وقفة أمام رف دوستويفسكي

ما نجده في الكتب القديمة

دوستويفسكي
دوستويفسكي
TT

وقفة أمام رف دوستويفسكي

دوستويفسكي
دوستويفسكي

بعد أيام من الوجبات الخفيفة يقول أحدنا لنفسه «أنا بحاجة إلى وجبة دسمة». الوجبة الدسمة هي اللحم.
ولكي تكون الوجبة دسمة بحق، فهي كمية وفيرة من اللحم الصريح، وليس العينات الصغيرة التي تقدمها المطاعم الراقية من ذلك الشيء الرخو، الذي غادر أصله الحيواني تحت المعالجة بصلصات ملونة والمجلل بتاج من إكليل الجبل، الأمر الذي ينزع عنه صفته المادية ويجعله حالة جمالية للمشاهدة لا الأكل.
في القراءة، الوجبة الدسمة هي الروايات الكلاسيكية غالباً.
وقد حملتني رغبتي في شيء دسم على الوقوف أمام رف دوستويفسكي، رف كبد المكتبة الذي يتوسط الصفوف رأسياً وأفقياً. هذا هو صدر المجلس؛ اخترته له تبجيلاً واحتراماً. بعد لحظات حيرة وقع اختياري على «الأبله».
كان بوسعي أن أحمل المجلد الأول وأدع الثاني في مكانه، حيث سيحتاج الأول إلى عدة أيام من القراءة، لكنني أخرجت المجلدين معاً، بإحساس من يلتقي بصديق عائد من غربة سنوات، ويريد أن يعرف كل أخباره دفعة واحدة. هيَّأت مكاناً مريحاً لجلسة ستطول، تأملت الغلاف بالرسم الفطري الذي يليق بهذه الرواية بالذات. بيانات الكتاب تزحم شريطاً رفيعاً أعلى الغلاف: العنوان واسم المؤلف والمترجم سامي الدروبي والمراجع أبو بكر يوسف ورقم المجلد، بينما تحتل اللوحة بقية الغلاف، حيث يقف الأبله في ظلام تبدده هالة القديسين حول رأسه، بينما يرسل نظرة إلى البعيد. قلبت الكتاب، وجدت أن كلمة الغلاف الأخير لدوستويفسكي نفسه، وكنت لا أذكر ذلك. يفصح فيها عن الرغبة التي حملته على تأليفها «فكرة الرواية هي فكرتي القديمة المحببة والصعبة، إلى درجة أنني ظللت طويلاً لا أجرؤ على تناولها... والفكرة الرئيسية للرواية هي تصوير إنسان رائع تماماً. ولا يوجد شيء أصعب من ذلك في الدنيا وخصوصا الآن!
فهمت لماذا اخترت دوستويفسكي، ولماذا هذين المجلدين بالذات من بين المجلدات الثمانية عشر التي ترجمها سامي الدروبي. كنت في الحقيقة، أحب أن أقرأ عن شخص رائع تماماً، ولم تكن هذه الرغبة واضحة في ذهني بهذا التحديد عندما مددت يدي. كنت أريد أن أقرأ «شيئاً دسماً» فحسب، لكن الأدب العظيم يستطيع أن يلبي أشواقنا المبهمة التي نعجز عن توصيفها أكثر مما يستجيب للواضح في أذهاننا. باختصار: يحيي الأدب العظيم ما أهملناه في أنفسنا.
الأبله طلب القراءة إذن.
وأول عمل أقوم به عادة قبل البدء في قراءة كتاب مستعاد، أن أفر صفحاته لاكتشاف ما يتربص بي بينها. إجراء يشبه إضاءة البيت وتفقد زواياه الخفية عند العودة من الخارج ليلاً. لكن ما يخفيه الكتاب غالباً هو تذكارات قراءتي السابقة؛ فالكتب كتبي أنا في هذه المرحلة من العمر.
كنت في سنوات قراءتي الأولى أبحث عن آثار الآخرين في الكتب؛ حيث سبقت الرغبة في القراءة القدرة على شراء الكتب. ولست وحيداً في هذا، كل أبناء القرى بدأوا قراءاتهم باستعارة الكتب أو بالعثور عليها في صندوق منسي. ومثلما يتصور أبناء المدينة أن الدجاج يولد وينمو منتوفاً داخل كيس في ثلاجة، يعتقد أبناء القرى أن الكتب مخلوق أزلي صنعه الخالق لتتناقله الأيدي، وليس سلعة تُشترى بالمال. وأعتقد أن هذا التنزيه للكتاب هو السبب الأساسي وراء ظاهرة سرقة الكتب من مكتبات البيع والمعارض. لصوص الكتب الذين أحبهم دون أن أمتلك جسارتهم لا يشعرون بالذنب.
على أية حال؛ فقد جعل الاعتياد على آثار الآخرين من بكارة الكتاب آخر همي. لا أشعر بالغيرة من القراء السابقين بل أتشمم روائحهم بسعادة وأتسلى بالتلصص على أذواقهم في القراءة من خلال الفقرات التي أبرزوها بخربشاتهم، ولم تزل هذه المتعة متاحة من خلال فرشات «بسطات» بيع الكتب المستعملة، التي توفر متعة إضافية لهواة النميمة الأدبية عندما يكتشفون أن إهداء كاتب شهير إلى كاتب شهير آخر انتهى إلى سوق الكتب المستعملة، أو إذا اكتشفوا عبارات تملق من كاتب كبير لسياسي تحت مستوى الشبهات!
قص الأثر في الكتب القديمة لا يقتصر على الفضوليين وهواة النميمة فحسب. قصاصو الأثر الأوائل هم العشاق. ولطالما قامت الكتب بدور رسل الحب بين المراهقين، أحيانا لمضمونها عندما يكون المضمون من النوع الذي يمكن استعارته وإعادة توجيهه إلى الحبيب، مثل دواوين نزار قباني. في رواية «شجرة اللبلاب» لروائي الرومانسية محمد عبد الحليم عبد الله التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني وفيلم سينمائي كان العاشقان يتخيران عبارات بعينها في الكتب يضعان تحتها خطوطاً لتصبح العبارة المختارة رسالة إلى الآخر.
ليس من السهل توجيه رسالة حب من خلال معادلة رياضية أو تفاعل كيميائي، لكن تبقى كتب الدراسة صالحة لاحتواء الرسائل والورود الجافة بين صفحاتها. هذا التلغيم للكتب لم تغفله الجدة العمياء في رواية دوستويفسكي القصيرة «الليالي البيضاء»، فحينما منح المستأجر الشاب الحفيدة روايات لتقرأها على جدتها لم توافق الجدة في البداية على أن تطالع حفيدتها كتباً «تتحدث عن رجال يغوون البنات الفاضلات» وعندما عرفت أنها روايات والتر سكوت أبرزت تحفظها الثاني:
- انظري يا ناستينكا... هل ترين في هذه الكتب بطاقات صغيرة حلوة؟
- لا يا جدتي... ما من بطاقة
- انظري تحت الغلاف! إن هؤلاء الأوغاد يضعونها في كثير من الأحيان تحت الغلاف
قد يتوقف الإنسان عن السعي إلى الحب، لكن الرغبة في التملك طبيعة بشرية لا يهزمها سوى الموت.
عندما صارت لدي كتب تخصني وحدي صنعت ختماً لتأكيد ملكيتي لكتب لا تتجاوز عدد أصابع اليدين. كان هذا حلم المكتبة الكبيرة، قبل أن تصبح حقيقة ويضيع الختم وأفقد معه بهجة الضغطة التي تنتهي بوضع اسمي إلى جانب اسم المؤلف. كان ختمي يتضمن اسمي فقط، حراً بنسخ كلاسيكي ليس داخل إطار كما في الأختام. كانت رغبة في المغالطة «أن يبدو اسمي كما لو كنت مؤلفاً للكتاب وليس مجرد مالك لتلك النسخة». ولم يستمر هذا الولع طويلاً؛ إذ توقفت عن وضع ختم «عزت القمحاوي» بمجرد أن سار حلم امتلاك مكتبة على طريق تحققه.
فقدت اللعبة متعتها، لأكتشف أن أسوأ نتيجة لتحقيق أحلامنا هي أننا نفقدها.
وتعويضاً عن متعة دمغ الكتب صرت أستمتع بآثار قراءاتي السابقة، وقواطع القراءة التي اتخذها من أي شيء أجده في متناول يدي في كل مرة أتوقف فيها عن المتابعة.
أظن أن معظم القراء يفعلون ذلك. وعندما ينتهي أحدهم من الكتاب يعيده إلى مكانه بهذه القواطع عديمة النفع، لتنام بين الصفحات وتصبح جزءاً مما عاشه ذلك القارئ يوماً ولن يعود.
أسفرت عملية تفتيش المجلد الأول للأبله عن بطاقة مطعم أسماك، وورقة كوتشينة تحمل الرقم ثلاثة، وقصاصة من كراس مُسطَّر تحمل الاسم الأول لسيدة «د.ماري» بخط يدي مع رقم تليفونها، ثم دائرة من ورق مقوى مقسمة إلى مثلثات ملونة بيد طفولية.
التلوين يبدو من عمل طفل في الخامسة، لكن من يكون بين أبنائي الثلاثة؟ المعرفة هنا لا تفيد كثيراً لأن أعمارهم متقاربة. المهم أن قراءتي السابقة كانت قبل نحو ربع قرن.
ولم أهتم بشأن مطعم السمك الذي لا أتذكره الآن. ربما كان شواية في كشك صغير على رصيف، وأراد صاحبها أن يتميز فطبع بطاقة تعريف. هذه المبالغات المصرية نعرفها جيداً. نطالع مثلاً على الطرق السريعة لافتة «كافتريا الملوك» على خُص من البوص لاستراحة سائقي النقل، ليس فيه سوى عدة شاي وموقد يدوي وأرجيلة أو اثنتين.
وفي الحقيقة، فإن العامل الحاسم في قتل فضولي تجاه المطعم المنسي هو بيت شعر فرعوني، حيث تخاطب الحبيبة حبيبها مستنكرة عدم انتباهه إلى مفاتنها «أأنت رجل لا هم له سوى بطنه؟!» لا أنسى ذلك البيت لأنه يصنع الشعر من التبكيت العادي الذي يتلقاه جميع الرجال، في حالات الحب والكراهية على السواء.
ليس مهماً أن يكون مطعم السمك موجوداً أو غير موجود الآن، ومن الطبيعي أن ورقة الكوتشينة هي مجرد ورقة كوتشينة طالما لا تحمل ذكرى رهان خسرت فيه شقتي. لم تبق إلا الدكتورة ماري التي تلبسني بشأنها فضول مثير للأسى. لماذا اكتفيت باسمها الأول؟ ليست مشروع حب تكاسلت هي أو تكاسلت أنا عنه؛ فأرقام من يقعن في المجال الحيوي للحب لا تُحفظ هكذا على قصاصة مهملة، كما أنني لا أذكر واحدة بهذا الاسم في مجال عملي، ربما كانت طبيبة أطفال نصحني بها أحدهم ولم أعمل بالنصيحة.
اشتد بي الفضول لمعرفة المرأة المنسية، فقلت لنفسي: معرفة الرجال كنوز. وأحسست بحق أنني في حاجة إلى صحبة رجل رائع «وخصوصا الآن» فشرعت في استعادة سيرة الأمير ليون نيكولايفيتش ميشكين.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.