محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر

من رموز اهتمام الجيل الثاني في «الحرس الثوري» بالشؤون الجيوسياسية

محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر
TT

محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر

محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر

تدرج الجنرال محمد باقري بين مختلف مستويات أجهزة استخبارات «الحرس الثوري} الإيراني، وورث عن أخيه الأكبر الراحل المهنة والاسم الحركي المستعار، وجمع إلى خبرته أصول العلوم الجيوسياسية. ولكن رغم معارضة قادة الجيل الأول من «الحرس» فإن المرشد علي خامنئي سلّمه رئاسة أركان القوات المسلحة الإيرانية منذ عامين (يونيو/ حزيران 2016) ليبدأ فصلاً جديداً في تاريخ هيئة الأركان يؤشر إلى دخولها مجال الدبلوماسية العسكرية. وهذا دخول يربطه كثيرون بالأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة، وأيضاً بتجربة باقري في رصد الحروب «غير المتكافئة» ومسار الميليشيات الطائفية المرتبطة بإيران ضد الولايات المتحدة، فضلا عن منافسة الحكومة الإيرانية في مجال السياسة الخارجية.

الاسم الحقيقي للجنرال (اللواء) محمد باقري (58 سنة)، مثل معظم حال الذين يعملون في الحقول الاستخباراتية، اسم آخر غير الذي يشتهر به، هو محمد حسين أفشردي. وهو الأخ الأصغر لحسن باقري لقائمقام قيادة «الحرس الثوري» الذي قتل في سن الـ26 في1983 إبان الحرب الإيرانية العراقية.
الأخ الأكبر تولى منصب القائمقام - قبل بلوغه الـ25 - بعد سنوات من العمل الاستخباراتي وتأسيس القواعد الأولى لوحدات استخبارات «الحرس الثوري». ولقد أملت عليه ظروف العمل الاستخباراتي أن يحمل اسماً آخر، هو «محمد باقري» الذي أطلقه عليه محسن رضايي، قائد «الحرس» حينذاك وأمين عام «مجلس تشخيص مصلحة النظام» حالياً. واليوم يُعرف الأخ الأصغر بهذا الاسم وللأسباب نفسها.

- بداية الصعود الأمني
في سن الـ19 التحق الجنرال باقري - المولود في أقصى شمال غربي إيران - بـ«الحرس الثوري» وبسعي من أخيه الأكبر دخل الجناح الاستخباراتي وحصل بعد مضي 36 سنة على رتبة لواء ركن (جنرال) من المرشد علي خامنئي ليصار إلى تعيينه في منصب رئيس هيئة الأركان. وكان هذا حدثاً، حسب مصادر متعددة، أثار غضب بعض قادة «الحرس» القدامى، مثل غلام علي رشيد وعلي شمخاني (أمين عام «مجلس الأمن القومي»). ذلك أن القادة الغاضبين بوصفهم «آباء الحرس» كانوا يتوقعون أن يختار المرشد واحدا من عناصر الجيل الأول لرئاسة هيئة الأركان المسلحة، وليس شاباً من الجيل الثاني... لم يعترف به - عملياً - الجيل الأول، ولم يوجه له دعوة لحضور الاجتماع الأسبوعي المعروف بـ«اجتماع الأربعاء» لكبار قادة الحرس في مكتب محسن رضايي.
غير أن باقري ينوب الآن عن المرشد في قيادة القوات المسلحة، بدلاً من اللواء حسن فيروزآبادي، وهو الشخص الذي حصل على رتبة عسكرية في بداية وصول خامنئي إلى منصب المرشد وترأس الأركان لفترة 28 سنة من دون أن تكون له سابقة ضمن القوات العسكرية التقليدية.
الجنرال باقري درس الجغرافيا السياسية في الجامعة، ووفق سيرته الذاتية المختصرة حصل على الدكتوراه في الجغرافيا السياسية من جامعة الدفاع الوطني العليا في العاصمة الإيرانية طهران. وشأنه شأن كثيرين من قادة «الحرس الثوري» أصبح أستاذا في الجامعة حيث درّس المجال التخصصي نفسه. وهو يعد إلى جانب اللواء رحيم صفوي، قائد «الحرس» السابق من مؤسسي «الرابطة الجيوسياسية الإيرانية»؛ وهذا من المؤشرات التي تظهر إعجاب «جنرال» الجيل الثاني في «الحرس» بالقضايا الجيوسياسية - أي رسم الخرائط الإقليمية -، طبعاً، إلى جانب انشغاله بالعمل الاستخباراتي.
وعلى امتداد 35 سنة تدرج الجنرال باقري في مناصب مثل «مسؤول استخبارات الفيالق» في حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق، و«قائد استخبارات عمليات القوات البرية في الحرس الثوري» و«رئيس دائرة استخبارات هيئة الأركان المسلحة»، ثم أسند إليه منصب «مساعد الاستخبارات والعلميات في هيئة الأركان». وكل هذه مسؤوليات تعكس حجم الخبرة الاستخباراتية في سجله.

- الحكومة مستاءة
بعد مرور سنة، بالتحديد، وفي تطور يحمل في طياته الكثير من الدلالات، اختار الرئيس الإيراني حسن روحاني جنرالاً من جنرالات الجيش لمنصب وزير الدفاع، وبذا خرجت وزارة الدفاع بعد ما يقارب ثلاثة عقود من تحت عباءة «الحرس».
الوزارة كانت منذ 1992 وحتى قبل سنة خلت، بيد جنرالات «الحرس الثوري»، إذ تعاقب على منصب الوزير كل من محمد فروزنده (رئيس «منظمة جرحى الحرب الاقتصادية القابضة» لاحقاً) وعلي شمخاني (أمين عام «مجلس الأمن القومي» حالياً) ومصطفى نجار (أصبح لاحقاً وزيرا للداخلية) وأحمد وحيدي (عضو اللجنة الاستراتيجية للعلاقات الخارجية لاحقاً) وحسين دهقان (مستشار المرشد الإيراني في الشؤون الدفاعية وهو ومرشح محتمل للرئاسة بعد روحاني).
وبعد تداول الحديث عن الاستياء العام بين قادة الجيش الإيراني، وفي خطوة اعتبرتها الصحف الإصلاحية «رد اعتبار» لقادة الجيش، اختار روحاني في حكومته الثانية، أمير حاتمي لحقيبة وزارة الدفاع، وكان حاتمي – بالمناسبة – يشغل منصب نائب رئيس الأركان. وكانت المحاولة وفق تحليل لوكالة تابعة لـ«الحرس» محاولة من روحاني «لحفظ التوازن» في مناصب قادة القوات المسلحة، إلا أن جهات مستقلة فسّرت خطوة روحاني على أنها محاولة من النظام لكسب ود قادة الجيش ضد منافس قوي اسمه «الحرس الثوري».
وفي مرحلة لاحقة اتخذ الرئيس روحاني خطوة أبعد في هذه اللعبة، ليبرهن أن لديه موقفاً من الرئيس الجديد للأركان المشتركة... ولا يتناغم معه كثيرا. وللعلم، في البنية الإدارية الجديدة للقطاع العسكري الإيراني، تعد هيئة الأركان المسلحة، هيئة عليا تشرف على أنشطة الجيش و«الحرس الثوري» وقوات الشرطة، فضلا عن وزارة الدفاع. وفي خطوة لافتة أقرّ روحاني هذا العام تقليص ميزانية هيئة الأركان إلى النصف من 30 ألف مليار ريال إلى 16 مليار ريال، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تتفوق فيها ميزانية وزارة الدفاع على ميزانية رئاسة الأركان.
بالتالي، اعتبرت الخطوة «مواجهة» لرئيس أركان يحمل ضمن سجله مواقف معارضة لرؤساء الجمهورية... منها رسالته عام 1999 إلى رئيس الحكومة (آنذاك) محمد خاتمي يهدده فيها أنه في حال لم يتدخل لإخماد حراك الطلاب «الإصلاحيين» واحتجاجاتهم، فإن «الحرس الثوري» سيتدخل بطريقته الخاصة.
ولكن من بين أبرز علامات المواجهة، راهناً، بين الرئيس ورئيس الأركان، مزايدة الجنرال الشاب وظله الثقيل على صلاحيات الحكومة وتجاهله اتجاهات روحاني، سواءً على الصعيد الدفاعي أو السياسة الخارجية.

- دبلوماسية العسكر
لقد أظهر محمد باقري، تحديداً، منذ أول أيام تعيينه، أنه يريد أداء دور مختلف عن دور سلفه فيروزآبادي، على صعيد العلاقات الدولية. يريد دوراً ينسجم مع آراء رئيس الأركان الجديد ويتفق مع أسس رؤيته الجيوسياسية. وفي هذا الإطار، زار باقري تركيا في أغسطس (آب) الماضي وأجرى مفاوضات مع وزير الدفاع التركي ورئيس هيئة الأركان المسلحة خلوصي أكار. وبعد ذلك توجه إلى كل روسيا وباكستان وسوريا، في خطوة يمكن أن تظهر لنا اهتمام «الحرس» بتوظيف صلاحيات رئيس الأركان كأداة دبلوماسية. أي كأداة يمكن أن تؤثر على مستقبل «الحرس» في الملف السوري. كذلك استضافت إيران خلال أقل من سنة رؤساء أركان كل من تركيا وروسيا وبوليفيا وباكستان والعراق. وكان جدول أعمال باقري أكثر ازدحاماً من جدول وزير الخارجية الإيرانية، محمد جواد ظريف، ما دفع المراقبين إلى الحديث عن بداية فترة «دبلوماسية العسكر» في إيران.
غير أن ذروة «دبلوماسية» الجنرال باقري، حقاً، كانت إبان فترة التوتر حول استفتاء إقليم «كردستان العراق»، عندما سافر إلى تركيا، وأجرى مفاوضات مباشرة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بحضور رئيس الأركان التركي خلوصي أكار، كما وجه دعوة في الفترة ذاتها إلى رئيس أركان الجيش العراقي، وناقش أزمة «كردستان العراق». وبذا تحوّل إلى اللاعب الأساسي والأكثر نشاطاً فيما يتعلق بالخطوة الكردية... أكثر حتى من رئيس الحكومة وأعلى من الوزارة الخارجية.
يومذاك رأى كثيرون من مؤيدي الحكومة الإيرانية أن رئيس هيئة الأركان ربما تجاوز حدوده وأن على روحاني مواجهته. وهو أمر ترك أثره في ميزانية الأركان التي قلّصتها الحكومة إلى النصف؛ ما تسبب بدوره في انزعاج باقري... الذي ما لبث أن قدم شكوى إلى المرشد الإيراني بهذا الصدد.
وعلى ما يبدو، رد خامنئي ضمنياً على خطوة روحاني، وخلال إعلان إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي في الخريف الماضي، أعلن تغيير موقع رئيس الأركان من عضو غير أساسي إلى أحد الأعضاء الأساسيين في المجلس. وهكذا عزز له موقعه مقابل الرئيس الإيراني.

- رأس هرم القوات المسلحة
الآن يرأس باقري هرم القوات المسلحة الإيرانية.
ومن ثم، فنحن أمام جنرال من «الحرس الثوري» لديه إلمام بـ«مجالات العمل الاستخباراتي» ويميل إلى مجال الأنشطة الجيوسياسية، ماذا يعني ذلك؟
«تقييم تبعات الحرب المحتملة مع أميركا» و«بحث في نماذج حروب الميليشيات الشيعية ضد الولايات المتحدة» و«الاستراتيجية الجيوسياسية على أساس الهلال الشيعي» في المنطقة العربية... هي محاور معظم مؤلفات باقري ومقالاته. وهي، بطبيعة الحال، تقدم صورة واضحة عن عقليته ومنطقه العسكري، لا سيما أن غالبية كتابات الرجل تأتي في سياق التفكير بهذه القضايا، وحتماً، التركيز على دور الميليشيات في هذه المعركة.
إضافة إلى ما سبق، فإن أداء الجنرال باقري يظهر رغبته الكبيرة في العمل السياسي وتنشيط «دبلوماسية العسكر» كبديل لدبلوماسية الحكومة. وبالفعل، هذا ما تحدث عن ضرورته مستشار قائد «الحرس الثوري» يدالله جواني في عدة مناسبات. وأكثر من ذلك، يتماهى هذا الميل مع ما ورد على لسان المرشد خامنئي، خلال الأسبوع الماضي في الملتقى السنوي للوفود الدبلوماسية الإيرانية المقام في طهران، عندما شدد على «الدبلوماسية الآيديولوجية» كنوع من الدبلوماسية الوفية للشعارات السياسية والمذهبية لـ«الثورة»، ما يؤكد النظرة التوسعية لدى قادة «الحرس»... الجلية تماماً في مؤلفات باقري.
أخيراً، إذا ما افترضنا أن اختيار محمد باقري رئيسا لهيئة الأركان - التي توضح المعطيات أن خامنئي اتخذه رغم معارضة كبار «الحرس»، باستثناء رحيم صفوي الذي يعد من داعمي باقري -، فإن هذا الاختيار جاء متعمداً وعن وعي تام بالخلفيات والظروف. ذلك أن المرشد اتخذ خطوة باتجاه خلق شخصية يمكنها لعب أدوار ذات مهام دبلوماسية من العيار الثقيل. والمعنى، أنها تستطيع أن تؤدي أدوارا يمكن أن يكون منصب رئيس الجمهورية من بينها. وهنا علينا ألا ننسى أننا نسمع كل يوم همسات عن انتخاب «رئيس عسكري» في الواجهة السياسة الإيرانية كأحد أبرز آمال تسيار «المحافظين» المقربين من «الحرس الثوري».


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.