«المد الإيراني» يثير استنفاراً في موريتانيا

سفارة طهران تمول جمعيات «مشبوهة» وتوفر منحاً للدراسة في «الحوزات»

الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)
الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)
TT

«المد الإيراني» يثير استنفاراً في موريتانيا

الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)
الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)

عادت الأجواء إلى طبيعتها في حي «دار النعيم» بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، منذ أن وضعت وزارة الشؤون الإسلامية يدها على المسجد الذي ظل لسنوات محل توجس من طرف السكان، وكانت خطب إمامه تثير الكثير من اللغط والتخاصم كل أسبوع، لقد كان القائمون على المسجد يعتبرونه أول وأكبر حسينية في موريتانيا، وتشرف السفارة الإيرانية في نواكشوط على تمويله عبر جمعية مشبوهة.
كانت تلك هي بداية استراتيجية حكومية في موريتانيا، الهدف منها الحد من المد الإيراني الذي أصبح يشكل خطراً حقيقياً على تماسك المجتمع الموريتاني، على حد تعبير مصدر رسمي قال لـ«الشرق الأوسط»، إن زمن التغاضي عن أنشطة الإيرانيين في موريتانيا «قد ولى إلى غير رجعة».
وأضاف المصدر ذاته، الذي فضل حجب هويته، أن موريتانيا «لن تقبل بأي نشاط من شأنه أن يهدد أمنها الداخلي، كما لن تقبل بأي خطط لتغيير مذهبها المالكي المتسامح والوسطي، ولن تسمح بالتأثير على طبيعة مجتمعها المسالم». وأوضح المصدر، أن «الحكومة والجهات الأمنية مطلعة على التفاصيل كافة بخصوص النشاط الإيراني في البلاد، وسوف يتم تجفيف منابع هذه الأنشطة».
وبدأت الاستراتيجية الموريتانية بمصادرة «مجمع الإمام علي ابن أبي طالب» في العاصمة نواكشوط؛ وذلك بسبب ارتباطه المشبوه بالسفارة الإيرانية، كما سبق وأن وجهت السلطات الموريتانية تحذيرات كثيرة إلى القائمين على المجمع الذي يضم مسجداً وبعض المنشآت الدينية، في ظل أنباء عن تحويله من طرف بعض الشخصيات المشبوهة إلى «حسينية»، هي أول حسينية في موريتانيا، مع رواج أنباء تتحدث عن تأسيس «حسينيات» أخرى في مناطق من العاصمة نواكشوط تعمل «بشكل سري»، وتسير من طرف أشخاص مرتبطين بالسفارة الإيرانية.
عزلت وزارة الشؤون الإسلامية، الوصية على المساجد والمنشآت الدينية في موريتانيا، إمام «مجمع علي بن أبي طالب»، ومنعته من مزاولة أي نشاط ديني في البلاد، كما وضعته تحت المراقبة الأمنية لفترة غير محددة، في المقابل قامت بتعيين إمام جديد للمجمع، كما فتشت بعثة من الوزارة المجمع وتجولت في مختلف أجنحته، وجمعت المقتنيات والوثائق كافة العائدة إلى «جمعية آل البيت» التي يتبع لها المجمع، وهي جمعية مرتبطة بالسفارة الإيرانية في نواكشوط، ولديها علاقات مشبوهة مع «حزب الله» اللبناني، يقودها شخص يدعى «بكار ولد بكار» سبق أن سافر مرات عدة إلى إيران والتقى مسؤولين وقيادات في طهران.
وحول مدى جدية الخطر الذي تمثله أنشطة الإيرانيين في موريتانيا، قال الأستاذ الجامعي والدكتور عبد السلام ولد حرمه، في حديث مع «الشرق الأوسط» شارحاً «نحن نجزم ونؤكد بما لدينا من قرائن وأدلة، وما لدينا من حقائق في التاريخ وتجاربه، أن إيران لديها مشروع يشكل خطراً حقيقياً على موريتانيا، وعلى شبه المنطقة في غرب أفريقيا». وأضاف ولد حرمه، الذي يرأس حزباً سياسياً معارضاً، أن «المشروع الإيراني في موريتانيا يجسد أطماعها التي تتمثل في شهوة السيطرة والتحكم، ووضع اليد على بنية المجتمعات الإسلامية، مستغلة في ذلك طبيعة المذهب الزيدي الذي تعتبر نفسها ممثلة له في العالم الإسلامي، لكن إيران لا تمثل أي مذهب ديني، وإنما تدعو إلى مذهب خاص يخدم سياساتها وأطماعها التوسعية».
ويؤكد ولد حرمه، أن المشروع الإيراني يستهدف موريتانيا لسببين رئيسيين يتعلقان بموقعها الاستراتيجي وثرواتها، واستطرد «لقد سبق وأن حذرت، ومعي عدد من الباحثين الموريتانيين، من أن المشروع الإيراني في موريتانيا أصبح خطيراً، ويشكل تهديداً حقيقياً لأمن البلاد»، وأشار إلى أن البحوث التي أجروها تؤكد أن «المشروع الإيراني يقوم على سببين أساسيين: أولهما أن موريتانيا تملك موقعاً استراتيجياً مهماً بين غرب القارة الأفريقية وشمالها، أما السبب الآخر فهو أن موريتانيا لديها مخزون كبير من الثروات ينتظر أن يبدأ استغلاله من طرف القوى العالمية في السنوات القليلة المقبلة، وإيران لديها أطماع في هذه الثروات».
لقد ارتبطت إيران في أذهان الكثير من الموريتانيين «بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكونها قوة ممانعة وصمود». وهي صورة صنعتها وروجت لها قناة «الجزيرة» خلال السنوات الماضية، عندما كانت تظهر زعيم «حزب الله» اللبناني بطلاً يقف في وجه العدوان الإسرائيلي على فلسطين، كما ساعد تيار الإخوان المسلمين في موريتانيا في تضخيم هذه الصورة والترويج لها بقوة. وتعليقاً على هذه الصورة، يقول الدكتور ولد حرمه «إيران في الخريطة الجيوسياسية العالمية تستخدم رهان أنها تمثل جزءاً من العالم الإسلامي، وأن هذا الجزء هو المضطهد، كما ترفع شعار مقاومة إسرائيل، في حين أن كل ما تقوم به هو لصالح إسرائيل، وتتقاسم معها النفوذ والاحتلال والسيطرة في الكثير من المناطق».
وحول تغلغل الأذرع الإيرانية في المجتمع الموريتاني، قال ولد حرمه، إن «إيران تستخدم أساليب كثيرة لزيادة نفوذها داخل المجتمع الموريتاني، الأسلوب الأول هو استغلال مظلومية خطيرة تتعلق بحب آل البيت والتشيع لهم، وهذا المطلب يجد تربة سهلة الارتواء لدى المجتمع الموريتاني الذي جُبل بفطرته وطبعه وتكوينه على حب آل البيت»، لكن ولد حرمه يضيف، أن «هذه المظلومية أضافت عليها إيران شعاراً آخر، هو أنها دولة مقاومة، أي أنها تقاوم إسرائيل وتريد تحرير فلسطين وتقف في وجه الغطرسة الأميركية، وهذه الكذبة والفرية انطلت للأسف الشديد على كثير من خيري هذه الأمة».
ويوضح ولد حرمه، أنه «حتى بعد أن ظهرت إيران على حقيقتها وكشّرت عن أنيابها، ومارست القتل والتدمير والخراب والدمار والاحتلال في أجزاء واسعة من الوطن العربي، بل وتحالفت مع الغرب في أجزاء منه، وتحالفت مع إسرائيل لتدمير أجزاء أخرى، وتحالفت مع القوى الظلامية التي تمتهن القتل والتكفير، بقي أناس في موريتانيا يعتبرون أنها قوة مقاومة؛ وللأسف هذان الشعاران: محبة آل البيت والمقاومة، يجدان صدى قوياً في أذهان العامة من الموريتانيين».
اليوم، يدعو ولد حرمه السلطات الموريتانية إلى عدم الاكتفاء بإجراءات آنية للوقوف في وجه الخطر الإيراني، ويؤكد أن الاستراتيجية الموريتانية يجب أن تكون متعددة الأبعاد، ويقول في هذا السياق «لا بد من أن يكون وقوفنا في وجه الخطر الإيراني وقوفاً جاداً وحقيقياً، وهو في حقيقته وقوف متعدد الأبعاد، منه ما هو ثقافي وفكري وتعليمي وتربوي؛ وذلك من أجل تحصين الأنفس وتعزيز الدفاعات الروحية والنفسية والمعنوية». وهو يرى أنه من الضروري أن «نزرع في شبابنا أن إيران لا تمثل محبة ولا نصرة آل البيت، كما أنها لا تمثل قيادة مقاومة ولا قيادة صمود». هي تمثل مذهباً محرفاً هو المذهب الشيعي الذي تم تحريفه ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي في عهد الدولة الصفوية، وتستغله هي الآن لزيادة نفوذها وسيطرتها وتحكمها ومطامعها غير المشروعة في محيطها وجوارها العربي».
ويستغرب ولد حرمه من استخفاف عدد من الموريتانيين بخطورة المد الإيراني، فيقول «كيف يقللون من أهميته وهو الآن يشتغل في شبابنا وفي بعض مساجدنا، حتى أنه يشتغل داخل بعض جامعاتنا وبعض ما نسميه منابرنا السياسية، لقد أصبح خطراً وشيكاً، ونحن في أمسّ الحاجة إلى الانتباه له والتعامل معه بجدية؛ لأن بلدنا يُعدّ بوابة الساحل الأفريقي».
في ظل المخاوف التي تراود الطبقة السياسية والمثقفين في موريتانيا من تزايد الخطر الإيراني المحدق بالبلاد، تتجه الأنظار لما تشهده منطقة الساحل الأفريقي من نشاط للجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة وتنظيم داعش، وهي منطقة لا تبعد سوى مئات الكيلومترات عن المدن الموريتانية.
في هذا الإطار، يعتقد الكثير من المراقبين أن الخبراء الإيرانيين عندما استهدفوا دولاً مثل موريتانيا والمغرب والجزائر، كانوا يسعون من وراء ذلك إلى دخول منطقة الساحل الأفريقي، التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى بيئة خصبة لنشاط جماعات الإرهاب والتهريب، وهي بيئة جاذبة للأنشطة الإيرانية، وبخاصة في ظل ثرواتها الكبيرة من اليورانيوم، والنفط، والغاز، والذهب.
ووفق ولد حرمه، فإن «القوة الناعمة لموريتانيا، وبلدان المغرب العربي، يقع مجال تأثيرها القوي في منطقة الساحل الأفريقي، ومن الطبيعي أن يصل من أثر في موريتانيا إلى هذا الساحل ويتمدد عبره، كما أنه من الطبيعي أن تكون موريتانيا هي الحصن الأول أو جدار الدفاع لمن يريد اقتحام هذا المجال».
غير أنه يعتقد، أنه «ما دام الساحل الأفريقي يعيش في فوضى عارمة، حيث لا توجد قوة تسيطر عليه وتتحكم فيه، فإنه لا شك يعد مجالاً مشاعاً لمن يبحث عن النفوذ والقوة، وهنا تتحالف إيران رغم تناقضها العقدي مع الحركات الإرهابية، كل منهما يجد سنده في الآخر، إيران تمول هذه الحركات لتشكل لها يداً وذراعاً تحركهما في المنطقة، بينما تجد هذه الحركات لدى إيران ما تحتاج إليه من مساندة ودعم وتمويل ورعاية ودعم وإسناد». لكن مخططات إيران لامتلاك موطئ قدم في منطقة الساحل الأفريقي، لم يقتصر على البوابة المغاربية، وإنما نجد آثاراً لهذه الخطط في منطقة بحيرة تشاد، وتحديداً في شمال شرقي نيجيريا، حيث يعد أتباع المذهب الشيعي بالملايين، وتحاول بعض الجمعيات المرتبطة بطهران إحداث «ثورة إسلامية» وإقامة نظام ملالي في المنطقة. وشكلت هذه الجمعيات التي ترعاها إيران وتمولها سفاراتها في شبه المنطقة، حاضنة الكثير من الشخصيات التي برزت فيما بعد ضمن قيادة جماعة «بوكو حرام»، التنظيم الأكثر دموية في تاريخ القارة السمراء، والذي ارتبط في نشاطه الإرهابي بعلاقات وطيدة مع تنظيم القاعدة ثم «داعش».
ويعتقد ولد حرمه أن خطر الدور الإيراني المشبوه في أفريقيا «انتبهت إليه دول المغرب العربي وتعاملت معه بصرامة، مثل المملكة المغربية التي قطعت علاقاتها بطهران وأغلقت مراكزها الثقافية، كما تعاملت معه أيضاً الجزائر بصرامة قبل عامين، وهذا ما يؤكد أنه خطر ماثل ومحدق».
منذ سنوات غيّرت إيران استراتيجيتها في موريتانيا، فبدل استهداف المساجد والزعامات الدينية، توجهت السفارة الإيرانية في نواكشوط نحو قطاع التعليم، وأصبحت توزع منحاً دراسية مجانية على الطلاب الموريتانيين، وذلك عبر وسطاء يبحثون في أوساط الشباب عن المهتمين بإجراء دراسات عليا في مجال الشريعة الإسلامية والبحوث الإسلامية، واستفاد من هذه المنح عشرات الطلاب الموريتانيين، والبعض يتحدث عن المئات. ولكن السلطات الموريتانية في إطار استراتيجيتها الجديدة منعت هذه المنح الدراسية، وأصدرت قراراً رسمياً بتوقيفها بشكل رسمي؛ لأنها تشكل خطراً على وحدة المجتمع وتماسكه، ووجهت السلطات الموريتانية رسالة إلى السفير الإيراني بنواكشوط أبلغته فيها بمنع هذه المنح الدراسية، وطلبت منه التوقف عن جميع أنشطته في مجال التعليم؛ لأنها تشكل تهديداً لأمن البلاد.
وقال مصدر من وزارة التعليم الموريتانية لـ«الشرق الأوسط»، إن الكثير من الشباب الحائزين شهادة البكالوريا كانوا يتدافعون للحصول على المنح الدراسية الإيرانية؛ بسبب الإغراءات التي تقدم لأقرانهم، لكنهم عندما يصلون إلى إيران يجدون أمامهم مناهج دراسية مختلفة تماماً عن تلك التي سافروا من أجل دراستها.
في هذا السياق، يقول عبد السلام ولد حرمه «لدينا وثائق ومعلومات دقيقة تشير إلى أن هنالك عشرات، إن لم نقل المئات من الطلاب الذين يذهبون إلى ما يسمى بالحوزة العلمية في قم وطهران لتلقي الدراسات، وهذا تصدير للمذهب الغريب على هذا البلاد، والغرض الأساسي هو خدمة نفوذ دولة معينة وأطماعها». ويضيف «أرى أننا يجب أن نكون حازمين وصارمين في مواجهة هذا الخطر؛ إذ إنه لا فرق بين الخطر الذي تشكله القاعدة وذلك الذي تشكله إيران وسياساتها التوسعية؛ فكل من هذه الأخطار مدمر ويزعزع الأمن ويقوم بتفتيت المجتمع».
ويخلص ولد حرمه إلى القول، إن «الكثير من المثقفين والسياسيين ورجال الدين أطلقوا تحذيرات من خطورة المشروع الإيراني في موريتانيا، فهذا المشروع لم يعد وهماً لقد أصبح حقيقة ماثلة للعيان، ومن غير المقبول أن نسمح لسفارة دولة ما أن ترعى نشر ثقافة ومذهب نتيجته النهائية هي الاقتتال والتشرذم والتفتيت، ولا يجوز أيضاً أن نتساهل مع جهة تكتتب شبابنا، وتلعب بحقلنا الديني والثقافي وأمننا الروحي وتوظفه ضمن سياقات معروفة».



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».