محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر

من رموز اهتمام الجيل الثاني في «الحرس الثوري» بالشؤون الجيوسياسية

محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر
TT

محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر

محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر

تدرج الجنرال محمد باقري بين مختلف مستويات أجهزة استخبارات «الحرس الثوري} الإيراني، وورث عن أخيه الأكبر الراحل المهنة والاسم الحركي المستعار، وجمع إلى خبرته أصول العلوم الجيوسياسية. ولكن رغم معارضة قادة الجيل الأول من «الحرس» فإن المرشد علي خامنئي سلّمه رئاسة أركان القوات المسلحة الإيرانية منذ عامين (يونيو/ حزيران 2016) ليبدأ فصلاً جديداً في تاريخ هيئة الأركان يؤشر إلى دخولها مجال الدبلوماسية العسكرية. وهذا دخول يربطه كثيرون بالأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة، وأيضاً بتجربة باقري في رصد الحروب «غير المتكافئة» ومسار الميليشيات الطائفية المرتبطة بإيران ضد الولايات المتحدة، فضلا عن منافسة الحكومة الإيرانية في مجال السياسة الخارجية.

الاسم الحقيقي للجنرال (اللواء) محمد باقري (58 سنة)، مثل معظم حال الذين يعملون في الحقول الاستخباراتية، اسم آخر غير الذي يشتهر به، هو محمد حسين أفشردي. وهو الأخ الأصغر لحسن باقري لقائمقام قيادة «الحرس الثوري» الذي قتل في سن الـ26 في1983 إبان الحرب الإيرانية العراقية.
الأخ الأكبر تولى منصب القائمقام - قبل بلوغه الـ25 - بعد سنوات من العمل الاستخباراتي وتأسيس القواعد الأولى لوحدات استخبارات «الحرس الثوري». ولقد أملت عليه ظروف العمل الاستخباراتي أن يحمل اسماً آخر، هو «محمد باقري» الذي أطلقه عليه محسن رضايي، قائد «الحرس» حينذاك وأمين عام «مجلس تشخيص مصلحة النظام» حالياً. واليوم يُعرف الأخ الأصغر بهذا الاسم وللأسباب نفسها.

- بداية الصعود الأمني
في سن الـ19 التحق الجنرال باقري - المولود في أقصى شمال غربي إيران - بـ«الحرس الثوري» وبسعي من أخيه الأكبر دخل الجناح الاستخباراتي وحصل بعد مضي 36 سنة على رتبة لواء ركن (جنرال) من المرشد علي خامنئي ليصار إلى تعيينه في منصب رئيس هيئة الأركان. وكان هذا حدثاً، حسب مصادر متعددة، أثار غضب بعض قادة «الحرس» القدامى، مثل غلام علي رشيد وعلي شمخاني (أمين عام «مجلس الأمن القومي»). ذلك أن القادة الغاضبين بوصفهم «آباء الحرس» كانوا يتوقعون أن يختار المرشد واحدا من عناصر الجيل الأول لرئاسة هيئة الأركان المسلحة، وليس شاباً من الجيل الثاني... لم يعترف به - عملياً - الجيل الأول، ولم يوجه له دعوة لحضور الاجتماع الأسبوعي المعروف بـ«اجتماع الأربعاء» لكبار قادة الحرس في مكتب محسن رضايي.
غير أن باقري ينوب الآن عن المرشد في قيادة القوات المسلحة، بدلاً من اللواء حسن فيروزآبادي، وهو الشخص الذي حصل على رتبة عسكرية في بداية وصول خامنئي إلى منصب المرشد وترأس الأركان لفترة 28 سنة من دون أن تكون له سابقة ضمن القوات العسكرية التقليدية.
الجنرال باقري درس الجغرافيا السياسية في الجامعة، ووفق سيرته الذاتية المختصرة حصل على الدكتوراه في الجغرافيا السياسية من جامعة الدفاع الوطني العليا في العاصمة الإيرانية طهران. وشأنه شأن كثيرين من قادة «الحرس الثوري» أصبح أستاذا في الجامعة حيث درّس المجال التخصصي نفسه. وهو يعد إلى جانب اللواء رحيم صفوي، قائد «الحرس» السابق من مؤسسي «الرابطة الجيوسياسية الإيرانية»؛ وهذا من المؤشرات التي تظهر إعجاب «جنرال» الجيل الثاني في «الحرس» بالقضايا الجيوسياسية - أي رسم الخرائط الإقليمية -، طبعاً، إلى جانب انشغاله بالعمل الاستخباراتي.
وعلى امتداد 35 سنة تدرج الجنرال باقري في مناصب مثل «مسؤول استخبارات الفيالق» في حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق، و«قائد استخبارات عمليات القوات البرية في الحرس الثوري» و«رئيس دائرة استخبارات هيئة الأركان المسلحة»، ثم أسند إليه منصب «مساعد الاستخبارات والعلميات في هيئة الأركان». وكل هذه مسؤوليات تعكس حجم الخبرة الاستخباراتية في سجله.

- الحكومة مستاءة
بعد مرور سنة، بالتحديد، وفي تطور يحمل في طياته الكثير من الدلالات، اختار الرئيس الإيراني حسن روحاني جنرالاً من جنرالات الجيش لمنصب وزير الدفاع، وبذا خرجت وزارة الدفاع بعد ما يقارب ثلاثة عقود من تحت عباءة «الحرس».
الوزارة كانت منذ 1992 وحتى قبل سنة خلت، بيد جنرالات «الحرس الثوري»، إذ تعاقب على منصب الوزير كل من محمد فروزنده (رئيس «منظمة جرحى الحرب الاقتصادية القابضة» لاحقاً) وعلي شمخاني (أمين عام «مجلس الأمن القومي» حالياً) ومصطفى نجار (أصبح لاحقاً وزيرا للداخلية) وأحمد وحيدي (عضو اللجنة الاستراتيجية للعلاقات الخارجية لاحقاً) وحسين دهقان (مستشار المرشد الإيراني في الشؤون الدفاعية وهو ومرشح محتمل للرئاسة بعد روحاني).
وبعد تداول الحديث عن الاستياء العام بين قادة الجيش الإيراني، وفي خطوة اعتبرتها الصحف الإصلاحية «رد اعتبار» لقادة الجيش، اختار روحاني في حكومته الثانية، أمير حاتمي لحقيبة وزارة الدفاع، وكان حاتمي – بالمناسبة – يشغل منصب نائب رئيس الأركان. وكانت المحاولة وفق تحليل لوكالة تابعة لـ«الحرس» محاولة من روحاني «لحفظ التوازن» في مناصب قادة القوات المسلحة، إلا أن جهات مستقلة فسّرت خطوة روحاني على أنها محاولة من النظام لكسب ود قادة الجيش ضد منافس قوي اسمه «الحرس الثوري».
وفي مرحلة لاحقة اتخذ الرئيس روحاني خطوة أبعد في هذه اللعبة، ليبرهن أن لديه موقفاً من الرئيس الجديد للأركان المشتركة... ولا يتناغم معه كثيرا. وللعلم، في البنية الإدارية الجديدة للقطاع العسكري الإيراني، تعد هيئة الأركان المسلحة، هيئة عليا تشرف على أنشطة الجيش و«الحرس الثوري» وقوات الشرطة، فضلا عن وزارة الدفاع. وفي خطوة لافتة أقرّ روحاني هذا العام تقليص ميزانية هيئة الأركان إلى النصف من 30 ألف مليار ريال إلى 16 مليار ريال، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تتفوق فيها ميزانية وزارة الدفاع على ميزانية رئاسة الأركان.
بالتالي، اعتبرت الخطوة «مواجهة» لرئيس أركان يحمل ضمن سجله مواقف معارضة لرؤساء الجمهورية... منها رسالته عام 1999 إلى رئيس الحكومة (آنذاك) محمد خاتمي يهدده فيها أنه في حال لم يتدخل لإخماد حراك الطلاب «الإصلاحيين» واحتجاجاتهم، فإن «الحرس الثوري» سيتدخل بطريقته الخاصة.
ولكن من بين أبرز علامات المواجهة، راهناً، بين الرئيس ورئيس الأركان، مزايدة الجنرال الشاب وظله الثقيل على صلاحيات الحكومة وتجاهله اتجاهات روحاني، سواءً على الصعيد الدفاعي أو السياسة الخارجية.

- دبلوماسية العسكر
لقد أظهر محمد باقري، تحديداً، منذ أول أيام تعيينه، أنه يريد أداء دور مختلف عن دور سلفه فيروزآبادي، على صعيد العلاقات الدولية. يريد دوراً ينسجم مع آراء رئيس الأركان الجديد ويتفق مع أسس رؤيته الجيوسياسية. وفي هذا الإطار، زار باقري تركيا في أغسطس (آب) الماضي وأجرى مفاوضات مع وزير الدفاع التركي ورئيس هيئة الأركان المسلحة خلوصي أكار. وبعد ذلك توجه إلى كل روسيا وباكستان وسوريا، في خطوة يمكن أن تظهر لنا اهتمام «الحرس» بتوظيف صلاحيات رئيس الأركان كأداة دبلوماسية. أي كأداة يمكن أن تؤثر على مستقبل «الحرس» في الملف السوري. كذلك استضافت إيران خلال أقل من سنة رؤساء أركان كل من تركيا وروسيا وبوليفيا وباكستان والعراق. وكان جدول أعمال باقري أكثر ازدحاماً من جدول وزير الخارجية الإيرانية، محمد جواد ظريف، ما دفع المراقبين إلى الحديث عن بداية فترة «دبلوماسية العسكر» في إيران.
غير أن ذروة «دبلوماسية» الجنرال باقري، حقاً، كانت إبان فترة التوتر حول استفتاء إقليم «كردستان العراق»، عندما سافر إلى تركيا، وأجرى مفاوضات مباشرة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بحضور رئيس الأركان التركي خلوصي أكار، كما وجه دعوة في الفترة ذاتها إلى رئيس أركان الجيش العراقي، وناقش أزمة «كردستان العراق». وبذا تحوّل إلى اللاعب الأساسي والأكثر نشاطاً فيما يتعلق بالخطوة الكردية... أكثر حتى من رئيس الحكومة وأعلى من الوزارة الخارجية.
يومذاك رأى كثيرون من مؤيدي الحكومة الإيرانية أن رئيس هيئة الأركان ربما تجاوز حدوده وأن على روحاني مواجهته. وهو أمر ترك أثره في ميزانية الأركان التي قلّصتها الحكومة إلى النصف؛ ما تسبب بدوره في انزعاج باقري... الذي ما لبث أن قدم شكوى إلى المرشد الإيراني بهذا الصدد.
وعلى ما يبدو، رد خامنئي ضمنياً على خطوة روحاني، وخلال إعلان إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي في الخريف الماضي، أعلن تغيير موقع رئيس الأركان من عضو غير أساسي إلى أحد الأعضاء الأساسيين في المجلس. وهكذا عزز له موقعه مقابل الرئيس الإيراني.

- رأس هرم القوات المسلحة
الآن يرأس باقري هرم القوات المسلحة الإيرانية.
ومن ثم، فنحن أمام جنرال من «الحرس الثوري» لديه إلمام بـ«مجالات العمل الاستخباراتي» ويميل إلى مجال الأنشطة الجيوسياسية، ماذا يعني ذلك؟
«تقييم تبعات الحرب المحتملة مع أميركا» و«بحث في نماذج حروب الميليشيات الشيعية ضد الولايات المتحدة» و«الاستراتيجية الجيوسياسية على أساس الهلال الشيعي» في المنطقة العربية... هي محاور معظم مؤلفات باقري ومقالاته. وهي، بطبيعة الحال، تقدم صورة واضحة عن عقليته ومنطقه العسكري، لا سيما أن غالبية كتابات الرجل تأتي في سياق التفكير بهذه القضايا، وحتماً، التركيز على دور الميليشيات في هذه المعركة.
إضافة إلى ما سبق، فإن أداء الجنرال باقري يظهر رغبته الكبيرة في العمل السياسي وتنشيط «دبلوماسية العسكر» كبديل لدبلوماسية الحكومة. وبالفعل، هذا ما تحدث عن ضرورته مستشار قائد «الحرس الثوري» يدالله جواني في عدة مناسبات. وأكثر من ذلك، يتماهى هذا الميل مع ما ورد على لسان المرشد خامنئي، خلال الأسبوع الماضي في الملتقى السنوي للوفود الدبلوماسية الإيرانية المقام في طهران، عندما شدد على «الدبلوماسية الآيديولوجية» كنوع من الدبلوماسية الوفية للشعارات السياسية والمذهبية لـ«الثورة»، ما يؤكد النظرة التوسعية لدى قادة «الحرس»... الجلية تماماً في مؤلفات باقري.
أخيراً، إذا ما افترضنا أن اختيار محمد باقري رئيسا لهيئة الأركان - التي توضح المعطيات أن خامنئي اتخذه رغم معارضة كبار «الحرس»، باستثناء رحيم صفوي الذي يعد من داعمي باقري -، فإن هذا الاختيار جاء متعمداً وعن وعي تام بالخلفيات والظروف. ذلك أن المرشد اتخذ خطوة باتجاه خلق شخصية يمكنها لعب أدوار ذات مهام دبلوماسية من العيار الثقيل. والمعنى، أنها تستطيع أن تؤدي أدوارا يمكن أن يكون منصب رئيس الجمهورية من بينها. وهنا علينا ألا ننسى أننا نسمع كل يوم همسات عن انتخاب «رئيس عسكري» في الواجهة السياسة الإيرانية كأحد أبرز آمال تسيار «المحافظين» المقربين من «الحرس الثوري».


مقالات ذات صلة

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

حصاد الأسبوع من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

يحاول الأردن تحييد أجوائه وأراضيه بعيداً عن التصعيد الإسرائيلي - الإيراني، الممتد عبر جبهتي جنوب لبنان وشمال غزة، ليضاعف مستويات القلق الأمني مراقبة خطر الضربات

محمد خير الرواشدة (عمّان)
حصاد الأسبوع إيشيبا

شيغيرو إيشيبا... رئيس وزراء اليابان الجديد يعدّ العدة لتجاوز الهزيمة الانتخابية الأخيرة

الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في اليابان شرعت أخيراً الأبواب على كل الاحتمالات، ولا سيما في أعقاب حدوث الهزيمة الانتخابية التي كانت مرتقبة للحزب الديمقراطي

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

«لقد انتصرت روسيا اليوم في جورجيا... علينا أن نعترف بذلك»... بهذه الكلمات لخّص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تخوض بلاده حرباً مفتوحة مع روسيا منذ 33

رائد جبر (موسكو )
حصاد الأسبوع لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)

قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

حققت الهند والصين تقدماً كبيراً على صعيد المناقشات حول حدودهما المتنازع عليها في جبال الهيمالايا؛ ما يشير إلى إمكانية لتحسين العلاقات في أعقاب المناوشات التي وقعت بين الجانبين، وأسفرت عن تجميد العلاقات بين العملاقين الآسيويين. هذا التقدّم الكبير المتمثل في الإعلان عن الاتفاق على «فك الاشتباك العسكري»، والذي جاء قبيل انعقاد قمة «البريكس» السادسة عشرة في روسيا، مهّد الطريق للمباحثات الثنائية بين رئيس الوزراء ناريندرا مودي والرئيس الصيني شي جينبينغ. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم أن العلاقات التجارية ظلت عند مستويات قياسية مرتفعة، تضرّرت العلاقات الثنائية في مجالات، بينها الاستثمار والسفر والتأشيرات... ويبقى الآن أن نرى ما إذا كانت العلاقات الثنائية ستتعافى.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الزعيمان الهندي والصيني مودي وشي، وبينهما بوتين خلال تجمّع للقادة المشاركين (رويترز)

الهند أصرَّت على رفض «مبادرة الحزام والطريق» الصينية

> على الرغم من ذوبان الجليد في العلاقات الصينية - الهندية، رفضت الهند في اجتماع «منظمة شنغهاي للتعاون»، الذي اختتم أعماله حديثاً في باكستان، الانضمام.


شيغيرو إيشيبا... رئيس وزراء اليابان الجديد يعدّ العدة لتجاوز الهزيمة الانتخابية الأخيرة

إيشيبا
إيشيبا
TT

شيغيرو إيشيبا... رئيس وزراء اليابان الجديد يعدّ العدة لتجاوز الهزيمة الانتخابية الأخيرة

إيشيبا
إيشيبا

الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في اليابان شرعت أخيراً الأبواب على كل الاحتمالات، ولا سيما في أعقاب حدوث الهزيمة الانتخابية التي كانت مرتقبة للحزب الديمقراطي الحر الحاكم. هذه الهزيمة جاءت إثر تبديل «استباقي» في زعامة الحزب المحافظ - المهيمن على السلطة في اليابان معظم الفترة منذ الخمسينات - في أعقاب قرار رئيس الحكومة السابق فوميو كيشيدا الاستقالة (حزبياً ومن ثم حكومياً) في أعقاب التراجع الكبير في شعبية الحزب، وتولّي غريمه الحزبي الأبرز شيغيرو إيشيبا المنصبَين. ومن ثم، دعا إيشيبا بنهاية سبتمبر (أيلول) الماضي إلى إجراء انتخابات عامة عاجلة ومبكّرة يوم 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن إجراء انتخابات عاجلة، انتهت بفقدان الائتلاف الحاكم المكوّن من الديمقراطيين الأحرار وحليفه حزب «كوميتو» الغالبية البرلمانية.

ألحق الناخبون اليابانيون الأحد الماضي هزيمة مؤلمة بالحزب الديمقراطي الحر، الذي هيمن مع استثناءات قليلة على حكم البلاد منذ عام 1955، وكانت هزيمته الأخيرة الأولى له التي تفقده الغالبية المطلقة في مجلس النواب منذ 15 سنة. وهنا، يتفق المراقبون على أن الحزب المحافظ والكبير النفوذ إنما حصد نقمة الشارع وغضبه بسبب التضخم المتصاعد والتباطؤ الاقتصادي وضعف قيمة العملة الوطنية «الين»، ناهيك من الفضائح المالية التي تورّطت بها قيادات حزبية، وصلات بعض الأعضاء بـ«كنيسة التوحيد» (الحركة المونية). وهكذا أخفق الحزب مع حليفه الصغير في جمع ما هو أكثر من 215 مقعداً من أصل 465 في حين كانت الغالبية المطلقة تحتاج إلى 233 مقعداً.

نكسة مبكرة للزعيم الجديد

هذه الهزيمة المريرة شكّلت أيضاً نكسة كبرى ومبكرة لزعيم الحزب ورئيس الوزراء الجديد شيغيرو إيشيبا، الذي أخفق رهانه بامتصاص النقمة الشعبية وترسيخ موقعه عبر الانتخابات المبكّرة.

وحقاً، أعلن إيشيبا في أول تعليق له على النتيجة نقلته شبكة «سي إن إن» الأميركية، أن الناخبين «أصدروا حكماً قاسياً» بحق حزبه الذي عليه أن «يأخذه بجدية وامتثال». لكنه أردف أنه لا يعتزم التنحي من رئاسة الحكومة، موضحاً «بالنسبة لي، فإنني سأعود إلى نقطة البداية، وأسعى للدفع قدماً بتغييرات داخل هيكل الحزب، وتغييرات أخرى أعمق لمواجهة الوضع السياسي». وفي حين ذكر إيشيبا أنه ليس لدى الحزب أي فكرة جاهزة لتحالف جديد فإن كل سياسات الحزب ستكون مطروحة على بساط البحث.

بطاقة هوية

وُلد شيغيرو إيشيبا يوم 4 فبراير (شباط) 1957 لعائلة سياسية مرموقة، مثله في ذلك الكثير من ساسة الحزب الديمقراطي الحر. إذ إن والده جيرو إيشيبا كان محافظاً لإقليم توتوري، الريفي القليل السكان بجنوب غرب اليابان، بين عامي 1958 و1974، قبل أن تُسند إليه حقيبة وزارة الداخلية. من الناحية الدينية، رئيس الوزراء الحالي مسيحي بروتستانتي تلقى عمادته في سن الـ18 في توتوري، كما أن جد أمّه قسٌّ من روّاد المسيحية في اليابان.

تلقّى شيغيرو دراسته الجامعية وتخرّج مجازاً بالحقوق في جامعة كييو، إحدى أعرق جامعات اليابان الخاصة، ومقرها العاصمة طوكيو، وفيها التقى زوجته المستقبلية يوشيكو ناكامورا، وهما اليوم والدان لابنتين.

وبعد التخرّج توظّف في مصرف «ميتسوي»، قبل أن يسير على خُطى والده فيدخل ميدان السياسة بتشجيع من صديق والده ورئيس الوزراء الأسبق كاكوي تاناكا (1972 - 1974).

وبالفعل، انتُخب وهو في سن التاسعة والعشرين، عام 1986، نائباً عن الديمقراطيين الأحرار في البرلمان (مجلس النواب) عن دائرة توتوري الموسّعة حتى عام 1996، ثم عن دائرة توتوري الأولى منذ ذلك الحين وحتى اليوم. وعُرف عنه طوال هذه الفترة اهتمامه ودرايته بملفّي الزراعة والسياسة الدفاعية. وحقاً، خدم لفترة نائباً برلمانياً لوزير الزراعة في حكومة كييتشي ميازاوا.

مسيرة سياسية مثيرة

في واقع الأمر، لم تخلُ مسيرة شيغيرو إيشيبا السياسية من الإثارة؛ إذ تخللها ليس فقط الترّقي في سلّم المناصب باتجاه القمّة، بل شهدت أيضاً مواقف اعتراضية واستقلالية وضعته غير مرة في مسار تصادمي مع حزبه وحزب والده.

في عام 1993، خرج من صفوف حزبه الديمقراطي الحر ليلتحق بحزب «تجديد اليابان» الذي أسسته قيادات منشقة عن الحزب بقيادة تسوتومو هاتا (رئيس الوزراء عام 1994) وإيتشيرو أوزاوا (وزير داخلية سابق) حتى عام 1994. ثم انتقل إلى حزب «الحدود الجديدة» الذي أُسس نتيجة اندماج «تجديد اليابان» مع قوى أخرى، وفيه مكث بين 1994 و1996، وبعدها ظل نائباً مستقلاً إلى أن عاد إلى صفوف الديمقراطيين الأحرار ويستأنف ضمن إطار الحزب الكبير ترقّيه السياسي السريع ضمن قياداته.

في أعقاب العودة عام 1997، تبوّأ إيشيبا عدداً من المسؤوليات، بدأت بمنصب المدير العام لوكالة الدفاع – أي حقيبة وزير الدفاع منذ أواخر 2007 –. ولقد شغل إيشيبا منصب وزير الدفاع بين عامي 2007 و2008 في حكومتي جونيتشيرو كويزومي وياسوو فوكودا، ثم عُيّن وزيراً للزراعة والغابات والثروة السمكية في حكومة تارو آسو بين 2008 و2009. وكذلك، تولّى أيضاً منصب الأمين العام للحزب الديمقراطي الحر بين 2012 و2014.

مع الأخذ في الاعتبار هذه الخلفية، كان طبيعياً أن يدفع طموح إيشيبا الشخصي هذا السياسي الجريء إلى التوق لخوض التنافس على زعامة الحزب، وبالتالي، رئاسة الحكومة.

بالمناسبة، جرّب شيغيرو إيشيبا حظه في الزعامة مرّات عدة. وكانت المرة الأولى التي يرشح نفسه فيها عام 2008 إلا أنه في تلك المنافسة احتل المرتبة الخامسة بين المتنافسين. بعدها رشح نفسه عامي 2012 و2018، وفي المرتين كان غريمه رئيس الوزراء الأسبق الراحل شينزو آبي... «وريث» اثنتين من السلالات السياسية اليابانية البارزة، والزعيم الذي شغل منصب رئاسة الحكومة لأطول فترة في تاريخ المنصب.

ثم في أعقاب استقالة آبي (الذي اغتيل عام 2022) لأسباب صحية عام 2020، رشّح إيشيبا نفسه، إلا أنه خسر هذه المرة وجاء ثالثاً، وذهبت الزعامة ورئاسة الحكومة ليوشيهيدي سوغا. وفي العام التالي، بعدما أحجم إيشيبا عن خوض المنافسة، فاز الزعيم ورئيس الحكومة السابق السابق فوميو كيشيدا. بيد أن الأخير قرّر في أغسطس (آب) أنه لن يسعى إلى التجديد الموعد المقرر في سبتمبر (أيلول). وهكذا، بات لا بد من الدعوة إلى إجراء انتخابات الزعامة الأخيرة التي فاز بها إيشيبا، متغلباً بفارق بسيط وفي الدورة الثانية على منافسته الوزيرة اليمينية المتشدّدة ساني تاكاييشي، التي كانت تصدرت دور التصويت الأولى. وهكذا، صار زعيماً للحزب الديمقراطي الحر ومرشحه لرئاسة الحكومة الرسمي، وعلى الأثر، اختاره مجلس النواب رئيساً للوزراء في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم.

أفكاره ومواقفه

على الرغم من طول بقاء إيشيبا في قلب الحلبة السياسية، فإن طبيعته الاستقلالية، عقّدت أمام المحللين وضعه في خانة واضحة. فهو تارة يوصف بأنه وسطي ليبرالي، تارة أخرى يوصف بـ«الإصلاحي»، وفي أحيان كثيرة يُعرّف بأنه يميني محافظ، بل متشدد. ومما لا شك فيه، أن طبيعة تركيبة الحزب الديمقراطي الحرّ، القائمة على أجنحة تسمح بتعدّد الولاءات الشخصية وتوارثها داخل أروقة تلك الأجنحة، وهذا من دون أن ننسى أن بداية الحزب نفسه جاءت من اندماج حزبين محافظين هما الحزب الحر (الليبرالي) والحزب الديمقراطي الياباني عام 1955.

على المستوى الاجتماعي، أبدى إيشيبا مواقف متحررة في عدد من القضايا بما في ذلك تأييده شخصياً زواج المثليين، كما أنه من مؤيدي ترك الخيار لكل من الزوجين بالاحتفاظ بالاسم الأصلي قبل الزواج. أما على الصعيد الاقتصادي، وتأثراً بكونه ممثلاً لمنطقة ريفية قليلة السكان، فإنه أبدى ولا يزال اهتماماً كبيراً بالتناقص السكاني وضرورة الاهتمام بالاقتصاد الريفي؛ ما يعني العمل على تقليص الفوارق بين الحواضر الغنية والأرياف الفقيرة.

لم تخلُ مسيرة إيشيبا السياسية من الإثارة... إذ اتخذ مواقف اعتراضية واستقلالية

وضعته أكثر من مرة في مسار تصادمي مع حزبه

السياسة الدولية

في ميدان العلاقات الخارجية والسياسة الدولية، تُعرف عن إيشيبا مواقفه المتشددة المتوافقة مع أفكار التيار المحافظ داخل الحزب الحاكم، وبالأخص إزاء التصدي لخطر نظام كوريا الشمالية وقضية تايوان، حيث يقف بقوة بجانب نظامها الديمقراطي في وجه التهديد الصيني.

وفيما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة، حليف اليابان الأكبر، رأى رئيس الوزراء الحالي قبل أشهر أن سبب إحجام واشنطن عن الدفاع هو أن أوكرانيا ليست عضواً في حلف دفاع مشترك مثل حلف شمال الأطلسي (ناتو). واستطراداً، في ربط الوضع الأوكراني بحالة تايوان، يعتبر إيشيبا أن تأسيس حلف أمني آسيوي خطوة ضرورية لردع أي هجوم صيني على تايوان، لا سيما في «التراجع النسبي» في القوة الأميركية.

وفي التصور الذي عبَّر عنه إيشيبا بـ«ناتو» آسيوي يواجه تهديدات روسيا والصين وكوريا الشمالية، يجب أن يضم الحلف العتيد دولاً غربية وشرقية منها فرنسا، وبريطانيا وألمانيا، وكذلك الهند، والفلبين، وكوريا الجنوبية، وأستراليا وكندا.

من جهة ثانية، تطرّق إيشيبا خلال الحملة الانتخابية إلى التحالف الأميركي - الياباني، الذي وصفه بأنه «غير متوازٍ» ويحتاج بالتالي إلى إعادة ضبط وتوازن. وكان في أول مكالمة هاتفية له بعد ترؤسه الحكومة اليابانية مع الرئيس الأميركي جو بايدن، أعرب عن رغبته في «تعزيز الحلف» من دون أن يعرض أي تفاصيل محددة بهذا الشأن، ومن دون التطرق إلى حرصه على إجراء تغييرات في الاتفاقيات الثنائية كي يتحقق التوازن المأمول منها.

التداعيات المحتملة للنكسة الانتخابية الأخيرة

في أي حال، نكسة الحزب الديمقراطي الحر في الانتخابات العامة الأخيرة تفرض على شيغيرو إيشيبا «سيناريو» جديداً ومعقّداً... يبداً من ضمان تشكيلة حكومة موسّعة تخلف حكومته الحالية، التي لا تحظى عملياً بتفويض شعبي كافٍ. وهذا يعني الانخراط بمساومات ومفاوضات مع القوى البرلمانية تهدف إلى تذليل العقبات أمامه.

المهمة ليست سهلة حتماً، لكن خبرة الساسة اليابانيين التقليديين في التفاوض والمساومات أثبت فعالياتها في مناسبات عدة، بما فيها الفضائح وانهيار التحالفات، وكانت دائماً تثمر عقد صفقات طارئة حتى مع القوى المناوئة.

شينزو آبي (آ. ب.)

 

حقائق

رؤساء وزارات اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية

في عام 1955، أي بعد مرور عقد من الزمن على هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، التقى حزبان سياسيان يمينيان وتفاهما على الاندماج في حزب تحوّل ما يشبه الظاهرة في الأنظمة الديمقراطية في العالم.الحزبان المقصودان هما الحزب الحر (أو الحزب الليبرالي) والحزب الديمقراطي الياباني، ولقد نتج من هذا الاندماج الحزب الديمقراطي الحر، الذي هيمن على مقدرات السياسة اليابانية منذ ذلك الحين باستثناء خمس سنوات، فقط خسر فيها السلطة لقوى معارضة أو منشقة عنها. وطوال الفترة التي تقرب من 70 سنة خرج من قادة الحزب الكبير زعماء نافذون رسخوا الاستقرار ورعوا الاستمرارية وأسهموا، بالتالي، في تحقيق «المعجزة الاقتصادية» اليابانية المبهرة.وفيما يلي، أسماء رؤساء الحكومات التي تولت السلطة منذ منتصف الخمسينات:- الأمير ناروهيكو هيغاشيكوني (من الأسرة المالكة) 1945- البارون كوجيرو شيديهارا (مستقل) 1945 – 1946- شيغيرو يوشيدا (الحزب الحر) 1946 – 1947- تيتسو كاتاياما (الحزب الاشتراكي) 1947 – 1948- هيتوشي آشيدا (الحزب الديمقراطي) 1948- شيغيرو يوشيدا (الحزب الديمقراطي الليبرالي / الحزب الحر) 1948 – 1954- إيتشيرو هاتاياما (الحزب الديمقراطي الياباني / الحزب الديمقراطي الحر) 1954 – 1956- تانزان إيشيباشي (الحزب الديمقراطي الحر) 1956 – 1957- نوبوسوكي كيشي (الحزب الديمقراطي الحر) 1957 – 1960- هاياتو إيكيدا (الحزب الديمقراطي الحر) 1960 – 1964- إيساكو ساتو (الحزب الديمقراطي الحر) 1964 – 1972- كاكوي تاناكا (الحزب الديمقراطي الحر) 1972 – 1974- تاكيو ميكي (الحزب الديمقراطي الحر) 1974 – 1976- تاكيو فوكودا (الحزب الديمقراطي الحر) 1976 – 1978- ماسايوشي أوهيرا (الحزب الديمقراطي الحر) 1978 – 1980- زينكو سوزوكي (الحزب الديمقراطي الحر) 1980 – 1982- ياسوهيرو ناكاسوني (الحزب الديمقراطي الحر) 1982 – 1987- نوبورو تاكيشيتا (الحزب الديمقراطي الحر) 1987 – 1989- سوسوكي أونو (الحزب الديمقراطي الحر) 1989- توشيكي كايفو (الحزب الديمقراطي الحر) 1989 – 1991- كيئيتشي ميازاوا (الحزب الديمقراطي الحر) 1991 – 1993- موريهيرو هوسوكاوا (الحزب الياباني الجديد) 1993 – 1994- تسوتومو هاتا (حزب «تجديد اليابان») 1994- توميئيتشي موراياما (الحزب الاشتراكي) 1994 – 1996- ريوتارو هاشيموتو (الحزب الديمقراطي الحر) 1996 – 1998- كايزو أوبوتشي (الحزب الديمقراطي الحر) 1998 – 2000- يوشيرو موري (الحزب الديمقراطي الحر) 2000 – 2001- جونيتشيرو كويزومي (الحزب الديمقراطي الحر) 2001 – 2006- شينزو آبي (الحزب الديمقراطي الحر) 2006 – 2007- ياسوو فوكودا (الحزب الديمقراطي الحر) 2007 – 2008- تارو آسو (الحزب الديمقراطي الحر) 2008 – 2009- يوكيو هاتوياما (الحزب الديمقراطي الياباني) 2009 – 2010- ناوتو كان (الحزب الديمقراطي الياباني) 2010 – 2011- يوشيهيكو نودا (الحزب الديمقراطي الياباني) 2011 – 2012- شينزو آبي (الحزب الديمقراطي الحر) 2012 – 2020- يوشيهيدي سوغا (الحزب الديمقراطي الحر) 2020 – 2021- فوميو كيشيدا (الحزب الديمقراطي الحر) 2021 – 2024- شيغيرو إيشيبا (الحزب الديمقراطي الحر) 2024.....