الصراع على مصادر المياه «عقدة» اضافية بين أنقرة ودمشق وبغداد

تستعرض المفاوضات الثلاثية حول نهري الفرات ودجلة

الصراع على مصادر المياه «عقدة» اضافية بين أنقرة ودمشق وبغداد
TT

الصراع على مصادر المياه «عقدة» اضافية بين أنقرة ودمشق وبغداد

الصراع على مصادر المياه «عقدة» اضافية بين أنقرة ودمشق وبغداد

ترتبط مسألة الغذاء ارتباطاً وثيقاً بكمية المياه المتوافرة، وتعتبر ذات أهمية حيوية. وعندما تخفت أصوات البنادق وطبول الحرب في المنطقة سيطغى الصراع على المياه في حوضي الفرات ودجلة، حيث سيكتسب النزاع السوري - التركي - العراقي حول مياه نهري دجلة والفرات بعداً دولياً، وقد تتحول المياه إلى سلاح رغم أن احتمال مواجهة عسكرية هي شبه معدومة، ويصبح خزان سد أتاتورك العظيم في تركيا سلاحاً بيد الحكومة للضغط على كل من سوريا والعراق.
ويتضمن تعبير «حرب المياه» في شرق البحر المتوسط استعمال المياه سلاحاً من أجل السيطرة على المنابع، أو تحويل المياه سلعةً تجاريةً تتحكم فيها دول المنبع القوية لأهداف سياسية.
أما في إيران، فإن المسألة لا تقل تعقيداً عن الدول المجاورة لها شرقاً. فمن جهة، فإن السدود التي أقامتها السلطات الإيرانية تعتبر ذراعاً رئيسية في البرنامج النووي. ومن جهة أخرى، فإن السلطات استخدمت السدود ومشروعات المياه وسيلةً لـ«الهندسة الاجتماعية»؛ إذ إنها نقلت المياه من مناطق الأقليات إلى «العصب الفارسي».
وإذا كان الجفاف ونقص المياه بين العوامل التي أدت إلى الحراك في سوريا وربما العراق، فإن احتجاجات مناطق الأحواز استندت إلى موضوع العطش ونقص المياه. كما أن مسؤولين إيرانيين باتوا يتحدثون بوضوح عن وجود «مافيا من المتنفذين» يهيمنون على ملف المياه، إضافة إلى أنهم يحذرون من «الإفلاس المائي» الذي يضاف إلى التحديات التي تواجهها طهران في الفترة الأخيرة.
تنشر «الشرق الأوسط» اليوم ملفاً عن مشروعات المياه والتحديات المستقبلية في سوريا، والعراق، وتركيا، وإيران:

عندما تخفت أصوات البنادق وطبول الحرب في سوريا والعراق، قد تظهر توترات جديدة بسبب المياه، خصوصاً في الصراع مع تركيا التي ينطلق منها نهرا الفرات ودجلة.
أدى القصف على الجماعات المسلحة في سوريا، والحرب في غرب العراق، إلى تدمير تجهيزات مصادر المياه من السدود والأقنية؛ ما أدى إلى نقص في المياه المتاحة ليس لأغراض للري وحسب، بل للشرب وتنشيط مناطق زلزاليّة؛ ما كان له تأثير على المياه الجوفيّة فيها في بلاد الرافدين، بل تعزى بداية الاحتجاجات في سوريا إلى القحط - الجفاف الذي لحق بمناطق الفرات ونزوح ما يقرب مليون مزارع إلى درعا لعبوا في الأزمة؛ الأمر الذي كان له أثر بالغ الضرر في المجالات الزراعية والبشرية وتربية الحيوان وإنتاج الطاقة.
ويتساءل كثيرون: هل هذه هي نقطة البداية، وهل ستعقبها أضرار كبيرة في المستقبل عند إتمام مشروع تطوير الأناضول جنوب شرقي تركيا (غاب)؟ إذ نتج من تدفق مياه نهر الفرات انخفاض في منسوب بحيرة الطبقة إلى درجة مخيفة، بحيث توقفت المولدات المائية، وانخفضت تغذية الكهرباء للمدن السورية، واضطر كثير من المزارعين السوريين على ضفاف النهر إلى بيع مواشيهم بأسعار متدنية لعجزهم عن توفير الأعلاف اللازمة لحياتها. كما نفقت الأسماك، كذلك فقد كثير من المزارعين محاصيلهم؛ لعدم توافر مياه الري، بل وانقطاعه تماماً في بعض الأحيان عن كثير من المجمعات السكنية.
لعبت العلاقات السياسية على مدى العقود الماضية دورا في النزاع على الحقوق المائية بين دول الرافدين، حيث كانت ضحية التقلبات السياسية بين تركيا وسوريا. ومن العبث التحدث عن الحقوق المائية للفرات ودجلة بمعزل عن النزاعات السياسية بين جناحي حزب «البعث» في سوريا والعراق خلال حكم صدام حسين.
كما يتساءل كثيرون عن أسباب تعثر المفاوضات السورية - التركية في العقود السابقة. لكن في الواقع يعود إلى عاملين سياسي - مائي. الخلافات السياسية بين تركيا وسوريا عميقة الجذور وتتمحور الخلافات على ثلاثة موضوعات، هي: المياه والأكراد ولواء الإسكندرون. بإقرار سوريا يتضمن تنازلها عن لواء إسكندرون، وبعقد اتفاقية شاملة للمياه وتعاون سوري - تركي لضرب العناصر الكردية ذات الأهداف القومية الكردية في التجمع الكردي في شرق تركيا، بل بالأحرى في مناطق ينابيع الفرات ودجلة، وهذا ما يفسر قلق تركيا من الأكراد الانفصاليين وخوفها على منشآت سد أتاتورك، حيث تقوم قوة تركية يربو عددها على خمسة آلاف جندي مسلحين ومزودين بالمروحيات، بحماية السد ومنشآته. واتهمت أنقرة سوريا بإيواء مجموعات «حزب العمال الكردستاني» وإذا كان لواء إسكندرون مصدر توتر سوري - تركي في العقود السابقة، فإن قضايا الخلاف حول المياه والأكراد أصبحت جدية، وقد تتحول المياه إلى سلاح سياسي بما يفوق دورها التنموي في الري والزراعة.

المفاوضات السورية - التركية
عندما طرحت تركيا وسوريا مشروعاتهما المائية لاستثمار حوض الفرات، عقد الجانبان اجتماعاً في أنقرة عام 1962 لبحث الآثار المترتبة عليها، حيث بحثا فيه استعمالات مياه الفرات عقب تنفيذ المشروعات، ووافقت تركيا على الاستمرار في التصريف الطبيعي للنهر، على أن يعدل هذا التصريف مع توسيع المشروعات التركية. وعرض الجانب السوري مشروعاته على نهر الفرات، واتفق الجانبان على ضرورة تنسيق جهودهما لتشغيل وتعبئة خزاني كيبان والطبقة، وتبع ذلك اجتماع تركي – سوري – عراقي، في بغداد عام 1965، حيث فشل المتفاوضون في التوصل إلى اتفاق حين رفض الجانب التركي التفاوض ما لم تتضمن المباحثات اقتسام مياه دجلة، بالإضافة للفرات باعتباره نهراً مشتركاً أيضاً بين الدول الثلاث لتغطية النقص المتوقع نتيجة مشروعات الري التركية المزمع تنفيذها.
بعدها، عقدت سلسلة من الاجتماعات لتعبئة خزانات سدود كيبان والأسد والحبانية بين تركيا والعراق وسوريا. كما جرى تبادل للمعلومات المائية في الاجتماعين الثالث والرابع في أنقرة عام 1972، وتم الاتفاق في الدورة الخامسة للمفوضات في عام 1983 باعتماد نتائج دراسة اللجنة الفنية الثلاثية من حيث القياسات المائية وتعبئة الخزانات. وبناءً على وساطة لجنة البنك الدولي ووفق اتفاق اللجان الفنية المشتركة في عام 1975، قسمت حاجات البلدان الثلاثة بنسبة الثلث لكل منها على متوسط الوارد السنوي، لكن بروتوكول عام 1987 المعقود بين سوريا وتركيا منحها 50 في المائة من واردات النهر الوسطية السنوية لتعبئة خزان سد أتاتورك لغاية نهاية عام 1993 حتى ملء سد أتاتورك، ثم تعود حصة تركيا إلى نسبة الثلث.
وعلى ما يبدو، فإن البرتوكول المؤقت أصبح حقيقة عندما وقّعت سوريا وتركيا في سبتمبر (أيلول) 1992 اتفاقاً للتعاون الأمني تمنع سوريا بمقتضاه أنشطة الانفصاليين من أكراد تركيا في سوريا ولبنان، وملاحقة القوات التركية حزب العمل الكردستاني داخل سوريا، وارتبط تنفيذ الفقرة المائية من البروتوكول بالتزام سوريا بالبرتوكول الأمني.
وفي ظل التحسن الملحوظ في العلاقات السورية - التركية بعد تسلم الرئيس السوري بشار الأسد مقاليد الحكم والفتور النسبي في العلاقات التركية - الإسرائيلية، اتفقت السلطات السورية والتركية بشكل مبدئي على بناء سد مشترك على نهر العاصي بين البلدين يقام في الأراضي السورية الدولية الأقرب للواء إسكندرون على نهر العاصي، في إشارة إلى مقاربة مختلفة إزاء الخلاف حول لواء إسكندرون.
ونتيجة مباشرة لزيارة الأسد إلى تركيا، تم اتفاق الطرفين على إيجاد مخرج استراتيجي للخلاف التاريخي حول إسكندرون (محافظة حيات) عبر التنمية، فعقدت اتفاقيات للتعاون الاقتصادي والتجاري، وتطوير التعاون من خلال القيام باستثمارات مشتركة، لكن هذه الاتفاقيات توقفت بعد الأزمة السورية في 2011 وموقف انقره المعادي لدمشق.

المفاوضات السورية – العراقية
عقدت ثماني جولات من المفاوضات بين الجانبين العراقي والسوري لبحث تقاسم مياه والفرات على مدى ثلاثة عقود، باءت بالفشل إلى أن توصل الجانبان في الجولة التاسعة إلى اتفاق، حيث عقد الاجتماع الأول في دمشق عام 1962، حيث تبادل الجانبان المعلومات والإحصاءات المائية والمشروعات القائمة والمستقبلية في كلا البلدين.
وتبع ذلك اجتماع عام 1963، اقترح فيه الجانب العراقي تخصيص 18 مليار م3 من مياه الفرات، وبما يحفظ حقوقه المكتسبة، ويتضمن الحاجات المائية وفقاً لطرائق الري المستخدمة حالياً. وعقدت جولات في بغداد فشل فيها الجانبان بالتوصل إلى أي اتفاق، حيث أصر العراق على حقوقه المكتسبة. وفي الاجتماع الرابع في بغداد عام 1966 تم الاتفاق على جدول مشترك يضع الأسس والطرق الواجب اتباعها لتحديد الحاجات المائية للمشروعات القائمة حالياً مع الاحتفاظ بالحقوق المكتسبة لسوريا والعراق وتأليف لجنة فنية مشتركة لتحديد حصة كل من البلدين من مياه الفرات.
وفي الجولة السادسة عام 1967، اقترح الوفد السوري أن يتسلم العراق 53 في المائة من إيرادات النهر على الحدود السورية – التركية، بينما طرح الوفد العراقي حساب الحاجات على النحو التالي: حساب حاجات المشروعات القائمة في البلد على أن يقسم فائض النهر مناصفة إذا زاد وارد نهر الفرات السنوي على مجموع حاجات المشروعات القائمة في البلدين.
وفي الجولة السابعة في دمشق عام 1971، طرحت سوريا إعطاء العراق 53 في المائة من موارد الفرات على الحدود السورية – التركية، بينما اقترح الوفد العراقي الحصول على 67 في المائة، ثم طالب الوفد العراقي بـ59 في المائة للعراق ولم يتوصل الطرفان إلى أي نتيجة. وفي الجولة التاسعة في دمشق عام 1971 طرح العراق 13 مليار متر مكعب حقاً مكتسباً له فألفت اللجنة العراقية – السورية التركية عام 1980 بهدف الوصول إلى قسمة مياه دجلة والفرات بين الدول الثلاث. ورأى الجانب العراقي أنه لم يكن طرفاً في بروتوكول عام 1987 بين سوريا وتركيا الذي حددت فيه كمية تدفق المياه عند الحدود السورية – التركية بـ500 متر مكعب، لم يوافق عليها، بحيث كان ينبغي أن يكون ذلك الاتفاق ثلاثياً وألا يقل الحد الأدنى للتصريف عن 700 م3 حتى لا يلحق ضرر بالعراق، لأن العراق يعاني قلة التصاريف المائية التي أدت إلى تردي نوعية المياه لزيادة ملوحتها قد حولت تلك المنطقة إلى أرض غير صالحة للزراعة نتيجة التبخر، وتوصل الطرفان إلى اتفاق مؤقت عام 1990 ويقضي بمنح العراق 58 في المائة في المائة من المياه 42 في المائة لسوريا. وعلى الرغم من وجود الاتفاق؛ فهو يعد موقتاً ولا يتطرق لاقتسام مياه دجلة، وبخاصة بعد أن أصبح برتوكول عام1987 التركي - السوري نافذ المفعول، والذي أقر بتصريف 500 م3-ث عند الحدود السورية فقد أعطى سوريا حصة من مياه الفرات تبلغ 6.627 مليارم3، ووفق اتفاق اللجان الفنية المشتركة.
وفي عام1991 صدر بيان ختامي، أكد الجانبان السوري والعراقي تمسكهما ببروتوكول التعاون الاقتصادي والفني المشترك الموقع في دمشق في 17 يوليو (تموز) 1987 والبند المتعلق بالمياه الذي بمنح العراق 58 في المائة من مياه الفرات. وطرح الوفد السوري عام 1992 من خلال اتفاق نهائي بين الدول الثلاث أن يلغى العمل بالبرتوكول السوري – التركي لعام 1987 والاتفاقية السورية – العراقية لعام 1990. وأخيراً اتفق الجانبان السوري – العراقي في فبراير (شباط) من عام 1996 على وضع صيغة للتحرك المشترك تجاه المشروعات التركية، وطرح الجانب العراقي مناقشة خطة تشغيل سد أتاتورك وبهدف الوصول زيادة نصيبهما من المياه من 500 إلى 700 م3-ث.

مقاربة تركية
تطرح تركيا مبدأ استخدام المياه وفقاً لدراسات ميدانية لمشروعات الري في البلدان الثلاثة، وأن تعتمد هذه الدراسات على جدوى اقتصادية وفنية للمشروعات القائمة والمستقبلية، ووفقاً لمبدأ الاستعمال للاستخدام الأمثل للمياه. تركيا تعلن أن أراضيها خصبة وذات مردود اقتصادي أعلى كثيراً من مردود أراضي سوريا والعراق، وهذا يعني استثناء الأراضي السورية والعراقية من المشروعات الزراعية بحجة عدم خصوبة كثير منها والاعتماد على المشروعات الزراعية التركية، حيث تستطيع تركيا إنتاج محصولين أو ثلاثة سنوياً، لكن سوريا والعراق عارضتا الخطة التركية بدراسة جدوى اقتصادية لمشروعات قائمة وتدعو إلى تحديد الأراضي القابلة للري، وكيف يمكن الاستغناء عن مشروعات مائية بلغت قيمتها مليارات الدولارات.
وتعتمد السياسة التركية في حل مشكلاتها المائية مع جيرانها على مرتكزين، هما: فرض سياسة الأمر الواقع، وعامل الزمن؛ فتركيا ماضية في إكمال مشروعها.
اتبعت تركيا حتى بداية منذ السبعينات سياسة مائية غامضة لمشروعات ري عملاقة أخفتها عن جيرانها لعدم وجود استراتيجية زراعية سورية – عراقية، واقتناص الفرص، مستغلة الخلافات السياسية بين العراق – وسوريا للحصول على أكبر كمية من مياه الفرات. تارة تزعم أن السوريين يرفضون التباحث مع العراقيين، وتارة أخرى تدّعي أن سوريا ستحتفظ بالمياه الإضافية إذا خضعت تركيا لمطالب العراق وحصصه المائية، ذلك بفرض تركيا وإسرائيل استراتيجية مائية على المنطقة تحصل فيها الدولتان على أقصى ما يمكن من المياه.
لكن السياسة المائية التركية تحتوي على تناقضات جوهرية من حيث مضمونها بعدم وجود فائض مائي فحسب، بل هي تتعارض بوجود فائض مائي تركي. والتعاون الإسرائيلي – التركي سابقاً في مجال المياه ذو مضمون اقتصادي بعد أن طرح الأتراك فكرة الماء سلعةً اقتصاديةً قابلةً للبيع يمكن مقارنتها بالغاز السوري من خلال فكرة تعاون إقليمي، وذلك من خلال استثمار الدول العربية الغنية أموالها في إقامة منشآت ضخمة ومن خلال أنابيب السلام التي تمر عبر سوريا إلى إسرائيل وإلى دول أخرى، حيث اشترت إسرائيل كميات من المياه التركية تم نقلها بعبوات بلاستيكية تقطرها السفن.
وحاولت تركيا إثارة أحقيتها بالتصرف في مياه دجلة والفرات أسوة بالدول النفطية التي تملك حق التصرف بثرواتها النفطية؛ كون مياه هذين النهرين مصدراً طبيعياً خاصاً بتركيا عابرين للحدود الدولية وليسا نهرين دوليين، وأن حوضي دجلة والفرات حوض واحد، وإن لتركيا حق التصرف بمياه النهرين ضمن حدودها، وفي حفل تدشين سد أتاتورك قال رئيس الوزراء التركي سليمان ديميري، إن «ما يعود لتركيا من مجاري مياه الفرات ودجلة وروافدها هو تركي.... نحن لا نقول لسوريا والعراق إننا نشاركهما مواردهما النفطية... ولا يحق لهما القول إنهما يشاركاننا مواردنا المائية». ولا يخفي بعض الأتراك رأيهم بأن تركيا إذا استطاعت السيطرة على صنبور المياه فإنها تستطيع فرض سياسة شرق أوسطية.

توتر
وكان حدث توتر في العلاقات بين البلدين على توزيع المياه نتيجة انتشار وتعبئة خزاني بحيرة الطبقة والحبانية في سوريا والعراق.
وكان سكان مدينة حلب يشربون من نهر قويق الذي ينبع من تركيا في فترة الأربعينات. وقام الأتراك بقطع جريان النهر جراء إقامة مشروعات زراعية، كذلك قامت الحكومات السورية في ذلك الوقت بإقامة محطة ضخ من نهر الفرات لجر المياه إلى حلب. فإن ما حصل لنهر قويق ينبع في تركيا، قد تكون له دلالته المستقبلية على الفرات، حيث انقطعت مياه الشرب عن سكان مدينة حلب عندما حولت السلطات التركية مجراه في أوائل الخمسينات من هذا القرن؛ مما دفع السلطات السورية آنذاك لضخ مياه الفرات عبر أقنية لمدينة حلب.
ويصر السوريون على تطبيق المفهوم القانوني الدولي بأن الفرات نهر دولي وليس نهراً عابراً للحدود من حيث شروط التقاسم لنسب استغلال المياه، ويستندون إلى مبدأ السيادة عند بحث مسألة المياه العربية والسورية.
أما بالنسبة لنهر العاصي، فلا يخفى على الجميع أن مصبه في لواء إسكندرون، ولا تزال سوريا تتحفظ على ضمه لتركيا. بالتالي، فمشكلة مياه العاصي ذات صبغة سياسية أكثر منها مائية؛ إذ تهدف تركيا من وراء عقد هذه الاتفاقية المتضمنة توزيع مياه العاصي إلى اعتراف سوري رسمي بالسيادة التركية على منطقة إسكندرون.
وترتكز سوريا في شرعية مطالبتها باستعمال مياه الفرات على تقدير حاجة المنشآت المائية القادمة أو التي قيد التنفيذ، أو المخطط لتنفيذها في البلدان الثلاثة بوساطة لجان فنية مشتركة تتعاون فيما بينها، وأن يشارك الجميع في الأعباء إذا حدث شح في المياه بحيث يتحمل كل من الدول الثلاث نصيبه. ولا تعترض سوريا بصورة مبدئية على حق تركيا في إقامة المنشآت المائية على الفرات واستغلال نصيبها منه شرط ألا يؤدي ذلك إلى إيذاء الغير بشكل كبير بحسب القانون الدولي وما يفرضه البنك الدولي من شرط لتمويل مشروعات المياه.
وبما أن مياه الفرات ليست كافية لجميع المشروعات المائية للبلدان الثلاثة، فإن لكل بلد الحق في وضع الأولويات المناسبة لمشروعاته المائية على أن يلتزم بحصته المائية؛ فسوريا تعتبرها حقوق ارتفاق على نهر الفرات، ويجب أن تتفق تركيا مع الدول الأخرى المتشاطئة.

الأنهار

تشترك تركيا بأنهار الفرات، ودجلة، والعاصي، وجغجغ، وساجور، وقويق، وعفرين، والأسود، والخابور مع سوريا، وأهم ثلاثة أنهر هي:
> نهر الفرات: ينبع نهر الفرات ومعظم روافده من أعالي هضبة أرمينيا شرق الأناضول في الأراضي التركية.
يتكون نهر الفرات من مجموعة روافد تزيد على السبعة، حيث يكوّن نهر الفرات وطوله 400 كلم، ومراد صو، وطوله 600 كم، نهر الفرات عندما يلتقيان في ملاطية الذي تنحدر المياه إليه عند ذوبان الثلوج. يبلغ طول الفرات 2330 كم منها 442 كم في تركيا، و675 كم في سوريا و1213 كم في العراق. وتبلغ مساحة حول الفرات 440 كم2 منها 72 ألف كم2 في سوريا، ويتأثر معدل جريان الفرات بروافده، وكمية الأمطار والثلوج ويقدر الوارد المائي في تركيا 19 مليار م3 وعلى الحدود السورية – التركية بـ25 مليار م3 سنوياً، وعلى الحدود السورية - العراقية بـ2.7 مليار م3 سنوياً.
ويختلف الوارد السنوي من سنة إلى أخرى، ويبلغ متوسطه بـ28 مليار م3 سنوياً، وللفرات خاصية حيث تتدفق الأنهار بعنف في البداية وتتلاشى تدريجياً مياهه من خلال التبخر والاستعمالات الإنسانية، وتختلف كمية مياه الفرات بين الفصول بثمانٍ وعشرين مرة، بينما يصل الفرق بين أعلى كمية للمياه وأدناها لدجلة ثمانين مرة.
> نهر العاصي: تشترك سوريا مع لبنان بنهر العاصي، وهو ثاني أنهار سوريا من حيث الأهمية، ويخرج من نبعين عظيمين، هما نبع اللبوة وعين الرقاد في البقاع اللبناني، وتجري مياهه بانتظام طوال العام. ويبلغ طوله 571 كلم منها، 325 كلم في سوريا، ويبلغ إيراده السنوي 400 مليون م3 عند الحدود السورية – اللبنانية. وقد أقيم عليه سدان مهمان في سوريا، هما قطينة والرستن لأغراض متعددة، وهو يتابع سيره مسافة 79 كلم إلى أن يصب في هاتاي (لواء إسكندرون) خليج السويدية.
> نهر دجلة: ينبع نهر دجلة جنوب شرقي الأناضول في تركيا، ويبلغ طوله 1718 كلم2، ويمر في سوريا ستة كيلومترات وتقدر موارده المائية 47 مليارم3، ومعظم جريانه في الأراضي العراقية ويرفده أنهار الخابور في سوريا، والزاب الكبير والزاب الصغير وديالي والعظيم في العراق التي تشكل ثلث مياهه ليلتقي مع الفرات ليشكلا شط العرب.


الموارد المائية لدول حوض الفرات

- يتبلغ متوسط الموارد المائية المتجددة في سوريا بـ19 مليار م3 سنوياً
- يتبلغ متوسط الموارد المائية التركية المتجددة 200 مليار م3 سنوياً
- يتبلغ متوسط الموارد المائية العراقية المتجددة بـ145 مليار م3 سنوياً
توزيع المياه حسب المساحة الإجمالية لمجرى النهر

- في تركيا 125 ألف كم2.
- في سوريا 176 ألف كم2.
- في العراق 243 ألف كم2.

حاجات المياه
- تركيا 12 مليار م3
- سوريا 11.5 مليار م3
- العراق 13 مليار م3

* خبير سوري في المياه الدولية



عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟


ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.


نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
TT

نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)

لم تشهد العلاقات الأميركية - الإسرائيلية اضطراباً كما هي الحال اليوم. ورغم دعم واشنطن الاستراتيجي، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، والاحتضان الكبير من الرئيس دونالد ترمب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي بلغ درجة التدخل العلني الصريح في شؤون القضاء، ومطالبته عبر رسالة رسمية من البيت الأبيض بإلغاء قضايا فساد يُحاكم عليها نتنياهو، فإن هناك قلقاً يساور تل أبيب وتساؤلات كثيرة من دون إجابات.

ومن بين أبرز الأسئلة ما يتعلق بترمب، وما إذا كان في الدورة الأولى من حكمه، هو الرئيس الجديد نفسه؟ وهل تخلى عن مفاهيمه حول «إسرائيل دولة صغيرة تحتاج إلى توسيع؟».

في وثيقة نشرتها إدارة ترمب مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2025، وحددت فيها الأهداف الاستراتيجية لإدارته، جاء أن القضية الفلسطينية غير قابلة للحل قريباً. فهل هذا يعني أن بالإمكان تخطي خطة ترمب لوقف الحرب في غزة، وإقامة سلام شامل في الشرق الأوسط؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكن أن يمارس ضغوطاً على إسرائيل لفرض التسوية؟ وما حدود الدعم لإسرائيل؟ وأي اتفاق مساعدة سيمنحه ترمب في عهده للسنوات العشر المقبلة؟

في محيط نتنياهو لا تبدو الأمور واضحة، رغم التصريحات التي تبث تفاؤلاً حول متانة العلاقات.

نعم، حتى نتنياهو الذي يعد نفسه «أكبر خبير إسرائيلي في الشؤون الأميركية»، يُمضي ساعات في دراسة شخصية «ترمب الجديد».

يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يشير بيده بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطار بن غوريون الدولي خلال زيارته إسرائيل 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

نتنياهو الذي عاش في أميركا

يسجل التاريخ السياسي أن 8 من مجموع 13 رئيس وزراء حكموا إسرائيل حتى الآن، عاشوا في الولايات المتحدة لفترة زمنية ما تزيد على ستة شهور. أكثر رئيس حكومة عاش في أميركا، كانت غولدا مائير، 18 عاماً. يأتي بعدها بنيامين نتنياهو، الذي عاش فيها 16 عاماً. وكلاهما كان يتباهى بأنه أكثر من يعرف أميركا من الداخل، بفضل عيشهما الطويل فيها.

إلا أن المؤرخين الإسرائيليين يرون الأمر بشكل معاكس. ويقول الصحافي والمؤرخ، تاني غولدشتاين، إن هناك من يعد غولدا ونتنياهو أسوأ رئيسي حكومة في إسرائيل مع الولايات المتحدة، وسجل في تاريخهما أنهما تسببا بأكبر عدد من الأزمات في العلاقات بين البلدين.

غولدا، كانت وزيرة خارجية إسرائيل عام 1958، عندما تدخلت الولايات المتحدة في لبنان خلال أزمتها الدستورية، وبالاتفاق مع رئيس الوزراء بن غوريون، وضعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية في خدمة القوات الأميركية. وبذلك تم وضع قاعدة لأول تعاون أمني بين تل أبيب وواشنطن، وبعد ثلاث سنوات عقد أول لقاء رسمي بين رئيس حكومة إسرائيلية وبين الرئيس الأميركي، الذي كان يومها جون كيندي. لكن غولدا نفسها، عندما أصبحت رئيسة للحكومة الإسرائيلية، أثارت أول أزمة كبيرة في العلاقات.

في مطلع السبعينات، بدأ الأميركيون طرح مشروع سلام إسرائيلي عربي، عرف باسم وزير الخارجية، ويليام روجرز. وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حاول الرئيس أنور السادات إحياء هذه الجهود بقوة، وأبدى استعداداً واضحاً لهذا السلام. واعتقد الرئيس ريتشارد نيكسون أن غولدا ستتصرف معه بصفتها شريكة وحليفة استراتيجية ستتحمس لاتفاق السلام الذي سيجلبه إلى إسرائيل، وقد صدم عندما رفضت.

الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يصفق في حين يعانق رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن الرئيس المصري أنور السادات بالبيت الأبيض سبتمبر 1978 (أ.ف.ب)

في حرب 1973، عندما دخلت إسرائيل في أزمة أمنية، وشعرت بأن الجيشين المصري والسوري يهددان وجودها، سامح نيكسون غولدا، وأرسل شحنات أسلحة ضخمة وطائرات مقاتلة دخلت الحرب ضد مصر وسوريا، يقودها طيارون من سلاح الجو الأميركي.

ويقول المؤرخ المتخصص في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، البروفسور إيلي لادرهندلر، إن غولدا أثبتت أن ادعاءاتها بأنها تعرف أميركا من الداخل انعكست على إسرائيل بشكل سلبي. وثبُت أنها كانت متبجحة، وتتمتع بقدر عال من الثقة الزائدة بالنفس، فأسهمت معرفتها بأميركا بشكل عكسي في المصلحة الإسرائيلية.

ويتمتع نتنياهو أيضاً بثقة زائدة بالنفس، في الشعور بأنه يعرف أميركا من الداخل. وقد تفوق على غولدا في عدد وعمق الأزمات التي تسبب بها في العلاقات بين البلدين، خلال معظم سنوات حكمه. فقد شنّ حرباً على الرئيس باراك أوباما، ليمنعه من توقيع الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015.

ودخل نتنياهو في أزمة مع الرئيس السابق جو بايدن، الذي هب لنجدة إسرائيل بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأفشل مبادراته لوقف النار في غزة. وفي الوقت الذي حاول فيه كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية إقامة علاقات متوازنة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري الأميركي، لكي تحظى إسرائيل بدعم من كليهما، سمح نتنياهو لنفسه بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح مرشحي الحزب الجمهوري، ودخل في مشكلة مع الديمقراطيين.

ويقول خصوم نتنياهو في واشنطن إنه هو الذي أقنع الرئيس دونالد ترمب في دورته الأولى بإلغاء الاتفاق النووي. وصار يشار إليه بالبنان كمن يريد توريط الولايات المتحدة بحرب. وخلال السنة الماضية، ثبت هذا التقدير ودخلت الولايات المتحدة في حرب مع إيران، قصيرة وخاطفة ولكنها حرب. وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى إلى إقناع الرئيس الأميركي بجولة أخرى، لتكون حرباً أميركية أو حرباً مشتركة بينهما ضد إيران.

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)

متانة العلاقة

ليس هناك شك في أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة استراتيجية ومتينة، وهي كذلك في زمن ترمب أيضاً. لكنّ شيئاً ما تغير يجب أن يقلق إسرائيل، وبدأ يقلقها بالفعل.

الحلف مع الولايات المتحدة متين، لأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقبل على نفسها أن تكون خط الدفاع والهجوم الأول للمصالح الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في الشرق الأوسط. الجنرال ألكسندر هيغ، الذي كان قائداً لحلف شمال الأطلسي، وأصبح وزيراً للخارجية الأميركية، كان يقول إن إسرائيل هي «حاملة الطائرات الأميركية في الشرق الأوسط التي تخوض حروبنا من دون مشاركة أي جندي أميركي». والمستشار الألماني الحالي، ميرتس، قال إن «إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة عنا».

لهذا تحظى إسرائيل بهذا الدعم الهائل. وعلى مدى العقود الماضية نما حجم المساعدات العسكرية الأميركية بشكل كبير، ففي عام 1998 كان المبلغ السنوي نحو 1.8 مليار دولار وبحلول 2028 سيصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً.

وتطلب إسرائيل زيادته للمرحلة المقبلة، وهذا لا يشمل ما قدمته الولايات المتحدة خلال الحرب على غزة، الذي بلغ أكثر من 22 مليار دولار. وحسب صحيفة «هآرتس»، في 18 ديسمبر 2025 أنفقت الولايات المتحدة بسبب الحرب، ما مجموعه نحو 32 مليار دولار أميركي مساعدات لإسرائيل خلال العامين الماضيين. ونقلت الصحيفة عن مركز أبحاث الكونغرس وجامعة براون في واشنطن، أنه «إلى جانب تكاليف المساعدات المباشرة، المتمثلة في العمليات العسكرية الأميركية في اليمن وإيران، حوّلت واشنطن 21.7 مليار دولار أميركي إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية خلال العامين الماضيين. إضافةً إلى ذلك، وافق مجلس النواب في بداية 2025 على مساعدات عسكرية خاصة بقيمة 26 مليار دولار أميركي، خُصص منها نحو 4 مليارات دولار أميركي لصواريخ اعتراض ضمن برنامج الدفاع الصاروخي، و1.2 مليار دولار أميركي لنظام الليزر الجديد (أور إيتان)».

وكان التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي مبنياً على «قيم مشتركة» للبلدين ورسم مشترك للمصالح، لكن الحرب على غزة أحدثت هزة شديدة في هذه القواعد، التي كان تستند على دولة عظمى، إذ تحتضن «ابنها المدلل» في منطقة الشرق الأوسط.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس خلال اجتماع في أحد مقار الجيش (الحكومة الإسرائيلية)

ترمب «غير المتوقع»

يدرك نتنياهو قوة الخدمة التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة، واستغلها هو بطريقة شرسة، خصوصاً في ظل إدارتي أوباما وبايدن، لكن قدوم ترمب إلى البيت الأبيض أحدث تغييراً في المعادلة لدرجة أربكت نتنياهو وحكومته، وجعلته يخطو بحذر حتى يبتعد عن المتاهات. فالولايات المتحدة تتغير، والأمر تجلى بشكل كبير في السنة الأولى من إدارة ترمب.

يُنظر إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أنه شخصية غير تقليدية، تتسم قراراته بعدم القابلية للتنبؤ، ما يفرض على من يتعامل معه قدراً أكبر من الحذر مقارنة برؤساء سابقين. وتقول الصحافة الإسرائيلية إن هذا النهج يثير قلقاً حتى لدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يُشار إلى أنه يخشى التعرض لانتقادات علنية على غرار ما واجهه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ورغم إدراك ترمب للأهمية الاستراتيجية لإسرائيل، فإن تقديرات تشير إلى أن حساباته لا تقتصر على هذا العامل وحده.

وترمب من نوع القادة الذين يؤمنون بأنهم يعرفون مصلحة إسرائيل أكثر منها ومن قادتها، ومثلما يراها «حاملة طائرات أميركية» يقدر عالياً «الحروب» التي تخوضها الدولة العبرية، وتدفع ثمنها بأرواح الإسرائيليين، ولا تكلف أميركا أي جندي.

لكنه في الوقت نفسه مقتنع بأنه يستطيع توفير سلام حقيقي وشامل لإسرائيل في هذا العصر، مع الدول العربية والإسلامية، وهو يقرأ استطلاعات رأي تنشر في تل أبيب، مثل الذي صدر عن معهد أبحاث الشعب اليهودي في 21 ديسمبر 2025، وجاء فيه أن 60 في المائة من الإسرائيليين يثقون في أن ترمب يعمل وفق رؤية تغلب مصالح إسرائيل.

وفي الولايات المتحدة، ثمة تراجع في قوة ونفوذ المسيحيين الصهيونيين المناصرين لإسرائيل، وكذلك في قوة اللوبي اليهودي (أيباك)، مقابل القوة الصاعدة لحركة «ماغا» التي تضع مصلحة أميركا أولاً، إذ تسمع في صفوفها الأصوات التي تطالب بتقليص الدعم لإسرائيل وزيادة الرقابة على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وضد سوريا ولبنان.

كما أن هناك تراجعاً حاداً في التأييد الأميركي الشعبي لإسرائيل. وجاء في دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، أن «هناك أزمة خطيرة في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، لدرجة الحديث عن خطر تشكيل تهديد استراتيجي».

وجاء في الدراسة التي نشرت في مطلع ديسمبر 2025، وأجراها الباحثان إلداد شافيت وتيد ساسون، أن «مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة وقعت في أزمة غير مسبوقة. الدعم التقليدي تآكل بشكل ملموس في أوساط الديمقراطيين وحتى لدى جزء من الجمهوريين».

وتظهر استطلاعات أن الرأي العام تجاه إسرائيل يتأثر سلباً بشكل مباشر من سلوك إسرائيل في الحرب، ومن الوضع الإنساني في قطاع غزة. كما يلاحظ في الجالية اليهودية خصوصاً في الأوساط الليبرالية، تراجع الدعم، وازدياد الانتقادات لإسرائيل، التي قد تضر بحرية العمل سواء السياسي أو العسكري لإسرائيل، وتشكل تهديداً حقيقياً على أمنها.

ولا يستطيع ترمب إهمال هذه التغيرات إذا أراد أن يحافظ على جمهوره، وإذا وجد أن نتنياهو يضع عراقيل أمام مخططات إدارته. وهو نفسه كان قد أشار إلى أن إسرائيل في عهد نتنياهو باتت من دون أصدقاء سوى الولايات المتحدة، وأنه هو وحده الذي يساندها، وعليها أن تتصرف بما لا يمس مصالح وإرادة الولايات المتحدة.

وتشهد هذه المصالح تغييراً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، يتمثل في اللغة الجديدة التي يستخدمها ترمب مع القادة العرب في المنطقة. ويستمع نتنياهو إلى هذه «الموسيقى» بإصغاء، محاولاً فهم حدودها.

الآن، وبعد عام في ظل الرئيس الأميركي، يقال في محيط نتنياهو إنه لا يزال يحاول دراسة «شخصية ترمب الجديدة»، ويجد أن ما تعلمه عن الولايات المتحدة يحتاج إلى نسخة محدثة من الفهم.