«المد الإيراني» يثير استنفاراً في موريتانيا

سفارة طهران تمول جمعيات «مشبوهة» وتوفر منحاً للدراسة في «الحوزات»

الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)
الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)
TT

«المد الإيراني» يثير استنفاراً في موريتانيا

الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)
الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)

عادت الأجواء إلى طبيعتها في حي «دار النعيم» بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، منذ أن وضعت وزارة الشؤون الإسلامية يدها على المسجد الذي ظل لسنوات محل توجس من طرف السكان، وكانت خطب إمامه تثير الكثير من اللغط والتخاصم كل أسبوع، لقد كان القائمون على المسجد يعتبرونه أول وأكبر حسينية في موريتانيا، وتشرف السفارة الإيرانية في نواكشوط على تمويله عبر جمعية مشبوهة.
كانت تلك هي بداية استراتيجية حكومية في موريتانيا، الهدف منها الحد من المد الإيراني الذي أصبح يشكل خطراً حقيقياً على تماسك المجتمع الموريتاني، على حد تعبير مصدر رسمي قال لـ«الشرق الأوسط»، إن زمن التغاضي عن أنشطة الإيرانيين في موريتانيا «قد ولى إلى غير رجعة».
وأضاف المصدر ذاته، الذي فضل حجب هويته، أن موريتانيا «لن تقبل بأي نشاط من شأنه أن يهدد أمنها الداخلي، كما لن تقبل بأي خطط لتغيير مذهبها المالكي المتسامح والوسطي، ولن تسمح بالتأثير على طبيعة مجتمعها المسالم». وأوضح المصدر، أن «الحكومة والجهات الأمنية مطلعة على التفاصيل كافة بخصوص النشاط الإيراني في البلاد، وسوف يتم تجفيف منابع هذه الأنشطة».
وبدأت الاستراتيجية الموريتانية بمصادرة «مجمع الإمام علي ابن أبي طالب» في العاصمة نواكشوط؛ وذلك بسبب ارتباطه المشبوه بالسفارة الإيرانية، كما سبق وأن وجهت السلطات الموريتانية تحذيرات كثيرة إلى القائمين على المجمع الذي يضم مسجداً وبعض المنشآت الدينية، في ظل أنباء عن تحويله من طرف بعض الشخصيات المشبوهة إلى «حسينية»، هي أول حسينية في موريتانيا، مع رواج أنباء تتحدث عن تأسيس «حسينيات» أخرى في مناطق من العاصمة نواكشوط تعمل «بشكل سري»، وتسير من طرف أشخاص مرتبطين بالسفارة الإيرانية.
عزلت وزارة الشؤون الإسلامية، الوصية على المساجد والمنشآت الدينية في موريتانيا، إمام «مجمع علي بن أبي طالب»، ومنعته من مزاولة أي نشاط ديني في البلاد، كما وضعته تحت المراقبة الأمنية لفترة غير محددة، في المقابل قامت بتعيين إمام جديد للمجمع، كما فتشت بعثة من الوزارة المجمع وتجولت في مختلف أجنحته، وجمعت المقتنيات والوثائق كافة العائدة إلى «جمعية آل البيت» التي يتبع لها المجمع، وهي جمعية مرتبطة بالسفارة الإيرانية في نواكشوط، ولديها علاقات مشبوهة مع «حزب الله» اللبناني، يقودها شخص يدعى «بكار ولد بكار» سبق أن سافر مرات عدة إلى إيران والتقى مسؤولين وقيادات في طهران.
وحول مدى جدية الخطر الذي تمثله أنشطة الإيرانيين في موريتانيا، قال الأستاذ الجامعي والدكتور عبد السلام ولد حرمه، في حديث مع «الشرق الأوسط» شارحاً «نحن نجزم ونؤكد بما لدينا من قرائن وأدلة، وما لدينا من حقائق في التاريخ وتجاربه، أن إيران لديها مشروع يشكل خطراً حقيقياً على موريتانيا، وعلى شبه المنطقة في غرب أفريقيا». وأضاف ولد حرمه، الذي يرأس حزباً سياسياً معارضاً، أن «المشروع الإيراني في موريتانيا يجسد أطماعها التي تتمثل في شهوة السيطرة والتحكم، ووضع اليد على بنية المجتمعات الإسلامية، مستغلة في ذلك طبيعة المذهب الزيدي الذي تعتبر نفسها ممثلة له في العالم الإسلامي، لكن إيران لا تمثل أي مذهب ديني، وإنما تدعو إلى مذهب خاص يخدم سياساتها وأطماعها التوسعية».
ويؤكد ولد حرمه، أن المشروع الإيراني يستهدف موريتانيا لسببين رئيسيين يتعلقان بموقعها الاستراتيجي وثرواتها، واستطرد «لقد سبق وأن حذرت، ومعي عدد من الباحثين الموريتانيين، من أن المشروع الإيراني في موريتانيا أصبح خطيراً، ويشكل تهديداً حقيقياً لأمن البلاد»، وأشار إلى أن البحوث التي أجروها تؤكد أن «المشروع الإيراني يقوم على سببين أساسيين: أولهما أن موريتانيا تملك موقعاً استراتيجياً مهماً بين غرب القارة الأفريقية وشمالها، أما السبب الآخر فهو أن موريتانيا لديها مخزون كبير من الثروات ينتظر أن يبدأ استغلاله من طرف القوى العالمية في السنوات القليلة المقبلة، وإيران لديها أطماع في هذه الثروات».
لقد ارتبطت إيران في أذهان الكثير من الموريتانيين «بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكونها قوة ممانعة وصمود». وهي صورة صنعتها وروجت لها قناة «الجزيرة» خلال السنوات الماضية، عندما كانت تظهر زعيم «حزب الله» اللبناني بطلاً يقف في وجه العدوان الإسرائيلي على فلسطين، كما ساعد تيار الإخوان المسلمين في موريتانيا في تضخيم هذه الصورة والترويج لها بقوة. وتعليقاً على هذه الصورة، يقول الدكتور ولد حرمه «إيران في الخريطة الجيوسياسية العالمية تستخدم رهان أنها تمثل جزءاً من العالم الإسلامي، وأن هذا الجزء هو المضطهد، كما ترفع شعار مقاومة إسرائيل، في حين أن كل ما تقوم به هو لصالح إسرائيل، وتتقاسم معها النفوذ والاحتلال والسيطرة في الكثير من المناطق».
وحول تغلغل الأذرع الإيرانية في المجتمع الموريتاني، قال ولد حرمه، إن «إيران تستخدم أساليب كثيرة لزيادة نفوذها داخل المجتمع الموريتاني، الأسلوب الأول هو استغلال مظلومية خطيرة تتعلق بحب آل البيت والتشيع لهم، وهذا المطلب يجد تربة سهلة الارتواء لدى المجتمع الموريتاني الذي جُبل بفطرته وطبعه وتكوينه على حب آل البيت»، لكن ولد حرمه يضيف، أن «هذه المظلومية أضافت عليها إيران شعاراً آخر، هو أنها دولة مقاومة، أي أنها تقاوم إسرائيل وتريد تحرير فلسطين وتقف في وجه الغطرسة الأميركية، وهذه الكذبة والفرية انطلت للأسف الشديد على كثير من خيري هذه الأمة».
ويوضح ولد حرمه، أنه «حتى بعد أن ظهرت إيران على حقيقتها وكشّرت عن أنيابها، ومارست القتل والتدمير والخراب والدمار والاحتلال في أجزاء واسعة من الوطن العربي، بل وتحالفت مع الغرب في أجزاء منه، وتحالفت مع إسرائيل لتدمير أجزاء أخرى، وتحالفت مع القوى الظلامية التي تمتهن القتل والتكفير، بقي أناس في موريتانيا يعتبرون أنها قوة مقاومة؛ وللأسف هذان الشعاران: محبة آل البيت والمقاومة، يجدان صدى قوياً في أذهان العامة من الموريتانيين».
اليوم، يدعو ولد حرمه السلطات الموريتانية إلى عدم الاكتفاء بإجراءات آنية للوقوف في وجه الخطر الإيراني، ويؤكد أن الاستراتيجية الموريتانية يجب أن تكون متعددة الأبعاد، ويقول في هذا السياق «لا بد من أن يكون وقوفنا في وجه الخطر الإيراني وقوفاً جاداً وحقيقياً، وهو في حقيقته وقوف متعدد الأبعاد، منه ما هو ثقافي وفكري وتعليمي وتربوي؛ وذلك من أجل تحصين الأنفس وتعزيز الدفاعات الروحية والنفسية والمعنوية». وهو يرى أنه من الضروري أن «نزرع في شبابنا أن إيران لا تمثل محبة ولا نصرة آل البيت، كما أنها لا تمثل قيادة مقاومة ولا قيادة صمود». هي تمثل مذهباً محرفاً هو المذهب الشيعي الذي تم تحريفه ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي في عهد الدولة الصفوية، وتستغله هي الآن لزيادة نفوذها وسيطرتها وتحكمها ومطامعها غير المشروعة في محيطها وجوارها العربي».
ويستغرب ولد حرمه من استخفاف عدد من الموريتانيين بخطورة المد الإيراني، فيقول «كيف يقللون من أهميته وهو الآن يشتغل في شبابنا وفي بعض مساجدنا، حتى أنه يشتغل داخل بعض جامعاتنا وبعض ما نسميه منابرنا السياسية، لقد أصبح خطراً وشيكاً، ونحن في أمسّ الحاجة إلى الانتباه له والتعامل معه بجدية؛ لأن بلدنا يُعدّ بوابة الساحل الأفريقي».
في ظل المخاوف التي تراود الطبقة السياسية والمثقفين في موريتانيا من تزايد الخطر الإيراني المحدق بالبلاد، تتجه الأنظار لما تشهده منطقة الساحل الأفريقي من نشاط للجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة وتنظيم داعش، وهي منطقة لا تبعد سوى مئات الكيلومترات عن المدن الموريتانية.
في هذا الإطار، يعتقد الكثير من المراقبين أن الخبراء الإيرانيين عندما استهدفوا دولاً مثل موريتانيا والمغرب والجزائر، كانوا يسعون من وراء ذلك إلى دخول منطقة الساحل الأفريقي، التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى بيئة خصبة لنشاط جماعات الإرهاب والتهريب، وهي بيئة جاذبة للأنشطة الإيرانية، وبخاصة في ظل ثرواتها الكبيرة من اليورانيوم، والنفط، والغاز، والذهب.
ووفق ولد حرمه، فإن «القوة الناعمة لموريتانيا، وبلدان المغرب العربي، يقع مجال تأثيرها القوي في منطقة الساحل الأفريقي، ومن الطبيعي أن يصل من أثر في موريتانيا إلى هذا الساحل ويتمدد عبره، كما أنه من الطبيعي أن تكون موريتانيا هي الحصن الأول أو جدار الدفاع لمن يريد اقتحام هذا المجال».
غير أنه يعتقد، أنه «ما دام الساحل الأفريقي يعيش في فوضى عارمة، حيث لا توجد قوة تسيطر عليه وتتحكم فيه، فإنه لا شك يعد مجالاً مشاعاً لمن يبحث عن النفوذ والقوة، وهنا تتحالف إيران رغم تناقضها العقدي مع الحركات الإرهابية، كل منهما يجد سنده في الآخر، إيران تمول هذه الحركات لتشكل لها يداً وذراعاً تحركهما في المنطقة، بينما تجد هذه الحركات لدى إيران ما تحتاج إليه من مساندة ودعم وتمويل ورعاية ودعم وإسناد». لكن مخططات إيران لامتلاك موطئ قدم في منطقة الساحل الأفريقي، لم يقتصر على البوابة المغاربية، وإنما نجد آثاراً لهذه الخطط في منطقة بحيرة تشاد، وتحديداً في شمال شرقي نيجيريا، حيث يعد أتباع المذهب الشيعي بالملايين، وتحاول بعض الجمعيات المرتبطة بطهران إحداث «ثورة إسلامية» وإقامة نظام ملالي في المنطقة. وشكلت هذه الجمعيات التي ترعاها إيران وتمولها سفاراتها في شبه المنطقة، حاضنة الكثير من الشخصيات التي برزت فيما بعد ضمن قيادة جماعة «بوكو حرام»، التنظيم الأكثر دموية في تاريخ القارة السمراء، والذي ارتبط في نشاطه الإرهابي بعلاقات وطيدة مع تنظيم القاعدة ثم «داعش».
ويعتقد ولد حرمه أن خطر الدور الإيراني المشبوه في أفريقيا «انتبهت إليه دول المغرب العربي وتعاملت معه بصرامة، مثل المملكة المغربية التي قطعت علاقاتها بطهران وأغلقت مراكزها الثقافية، كما تعاملت معه أيضاً الجزائر بصرامة قبل عامين، وهذا ما يؤكد أنه خطر ماثل ومحدق».
منذ سنوات غيّرت إيران استراتيجيتها في موريتانيا، فبدل استهداف المساجد والزعامات الدينية، توجهت السفارة الإيرانية في نواكشوط نحو قطاع التعليم، وأصبحت توزع منحاً دراسية مجانية على الطلاب الموريتانيين، وذلك عبر وسطاء يبحثون في أوساط الشباب عن المهتمين بإجراء دراسات عليا في مجال الشريعة الإسلامية والبحوث الإسلامية، واستفاد من هذه المنح عشرات الطلاب الموريتانيين، والبعض يتحدث عن المئات. ولكن السلطات الموريتانية في إطار استراتيجيتها الجديدة منعت هذه المنح الدراسية، وأصدرت قراراً رسمياً بتوقيفها بشكل رسمي؛ لأنها تشكل خطراً على وحدة المجتمع وتماسكه، ووجهت السلطات الموريتانية رسالة إلى السفير الإيراني بنواكشوط أبلغته فيها بمنع هذه المنح الدراسية، وطلبت منه التوقف عن جميع أنشطته في مجال التعليم؛ لأنها تشكل تهديداً لأمن البلاد.
وقال مصدر من وزارة التعليم الموريتانية لـ«الشرق الأوسط»، إن الكثير من الشباب الحائزين شهادة البكالوريا كانوا يتدافعون للحصول على المنح الدراسية الإيرانية؛ بسبب الإغراءات التي تقدم لأقرانهم، لكنهم عندما يصلون إلى إيران يجدون أمامهم مناهج دراسية مختلفة تماماً عن تلك التي سافروا من أجل دراستها.
في هذا السياق، يقول عبد السلام ولد حرمه «لدينا وثائق ومعلومات دقيقة تشير إلى أن هنالك عشرات، إن لم نقل المئات من الطلاب الذين يذهبون إلى ما يسمى بالحوزة العلمية في قم وطهران لتلقي الدراسات، وهذا تصدير للمذهب الغريب على هذا البلاد، والغرض الأساسي هو خدمة نفوذ دولة معينة وأطماعها». ويضيف «أرى أننا يجب أن نكون حازمين وصارمين في مواجهة هذا الخطر؛ إذ إنه لا فرق بين الخطر الذي تشكله القاعدة وذلك الذي تشكله إيران وسياساتها التوسعية؛ فكل من هذه الأخطار مدمر ويزعزع الأمن ويقوم بتفتيت المجتمع».
ويخلص ولد حرمه إلى القول، إن «الكثير من المثقفين والسياسيين ورجال الدين أطلقوا تحذيرات من خطورة المشروع الإيراني في موريتانيا، فهذا المشروع لم يعد وهماً لقد أصبح حقيقة ماثلة للعيان، ومن غير المقبول أن نسمح لسفارة دولة ما أن ترعى نشر ثقافة ومذهب نتيجته النهائية هي الاقتتال والتشرذم والتفتيت، ولا يجوز أيضاً أن نتساهل مع جهة تكتتب شبابنا، وتلعب بحقلنا الديني والثقافي وأمننا الروحي وتوظفه ضمن سياقات معروفة».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.