في الليلة التي سبقت وصول «إيمرالد برنسيس»، السفينة الأميركية السياحية المحيطية العملاقة الأنيقة التابعة لشركة برنسيس كروز، إلى آيرلندا، ألقى آيرلندي متقاعد، وكان أستاذا جامعيا، محاضرة عن آيرلندا. وفي اليوم التالي، وخلال يوم كامل، تحدث مرشد سياحي آيرلندي عن آيرلندا.
ركز الأول على الحاضر، وركز الثاني على الماضي. ولكنهما اتفقا على نقد (إن لم تكن كراهية) البريطانيين، في الماضي وفي الحاضر.
لنبدأ بالماضي:
بعد أن رست السفينة في ميناء كوبه، في جنوب آيرلندا، بدأ المرشد السياحي ماك حديثه بتفسير أصل كلمة «كوبه». قال إنها كلمة آيرلندية (اللغة الكلتيكية) للكلمة الإنجليزية «كوف» (كهف).
لكن، غير الإنجليز الاسم إلى «كوينزتاون» (مدينة الملكة) عام 1850، عندما زارت الملكة فيكتوريا المدينة. ولكن، في عام 1922، بعد أن نالت آيرلندا الاستقلال، أعاد الآيرلنديون اسم «كوبه».
وخلال رحلة حافلة أنيقة تقل سياحا أميركيين، وعددا قليلا من السياح البريطانيين، بين «كوبه» و«كورك»، ثاني أكبر مدن آيرلندا (بعد دبلن العاصمة)، كرر المرشد السياحي «1922» ربما مائة مرة. هذه هي السنة التي استقلت فيها آيرلندا عن بريطانيا. لم يلعن البريطانيين، وهو المرشد السياحي المهذب، وربما ما كان السياح البريطانيون في الحافلة سيقبلون ذلك.
تململ بعض السياح البريطانيين، وعلق بعضهم، ولكن بطريقة مهذبة، وكأنهم يقولون للمرشد السياحي: «لننس الماضي، ولنفتح صفحة جديدة».
لكن، كان واضحا من معلومات وتعليقات ماك، المرشد السياحي، أن العلاقة بين البريطانيين وجيرانهم الآيرلنديين ليست ودية (إن لم تكن عدائية).
وإن لم يكن التوتر (أو العداء) واضحا من جانب ماك والسياح البريطانيين في الحافلة، كان واضحا في القلاع، والكاتدرائيات، والقصور، وساحات القتال، المنتشرة في جنوب وشرق آيرلندا.
على لسان المرشد السياحي:
في عام 1172 (خلال حكم النورمانديين، رجال الشمال، لإنجلترا)، شهدت آيرلندا أول غزوات الإنجليز، ولأربعمائة سنة، احتلوا جزءا منها. وفي عام 1495 (عام اكتشاف أميركا، وخلال حكم عائلة تيودور لإنجلترا) احتلوا ما تبقى من آيرلندا.
لكن، لم يصمت الآيرلنديون. وثاروا مرات ومرات.
كانت أول وأهم ثورة في عام 1534، عندما هجموا على قلعة دبلن، وأعلنوا تمردهم على الملك هنري الثامن. وانتقم الملك بإعدام كبير القساوسة جون إلين، رأس الكنيسة الكاثوليكية، الذي كان قال إن الثورة «دينية لإعادة المارقين إلى دين المسيح الحقيقي» (إشارة إلى البروتستانت الذين كانوا انتشروا في شمال أوروبا، وألمانيا، وهولندا، وبريطانيا).
بعد إعدام كبير القساوسة الكاثوليك، اضطر توماس فتزجيرالد، قائد الثورة، لإعلانه هزيمته، وطلب العفو من الملك، وطلب منه الملك أن يفعل ذلك في لندن. وعندما وصل إلى لندن مع أعمامه الخمسة، وضعوا في البرج التاريخي (القصر والقلعة). ثم أعدموا. ووصف ذلك مؤرخ بريطاني: «شنقوا، ثم قطعت رؤوسهم، ثم فصلت أيديهم وأرجلهم عن أجسامهم، ثم أحرقوا...».
منذ ذلك الوقت، ولخمسمائة سنة، حتى نالت آيرلندا استقلالها عام 1922، (آخر الثورات)، ثار الآيرلنديون ثورات كبرى عشرين مرة تقريبا، منها:
أولا: ثورة التسع سنوات (عام 1594)، عندما أرسل الإنجليز عشرين ألف جندي (مليون جندي تقريبا بمقاييس اليوم).
ثانيا: «الثورة الأميركية» (عام 1798)، وسميت هكذا لأنها سارت على خطى ثورة الولايات الأميركية التي حققت الاستقلال قبل ذلك بعشرين سنة تقريبا (1976).
ثالثا: ثورة «آيريش بروثرهود» (الإخوان الآيرلنديين) عام 1866، بالتعاون مع الآيرلنديين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة. نظموا حملات، وجمعوا تبرعات، وأرسلوا أسلحة إلى إخوانهم في آيرلندا.
رابعا: ثورة «الإرهابيين» (عام 1881). هذا وصف الصحف البريطانية في ذلك الوقت، عندما بدا متطرفون آيرلنديون يقتلون المسؤولين الإنجليز في آيرلندا، وكانوا يسمون أنفسهم «إنفينسيبولز» (الذين لا يقهرون).
خامسا: ثورة «إيستار» (عيد الفصح) عام 1916، وقادها «الإخوان الآيرلنديون». وتعمدوا أن تكون في وقت انشغال بريطانيا في أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى (بل سافر بعضهم إلى ألمانيا، عدوة بريطانيا، وطلبوا مساعدتها. ورافقهم بعض من «الإخوان الآيرلنديين» الأميركيين).
وتعمدوا أن تبدأ الثورة يوم «إيستار» (عيد صعود المسيح ابن مريم إلى السماء. ورفعوا شعار «عيسى معنا»).
لكن، ضربتهم القوات البريطانية ضربا عنيفا، ودمرت نصف دبلن تقريبا. ورغم أن الثورة فشلت، مهدت لتطورات سياسية وإجراءات دستورية، حققت استقلال آيرلندا عام 1922، ولا تزال تؤثر على الوضع في آيرلندا الشمالية، حيث يظل التوتر بين الآيرلنديين الكاثوليك، وحكومة الملكة إليزابيث، راعية الكنيسة البروتستانتية.
* مشاهدات في «كورك»
خلال جولة الحافلة السياحية في كورك (ثاني أكبر مدن آيرلندا بعد دبلن)، تعمد ماك، المرشد السياحي الآيرلندي، أن يشير إلى آثار الصراع التاريخي الدموي مع الإنجليز.
وقال إنه، مثلما غير الإنجليز اسم ميناء «كوبه» إلى «كوين إليزابيث»، ثم أعاد الآيرلنديون الاسم الآيرلندي بعد الاستقلال، غيروا اسم «كورك»، ثم أعاده الآيرلنديون بعد الاستقلال.
تعنى الكلمة في اللغة الآيرلندية (الكلتيكية) «مستنقعات»، إشارة إلى كثرة البحيرات والأنهار فيها. وهي أكبر ميناء طبيعي محصن في أوروبا. ميناء، داخل ميناء، داخل ميناء. لكن، لا تقدر السفن المحيطية السياحية العملاقة على الوصول إلى «كورك»، ولهذا ترسو في «كوبه».
خلال جولة الحافلة السياحية في «كورك»، ظل ماك، المرشد السياحي، يشير إلى آثار الصراع التاريخ الدموي مع الإنجليز:
أولا: هذه مبان محروقة باقية منذ القرن السابع عشر، عندما حرقت القوات البريطانية نصف مدينة كورك.
ثانيا: هذه بقايا مصنع لصناعة النبيذ بناه الفرنسيون عندما احتلوا كورك، نكاية في البريطانيين. كان هؤلاء من طائفة «هوغونوتز» الكاثوليكية.
ثالثا: هنا كان البريطانيون يستعملون «هاف هانغ» (نصف الإعدام). يضعون المناضل الآيرلندي داخل حبل المشنقة، وكأنهم يريدون إعدامه، ويشدون الحبل ليجبروه على الاعتراف، بينما هو يختنق ويفقد الوعي، ويعيش بين الموت والحياة.
رابعا: هناك آثار معركة «أرمادا» (معركة بحرية بين الأسطولين البريطاني والإسباني للسيطرة على آيرلندا).
خامسا: هذه هي الكنيسة الكاثوليكية التي قادت التمرد على سيطرة الكنيسة البروتستانتية البريطانية.
سادسا: هذه هي الكنيسة الفرنسية التي بناها مهاجرون من فرنسا. كانوا يريدون «طعن بريطانيا من الخلف»، بسبب العداء التاريخي بين فرنسا وبريطانيا.
* قلعة «بلارني»
ركز جزء كبير من جولة السياح على قلعة «بلارني»، والمناطق الأثرية المجاورة لها. ولم يكن ذلك صدفة. ولم تكن صدفة، أيضا أصوات أجراس القلعة، وأجراس كنائس مجاورة، عند وصول السياح.
كان عرضا «أثريا، وطنيا، كاثوليكيا». جعل السياح البريطانيين يتململون. وأظهر أن بعض السياح الأميركيين لهم أصول آيرلندية، أو هم كاثوليك. وبدوا وكأنهم يريدون إعلان «ثورة» على زملائهم الأميركيين (أغلبية الأميركيين بروتستانت).
في عام 1200، بنيت قلعة «بلارني»، ولهذا شهدت كل الثورات الآيرلندية ضد الاستعمار البريطاني، أكثر من مرة قصفوها، وأكثر من مرة حرقوا أجزاء منها، وأكثر من مرة صادروها بحجة أنها «قلعة معادية».
في الوقت الحاضر، هي قلعة شبه محطمة، لكنها قبلة كثير من السياح. وفي أعلاها «حجر سحري»، يقال إن كل من يقبله يصير فصيحا جدا. ليس ليلقى خطبا سياسية، ولكن ليتغزل في النساء. غير أن الحجر موضوع في أعلى القلعة بالقرب من حافتها. ولا بد للذي يريد أن يقبله أن ينحني كثيرا، ويمكن أن يسقط من أعلى القلعة، وسقط رجال كثيرون كانوا يريدون تحسين قدراتهم على الغزل (في وقت لاحق، وضعت أعمدة من الحديد للوقاية).
من وقت لآخر، خلال شروحات ماك للسياح داخل الحافلة، يغير تقديم المعلومات، ويغني أجزاء من أغاني عاطفية عن الآيرلنديين. وربما لا يوجد غناء آيرلندي من دون نقد (أو الهجوم على، أو الإساءة إلى ) الإنجليز.
* جيمس جويس
ووسط الأناشيد الوطنية والأغاني العاطفية داخل الحافلة، رفعت سائحة أميركية رواية تقرأها: «يوليسيز»، للروائي الآيرلندي جيمس جويس. هذه ربما أهم رواية في تاريخ آيرلندا، وكتبها أهم روائي آيرلندي عام 1922.
تحمست السائحة، وحملت الكتاب من مؤخرة الحافلة إلى مقدمتها، حيث ماك، المرشد السياحي، وسألته إمكانية الحديث قليلا في ميكروفون الحافلة عن الرواية.
تعمدت السائحة مخاطبة السياح البريطانيين في الحافلة. وافترضت أنهم لا يعرفون أي شيء عن (إن لم يكونوا يكرهون) الرواية، ومؤلفها. واعترفت بأن جدودها هاجروا من آيرلندا إلى الولايات المتحدة، واعترفت بأنها كاثوليكية.
وقالت إن الرواية نشرت في حلقات في مجلة أميركية، ثم صارت أفلاما سينمائية، ومسرحيات، ومسلسلات تلفزيونية.
بالإضافة إلى عكس نضال الآيرلنديين ضد الإنجليز، اشتهرت الرواية كرائدة في فن الروايات الحديثة، بسبب تركيزها على تفاصيل دقيقة، وإنسانية، وعادية (كل الرواية، ربع مليون كلمة، عن حوادث يوم واحد: 16-6-1904، يوم أول لقاء بين المؤلف وزوجته المستقبلية).
بطل الرواية هو «يوليسيز»، الاسم الآيرلندي للبطل اليوناني القديم «أوديساس»، صاحب ملحمة الشاعر اليوناني القديم هومر، الذي كتب أيضا ملحمة «الإلياذة».
منذ أول فصل في الرواية، انعكس الصراع بين الآيرلنديين والإنجليز:
ها هما طالبان آيرلنديان يختلفان لأن واحدا منهما صار صديقا لطالب إنجليزي.
وها هو مدير المدرسة يشترك في نقاش ساخن مع واحد من الطالبين الآيرلنديين عن دور الإنجليز واليهود في استعمار الآيرلنديين. ومما قال مدير المدرسة: «لم نضطهد اليهود هنا لأننا، منذ البداية، لم نسمح لهم أن يأتوا إلى هنا».
وها هو «بلوم» نصف اليهودي ينتظر زيارة صديقه «مولي»، الذي يشاركه في العلاقة الجنسية مع زوجته، غير أن «بلوم» نفسه كانت له مغامرات جنسية مع أكثر من امرأة.
يبدو أن حديث السائحة الأميركية عن رواية «يوليسيز» شجع سائحة بريطانية للتقدم إلى مقدمة الحافلة، وتمسك الميكروفون، وتوضح نقطتين:
أولا: ليس غريبا أن جون لينون، مغني فرقة الخنافس، غنى أغنية الهجوم على الاستعمار البريطاني لآيرلندا، والسبب هو أن والده آيرلندي (أمه إنجليزية).
ثانيا: كررت أنها أسكوتلندية، وفرقت بين إنجلترا وبريطانيا، وقالت إن أسكوتلندا صارت جزءا من بريطانيا بعد إعلان المملكة المتحدة عام 1801.