما يفسر رده الانفعالي على من طالبه بقراءة قصيدته الشهيرة «سجل أنا عربي» بقوله غاضباً «سجل أنت!». ولم يكن ذلك ليعني بأي حال تنصل الشاعر من القضية التي حملها في قلبه وشعره حتى النهاية، بل يعني تراجعاً عن مقولاته السابقة حول مصالحة الشعر مع الجمهور الواسع، ولو اقتضى ذلك تنازل الشاعر عن بعض سقوفه الإبداعية العالية. وهو ما جسدته بوضوح قولته الشهيرة:
قصائدنا بلا طعمٍ بلا صوتِ
إذا لم يفهم البسطا معانيها
إذا لم تحمل المصباح من بيتٍ إلى بيتِ
وإن لم يفهم البُسطا معانيها
فأوْلى أن نذرّيها
ونخْلد نحن للصمتِ
وحيث مثلت قصيدته «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا» بداية مغادرته لمرحلة الغناء الرومانسي، وانعطافته نحو التكثيف واستخدام الرمز، عاش درويش في بيروت، التي كانت عشية حربها الأهلية موزعة بين مغامرة الحداثة وبين التدجين الثقافي والآيديولوجي، لحظات صعبة ومكلفة على صعيد العلاقة بجمهوره.
وما زلت أذكر كيف انسحب العديد ممن وفدوا للاستماع إليه في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية ليلتحقوا بأمسية مظفر النواب في كلية الحقوق، بعد أن أرهقتهم مواكبة قصيدته الطويلة والآهلة بالرموز «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق». لا بل إن الراحل شفيق الحوت اضطر في أمسية أخرى، وأثناء قراءة درويش لقصيدته «أحبك أو لا أحبك»، أن يطرد أحد الطلاب «اليساريين» من القاعة بعد أن احتج هذا الأخير على ما اعتبره «تلهي» شاعر المقاومة المفترض بأمور الحب، في اللحظة التي تتعرض فيها المقاومة الفلسطينية للضرب على يد الجيش اللبناني.
بذل محمود درويش من جهة ثانية جهوداً ضارية للتخلص من كل أولئك الذين وقع تحت تأثيرهم في مقتبل تجربته، والذين بدت ظلالهم واضحة في نصوصه الأولى من مثل السياب ونزار قباني وأدونيس وصولاً إلى لوركا ونيرودا. لكنه بالضراوة ذاتها تصارع مع نفسه وظل ينقلب على منجزه السابق بين مجموعة وأخرى.
ومع ذلك فإن نذُر موهبته العالية لم تكن غائبة عن بعض قصائده الشفافة والغنية بالترجيعات، من مثل:
مطرٌ ناعمٌ في خريف بعيدْ
والعصافير زرقاءُ زرقاءُ والأرض عيدْ
لا تقولي أنا غيمة في مطارْ
فأنا لا أريدْ
من بلادي التي سقطتْ من زجاج القطارْ
غير منديل أمي وأسباب موتٍ جديدْ
على أن الشاعر منذ مجموعته «محاولة رقم 7» الصادرة أوائل السبعينات، مروراً بقصيدة «الأرض» و«أحمد الزعتر» ووصولاً إلى «بيروت» و«مديح الظل العالي» راح يؤالف بين الترجيع الغنائي المترع بالحنين وبين النفس الملحمي الذي تتقاطع في مناخاته الأسطورة والتاريخ والرموز الصوفية المختلفة. وهو المنحى الذي عمّقه لاحقاً في نصوص «الهدهد» و«مأساة النرجس وملهاة الفضة» و«حجر كنعاني في البحر الميت»، كما لو أنه أراد أن يكون هوميروس الجديد الذي يؤرخ للتغريبة الفلسطينية، ويعصم الذاكرة الجمعية من التلف.
ومع ذلك فقد شعر محمود في منتصف الثمانينات، وبعيد أزمته القلبية الأولى، بأنه يكاد يستنزف لغته وإيقاعه الإنشادي ومراثيه وموضوعاته الأثيرة. لذلك فقد راح يبحث عن أفق للكتابة بعيد عن القصيدة «الشاملة» التي تقول كل شيء، والتي تزخر باللغة الهادرة والصور الباذخة والإيقاع العالي الذي يأخذه البحر الكامل نحو فضاءات صوتية يصعب لجمها. ولم يكن ابتعاده عن «الكامل» واختياره لـ«المتقارب» نموذجاً إيقاعياً وحيداً ينتظم قصائد مجموعته «ورد أقل»، سوى الترجمة العملية لتبرمه بالغنائية المفرطة وجنوحه نحو موسيقى أكثر خفوتاً تسمح للغة الدرامية بالتنامي، وتتواءم مع خلجات النفس وتوترات الداخل. ليس ثمة هنا من معلقات ومطولات نافلة، بل سونيتات قصيرة نسبياً تتحلق كل منها حول مشهد أو فكرة أو تفصيل حياتي أو حوار مونودرامي يتصل بالفرد كما بالجماعة:
مطار أثينا يوزعنا للمطارات
قال المقاتل: أين أقاتل؟
صاحت به حاملٌ: أين أهديك طفلك؟
قال الموظف: أين أوظف مالي؟
فقال المثقف: مالي ومالكَ!
قال رجال الجمارك: من أين جئتمْ؟
أجبنا: من البحر
قالوا إلى أين تمضون؟
قلنا: إلى البحر...
كان مطار أثينا يغيّر سكانه كل يوم
ونحن بقينا مقاعدَ فوق المقاعد ننتظر البحرَ
كم سنة يا مطار أثينا!
كما أن المتابع لتجربة درويش بعد خروجه من بيروت لا بد أن يلحظ اهتمامه المتنامي بتعميق ثقافته، التي راحت تغرف من غير مَعين وتتسع دائرتها لتشمل الفلسفة والفكر السياسي والنقدي والتاريخ وعلمي النفس والاجتماع وغيرها من القراءات والدراسات اللغوية والدينية والنقدية. وهو ما عكسته بوضوح موضوعاته المتصلة بمعنى الحياة والموت والزمن والحب والغياب، إضافة إلى تكثيف صوره وتنويع موضوعاته وعنايته بالتفاصيل المحسوسة وتعميق أسئلته الإنسانية. وإذا كان شاعر متميز بمهارة درويش قادراً على إخفاء مصادره المعرفية وتذويبها داخل النص الشعري، فإننا رغم ذلك نستطيع أن نتعقب في بعض نصوصه آثار الكتب التي شغف بها، فتعيدنا قصيدة «خطبة الهندي ما قبل الأخيرة» إلى كتاب تودوروف «فتح أميركا»، وتعيدنا قصيدة «الهدهد» إلى كتاب «منطق الطير» لفريد الدين العطار، وتعيدنا «قناع مجنون ليلى» إلى كتاب «سوسيولوجيا الغزل العربي» للطاهر لبيب، و«لو ولدت» إلى «الهويات القاتلة» لأمين معلوف، حيث نقرأ له قوله عن الهوية المركبة:
لو ولدتَ من امرأة أسترالية وأبٍ أرمني
ومسقط رأسك كان فرنسا
فماذا تكون هويتك اليوم؟
طبعاً ثلاثية
كما أن افتتانه بالرواية ورغبته المتعذرة في كتابتها قد تمثلا بشكل واضح في أعماله النثرية المتميزة التي تضاهي شعره في توهجها وثرائها ونقائها البلوري، كما في شغفه بالسرد الشعري حيث نعثر في الكثير من قصائده على نتف متناثرة من سيرته الشخصية ووقائع حياته، وهو ما نجده على الأخص في دواوينه «لماذا تركت الحصان وحيداً» و«كزهر اللوز أو أبعد» و«الجدارية»، وصولاً إلى عمله الأخير «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»:
كان يمكن أن لا يكون أبي
قد تزوج أمي مصادفة
أو أكونْ
مثل أختي التي صرخت
ثم ماتت ولم تنتبه
إلى أنها وُلدت ساعة واحدة
ولم تعرف الوالدة
أو كبيض حمامٍ تكسّر
قبل انبلاج فراخ الحمام من الكلس
ولأن درويش كان شاعراً قلقاً بامتياز فهو لم يكن يأنس إلى أسلوب بعينه أو إيقاع محدد أو بنية بذاتها. فالشعر عنده ليس رديفاً للنمط المتماثل والتسليم اليقيني، بل رديف الشكوك والتجدد والانقلاب على الذات. ولأنه لم يكن وفياً لغير الحرية فقد كان يكتب المطولة جنباً إلى جنب مع الشذرة الخاطفة، وينتقل من قصيدة الكشوف العميقة ذات البعد الصوفي باتجاه البوح الغنائي البسيط، ويلح على التقفية المتماثلة حيناً ويتخلى عنها بالكامل حيناً آخر. وهو في ذروة مغامرته الأسلوبية والإيقاعية لم يتردد في العودة بين حين وآخر نحو النظام الإيقاعي الخليلي.
أما صوره المشهدية المنتزعة من كافة عناصر الطبيعة وتشكلاتها فكانت تتناغم مع الجرس الأشد عذوبة لمفرداته وتعابيره لتجعلا من نصوصه لوحات سمعية - بصرية أخاذة. واللافت في هذا السياق اقتصار شعره على بحور قليلة كالكامل والمتقارب والوافر والرمل، فيما بدا تجنبه لـ«الخبب» تعبيراً عن ضيقه بالخفة الراقصة لهذا البحر، كذلك الأمر بالنسبة لـ«الرجز» الذي لا تتلاءم إيقاعاته «الملجومة» نسبياً مع استمراء الشاعر للتحليق في فضاءات إيقاعية مفتوحة. ومع أن درويش قد أبدى نفوراً واضحاً من محاولات تعليبه وإلحاقه التعسفي باللافتات الكيانية والشعارات السياسية الفجة، فإن إخلاده إلى الأعماق الأخيرة لمكابدات نفسه قد وفر لشعره سبل التعبير عن مكابدات البشر جميعاً على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم وهوياتهم الشخصية.
ولعل ما يجمعه بالمتنبي، إضافة إلى قوة موهبته ورهافة إحساسه وفرادة لغته وصوره، هو قدرته على اختزال المواقف والهواجس الإنسانية المشتركة بعبارات مكثفة تقترب من الحكم والأمثال السائرة ويرددها الناس أينما وجدوا، من مثل قوله «وطني ليس حقيبة / وأنا لست مسافر»، أو «إنا نحب الورد لكنا نحب الخبز أكثر»، أو «ومن لا برّ له \ لا بحر له»، أو «يدعو لأندلس إن حوصرتْ حلبُ». أما قولته الشهيرة «هزمتك يا موت الفنون جميعها» فبدت أقرب إلى الحدس الشخصي بما ستؤول إليه قصائده ونصوصه الفريدة، التي ستظل لسنوات كثيرة قادمة ترفد بماء الاستعارات صحارى العرب القاحلة وزمنهم المقفر.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.