إيمانويل ماكرون في امتحانات ما بعد «شهر العسل»

أزمة «الحارس الرئاسي» سلّطت الضوء عليه أكثر

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - ارشيف (رويترز)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - ارشيف (رويترز)
TT

إيمانويل ماكرون في امتحانات ما بعد «شهر العسل»

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - ارشيف (رويترز)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - ارشيف (رويترز)

أكثر من سنة بقليل مر على وجود إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه رئيساً لفرنسا، فقد فاز في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية على زعيمة "الجبهة الوطنية" مارين لوبن في 7 مايو (أيار) 2017 وتسلم منصبه في 14 منه.
وتشاء الصدف أن يقع حادث في مايو الماضي تتكشّف وقائعه في يوليو (تموز)، فتهتزّ الرئاسة الفرنسية وتنطلق عمليات التقويم لما فعله الرئيس الذي لن يكمل عامه الحادي والأربعين إلا في ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
الحادث هو طبعاً نشر مقطع فيديو يظهر فيه الحارس الشخصي للرئيس، الشاب المثير للجدل ألكسندر بنعالا، وهو يعتدي على متظاهرين ويهينهما خلال مسيرة للعمّال في الأول من مايو. وتداعيات تدخل مسؤول في أمن الرئيس في عمل الشرطة على هذا النحو رمت ماكرون في خضمّ أخطر أزمة يعرفها عهده الرئاسي.
وبغض النظر عن شخصية بنعالا وطريقة تقربه من الرئيس، والكلام عن أصوله وأنه غيّر اسمه، فإن الأزمة قائمة ووصلت إلى حد مطالبة المعارضة بحجب الثقة عن حكومة أدوار فيليب، وتنصّل وزير الداخلية جيرار كولومب من المسؤولية، ملقياً إياها على الرئاسة معتبراً أن من واجبها إبلاغ القضاء بأعمال عنف يرتكبها موظف لديها. والأسوأ أن شعبية ماكرون تراجعت اربع نقاط إلى 32 في المئة، الامر الذي لم يحصل منذ سبتمبر (ايلول) 2017، ولم يشفع له في ذلك فوز منتخب فرنسا بكأس العالم لكرة القدم، واغتنام الرئيس الفرصة ليشدد على وحدة فرنسا في تنوعها، وبراعة شبابها، وسوى ذلك مما قاله خصوصا في خطاب الفوز عندما زاره أعضاء الفريق في قصر الإليزيه غداة الفوز.
الأزمة التي شاء ماكرون أمس تحمّل مسؤوليتها ستمر، ولكن هالة ما أحاطت بالرئيس زالت، وعمليات المحاسبة الشعبية ستكون من الآن فصاعداً أقسى. ومعروف أن الغرب يحاسب سياسييه على أدائهم في حقل الاقتصاد أولاً، لأن الناس ينتخبون ممثليهم وقادتهم لكي يعمل هؤلاء على تحسين مستوى المعيشة.
في هذا الميدان، يرى الخبير الاقتصادي الفرنسي جان تيرول الفائز بجازة نوبل عام 2014، أن ولاية رئاسية من خمس سنوات توجب التحرك بسرعة، "فإذا انتظرنا العام الأخير من الولاية نقع في ورطة". لكنه يلفت إلى الفرق بين التحرك السريع والتعجّل، ويأخذ على الحكومة عدم الذهاب أبعد في إصلاح قانون العمل.
ودعا تيرول فرنسا الى الاضطلاع بدور ريادي في إنقاذ أوروبا ثم إحياء النموذج الأوروبي، وهذا يستدعي سن مزيد من القوانين والأنظمة المشتركة. وقال: "المواطنون، وهم غير مطّلعين بشكل جيد عموماً، يعتقدون أن أوروبا هي سبب أمراضنا، فيما نحن بحاجة إلى أوروبا موحدة أكثر: فرنسا أو إيطاليا أصغر من أن تواجها غوغل أو الصين".
وثمة من يعتبر أن ماكرون هو "رئيس الأثرياء"، ورجل متعجرف بعيد عن الناس. لكن هذا أمر متوقع لأن الرجل يجري إصلاحات هدفها جعل الاقتصاد الفرنسي أكثر دينامية، ولا بد بالتالي من إجراءات موجعة.
الحال أن شهر العسل بين الجمهور السياسي الذي صعد بسرعة وحطم نظم السياسة التقليدية، انتهى. والملفات الماثلة أمامه كبيرة، وهي لا تتعلق بفرنسا وحدها، بل تشمل أوروبا والشرق الأوسط والولايات المتحدة. وفي ما يخص الاخيرة، تثير العلاقة بين ماكرون والرئيس الاميركي دونالد ترمب جدلاً كبيراً، فالبعض يعتبر أن الأول مرتمٍ في حضن الثاني ولا يقوم بالدور المطلوب منه لحماية الاتحاد الأوروبي في الحرب التجارية الدائرة بين ضفّتي الأطلسي تاركاً المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تتحمل القسط الأكبر من هذا العبء.
وبالتالي، لا يبدو الرئيس الفرنسي قادراً على تحقيق رؤيته التي لخصها مرة بقوله إن "أوروبا ليست سوبرماركت. أوروبا هي مصير مشترك. وهي تضعف عندما يجري التخلي عن مبادئها".
والعلاقة بين ماكرون وترمب تبدو في أي حال بالنسبة إلى قصر الإليزيه حتمية، في ظل انشغال رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بالآليات المعقّدة لخروج بلادها من الاتحاد الاوروبي "بريكسيت"، وغرق ميركل في مشكلاتها السياسية الداخلية.
في المقابل، ثمة من يقول إن ماكرون حقق حضوراً خارجياً لفرنسا وأعادها إلى الواجهة، معتمدا قاعدة جديدة في "العلاقات العامة" يلجأ إليها ساسة كثر هذه الأيام، وتقضي بالتحرك الخارجي تكتيكيا وليس استراتيجيا، بمعنى استغلال أي مناسبة للوقوف في دائرة الضوء للقول "أنا هنا".
في هذا السياق، تلفت إميلي مانسفيلد، خبيرة الشؤون الفرنسية في "وحدة الإيكونوميست للمعلومات"، إلى أن ماكرون يتحرك بدينامية في أوروبا، وتجاه الولايات المتحدة وروسيا، وينشط في مقاربة شؤون الشرق الأوسط، ويقاتل في قضية حماية البيئة ومقاومة التغير المناخي.
"النتيجة هي أن فرنسا تبدو الآن لاعبا رئيسيا في الشؤون الدولية أكثر مما كانت عليه منذ سنوات"، وفق مانسفيلد.
يبقى أن الفرنسيين ينتظرون، لا نهاية مشكلة "الحارس الرئاسي" فحسب، بل الثمار المعيشية التي وعدهم بها إيمانويل ماكرون وخصوصاً تحسين أوضاع سوق العمل، ولا تهمهم كثيراً مظاهر الود المتبادل بينه وبين دونالد ترمب أو سواه، فهي لا تفيد شيئاً في دفع "الجمهورية إلى الأمام".



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟