إبادة الكتب... التاريخ المخزي للقرن العشرين

مارستها الأنظمة المستبدة وفي مقدمتها النازية

مثلما يحدث للبشر لم تسلم الكتب من حروب إبادة على مدار التاريخ
مثلما يحدث للبشر لم تسلم الكتب من حروب إبادة على مدار التاريخ
TT

إبادة الكتب... التاريخ المخزي للقرن العشرين

مثلما يحدث للبشر لم تسلم الكتب من حروب إبادة على مدار التاريخ
مثلما يحدث للبشر لم تسلم الكتب من حروب إبادة على مدار التاريخ

مثلما يحدث للبشر، لم تسلم الكتب من حروب إبادة على مدار التاريخ، فها هو باول جوزف غوبلز،‏ وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر، صاحب العبارة الشهيرة «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي»، يخاطب مجموعة من شبانه الموالين للنظام وهم يحرقون آلاف الكتب على مرأى ومسمع من الجميع، في طقس احتفالي حماسي فرضته النازية الألمانية، ضمن ما فرضت من إبادة وتطهير عرقي، قائلاً «لقد أبْلَيْتُم أيها الطلاب بلاءً حسناً في هذه الليلة بإلقاء آثار الماضي هذه في قلب النيران... الماضي يرقد هنا في قلب النيران... واليوم تظلنا هذه السماء وأمام هذه الألسنة من اللهب سنقسم قسماً جديداً»، لتكون الحقبة الهتلرية الحالة المثالية لتدمير الكتب والمكتبات في القرن العشرين.
هذه الواقعة وغيرها ضمن ما يرصده كتاب «إبادة الكتب... تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين» الصادر حديثاً عن سلسلة «عالم المعرفة» في الكويت لمؤلفته ربيكا نوث، الأستاذة بجامعة هاواي والمختصة بعلوم المكتبات، وترجمه للعربية الباحث المصري عاطف سيد عثمان.
يروي الكتاب عشرات الوقائع المأسوية لإحراق وإبادة الكتب والمكتبات خلال القرن العشرين، الذي يوصف بأنه «الأكثر دموية بين القرون جميعاً؛ إذ كان فيه القتل الجماعي للمدنيين هو سبب معظم الوفيات خلاله»، وهو القرن الذي شهد إبادات جماعية مماثلة للكتب، وكل ما يمثل الثقافة والحضارة.
وتضمّن ربيكا نوث كتابها الكثير من الاعترافات المخزية والمؤسفة من جهة، والنادمة والمعتذرة من جهة أخرى للذين شاركوا في مثل هذه المحارق للكتب، ففي لحظة ندم يتذكر الكاتب الصيني با جين هذه الحالة الهياجية لإحراق الكتب أثناء الثورة الثقافية الصينية تحت حكم ماو تسي تونغ قائلاً «دمرت الكلاسيكيات الأدبية كأنها فئران تمر عبر الشوارع... بيدي دمرت كتباً ومجلات وخطابات ومخطوطات كنت أحتفظ بها لسنوات باعتبارها كنوزاً... تنكرت لذاتي... واعتقدت أن المجتمع المثالي هو المجتمع الذي لا مكان فيه للثقافة ولا المعرفة ولا الأعمال الأدبية».
ويصف أحد القيّمين على المكتبة الوطنية في العاصمة البوسنية سراييفو، الذي صار وزير العلم في البوسنة بعد ذلك، ما فعله الصرب بتراثهم الفكري، بإحراق مكتبتهم؛ إذ يروي أن «الهجوم استمر أقل من نصف ساعة، واستمرت النيران مشتعلة حتى اليوم التالي، وتناثر الورق المحترق في أرجاء المدينة... وكانت بقايا صفحات هشة تتساقط كأنها ندف ثلج أسود قذر».
وتستخدم المؤلفة مصطلح «الإبادة» لتوصيف تدمير الكتب والمكتبات على أيدي الأنظمة السياسية، رابطة بين «إبادة البشر» و«إبادة الكتب»، فكلاهما ينتج الآخر، مستندة لتراث البشرية في «أنسنة الكتب» ومعاملتها معاملة البشر، وبالأخص من الأطفال، مبرهنة بما يظهره البشر من «عبارات الانتحاب والرثاء أسفاً على التدمير المتعمد للكتب».
ولطالما ربط البشر بين قتل الإنسان وإتلاف تراثه أو كتبه، فكما يقول جون ميلتون، فإن «قتل كتاب أشبه بما يكون بقتل إنسان، بل إن من يقتل إنساناً يقتل مخلوقاً عاقلاً. أما من يدمر كتاباً نافعاً فهو إنما يقتل العقل نفسه». ويقول هاينريش هاينه «عندما يقدمون على حرق الكتب فسوف يؤول بهم الأمر إلى حرق البشر أنفسهم». وتبرهن ربيكا نوث على أن ما يحدث من عمليات لإبادة البشر، يسبقه أو يتبعه كوارث تدمير الكتب والمكتبات والإرث الحضاري، فـ«إبادة الكتب تشترك فعلياً في المجال النظري ذاته مع الإبادة... والأنظمة السياسية التي ترتكب الإبادات الجماعية هي ذاتها التي تدمر أيضاً الثمرة المادية لثقافة الضحايا وكتبهم ومكتباتهم».
وتسوق المؤلفة 5 نماذج للبرهنة على أن العنف الذي يمارس ضد البشر يسبقه أو يلحقه بالضرورة «عنف يمارس ضد الكتب»، وهو ما حدث في: ألمانيا النازية، والصين خلال الثورة الثقافية، والتبت، والكويت أثناء الاحتلال الصدّامي، والبوسنة أثناء الحرب الصربية.
وتبحث المؤلفة عن دوافع حروب «إبادة الكتب»، وترجعها لأسبابها الاجتماعية والثقافية والاستبدادية، فغالباً ما تنجم عمليات التدمير «عن تضافر بين بيئة اجتماعية مضطربة وزعامة تسلطية أو استبدادية وأيدلوجيات وسياسات متطرفة تخلق الظروف المتفسخة على مستوى قومي بيئة يستشري فيها العنف. في هذه البيئة يتطلع السكان المنهكون الهائمون بلا هدف إلى الزعماء الذين يعدِونهم بالخلاص عن طريق بنية سياسية اجتماعية جديدة قائمة على أفكار قادرة على تحويل وجه الحياة... وتسوغ هذه الأفكار التي قد تكون رجعية (قومية متعصبة أو إمبريالية أو عسكرية أو عنصرية أو دينية أو ثورية شيوعية)، استخدام العنف للوصول إلى غايات مثل التحقق القومي أو تحقيق عالم يوتوبي... ومع إحكام الأنظمة سيطرتها، تسعى إلى وضع المكتبات والكتب في دائرة الشك بوصفها إما مصدر إثارة للفتن أو أداة بيد العدو أو كبش فداء لأمة أو جماعة إثنية أو طبقة تحبط سياسات تلك الأنظمة، وعلى ذلك يصبح نهب الكتب ووضع اليد عليها وتدميرها تدميراً عنيفاً من الممارسات المقبولة».
وتحصر أستاذة علوم المكتبات، أسباب تدمير الكتب والمكتبات في الدوافع «القومية والآيديولوجية والدينية والعسكرية العدوانية والزعامة الفردية»، ممثلة على كل ذلك في نماذجها الخمسة التي اختارتها للتمثيل على ارتباط إبادة البشر بإبادة الأفكار. فالقومية «النازية» التي أسسها أدولف هتلر بقيادة الحزب القومي الاشتراكي، لطالما وظفت التدمير العمدي للكتب والمكتبات بوصفها واحدة من استراتيجيات الحرب، كما يرد في الدليل العسكري النازي، فإن «الحرب لا يمكن أن تشن ضد مقاتلي العدو فقط، بل يجب أن تسعى لتدمير الموارد المادية والفكرية الكاملة».
واقترفت جيوش هتلر الكثير من المآسي، فكي تكسر إرادة السكان في مدينة نابولي الإيطالية سكبت الغازولين بطريقة ممنهجة في كل غرف الجمعية الملكية في نابولي فدمر زهاء 200 ألف كتاب من أثمن كنوز التاريخ الإيطالي. وأعاد الألمان إحراق مكتبة لوفين في بلجيكا للمرة الثانية، بعدما كانوا أحرقوها في الحرب العالمية الأولى، ودمروا على مدار 6 أيام 230 ألف مجلد، «تحذيراً لأعداء ألمانيا واستعراضاً لقوتها أمام العالم».
ولتدمير الكتب بالطبع دوافع «آيديولوجية»؛ خوفاً من أن يلجأ (الفرد) إلى أفكار تقع خارج المنظومة الآيديولوجية للحكام، وينشأ هذا الخوف من الكتب التي هي في نظرهم تكون مناهضة لسياساتهم.
فالشيوعية التي نشأت على مبادئ ثقافية ثورية سرعان ما تحولت في روسيا لينين وستالين، إلى «آيديولوجية متعصبة سوّغت تدمير جميع مناهضيها من البشر والمؤسسات»، ومورست على المكتبات الروسية على الأخص بدءاً من العام 1924 حملات تطهير استهدفت مؤلفات «أفلاطون وكانط وتولستوي ودستوفيسكي وغيرهم»، وهو ما اعتبره الكتاب الروسي مكسيم غوركي عمليات «مص دماء الفكر»؛ إذ اعتبرت كروبسكايا زوجة لينين وأحد الرقباء أنه «من المرغوب فيه تطهير كتب الفلاسفة لأنها تروج لأفكار ضارة... كما أن الكتب الأخرى خبيثة ومهلكة لأنها تتحدث عن الدين أو هراء الأنظمة التقليدية أو موضوعات ولى زمنها».
وكانت للثورة الصينية الثقافية هي الأخرى عواقب وخيمة على الكتب والمكتبات، مدفوعة بأسباب آيديولوجية متطرفة، دافعة في الوقت ذاته الملايين من الشباب «الأحمر» ومن الجماهير للمشاركة في حملات إبادة ضد أي شخص يعارض سياسات ماو وأفكاره، كما نشرت صحيفة «الشعب» اليومية عام 1966. وعليه؛ انتزعت من الأرفف 4 ملايين كتاب «صنفت باعتبارها عشباً ساماً».
وجمعت الكتب التي كوَّنت، كما يروي أحد أفراد الحرس الأحمر، «جبلاً صغيراً» وأشعلوا النيران فيها و«صاحب الشعارات المهتاجة والانفعالية الدخان الكثيف المتصاعد من السماء... وشعر أفراد الحرس الأحمر بأن مجرد إحراق الكتب ليس فعلاً ثورياً بما يكفي فسيق أفراد العصابة السوداء (المعلمون) وأجبروا على الوقوف هناك خافضين رؤوسهم راكعين؛ حتى يحاكموا أمام لهيب الثورة الثقافية الكبرى».
وللزعامة الفردية، رصيدها المخزي ضمن حروب إبادة الكتب، وتسوق ربيكا نوث مثال الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في غزوه دولة الكويت؛ للتدليل على ما يمكن أن تفعله الزعامة الفردية «البعثية»، المختبئة خلف متاريس فكرية قومية وآيديولوجية ودينية، التي ارتكبت مئات الجرائم بحق المثقفين المخالفين أو المستقلين، حتى أنها في عام واحد عام 1979 «اعتقلت 200 شاعر وقاص وموسيقي ومخرج وفنان. ومات كثير منهم تحت وطأة التعذيب أو سمموا بالثاليوم وهو سم جرذان كان النظام يفضله أداة للتصفية». هذه الزعامة الفردية المجنونة بجنون العظمة التي احتلت دولة الكويت دفعت جنودها إلى ارتكاب جرائم تدمير البنى التحتية الكويتية، وكان أكثر ما استهدف المكتبات والمتاحف والمؤسسات الثقافية. «ففي جامعة الكويت، في المبنى الذي ضم كليتي القانون والآداب أقيم مركز اعتقال واستجواب... ودمر الجنود ما يقرب من مليون كتاب أطفال وكتب تعليمية... كما مارسوا تفكيك المكتبات العامة ونهبها... وفقد ما يزيد على 133 ألف مجلد... وكان الدمار الأسوأ في المكتبات الأكاديمية، فأتلف جزء كبير من مقتنيات مكتبة جامعة الكويت التي ضمت 24410 مراجع، وما يزيد على 5 ملايين مجلد وتقرير ورسالة ودورية ومواد سمعية وبصرية».


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!