عندما انطلق باتريس إيفرا مسرعا في خروجه من ملعب التدريب في الوقت الذي اختفى زملاؤه بالفريق خلف ستائر حافلة الفريق بدا الطريق طويلا للغاية نحو الفوز بكأس العالم. وقد اختفت ملامح وحدة الصف تماما، ولم تكن هذه المرة الأولى. لطالما تمتعت فرنسا بالمواهب لكنها نادرا ما تميزت بالتناغم مثلما تجلى في نكسة جنوب أفريقيا عام 2010. وعليه أدرك ديدييه ديشامب عندما تولى تدريب المنتخب الفرنسي عام 2012 وعلى مدار الـ6 سنوات التي تولى خلالها تدريب المنتخب أن هذا الأمر له أهمية كبيرة لتناغم صفوف الفريق قبل أي شيء آخر تقريبا. وأي شخص كان يهدد تناغم الفريق كان يجري إبعاده على الفور. وفازت فرنسا بكأس العالم بفضل مواهب لاعبيها وكذلك إخلاص ديشامب للروح التي سمحت لهذه الموهبة بالازدهار.
كانت رحلة المنتخب الفرنسي إلى جنوب أفريقيا عام 2010 كارثية. تعرض فلوران مالودا للإقصاء من المباراة الافتتاحية أمام أوروغواي والتي انتهت دون أهداف بعدما دخل في مواجهة مع المدرب الذي كثيرا ما كانت تصرفاته تبدو غير مفهومة، ريمون دومينيك. كما طرد اتحاد الكرة الفرنسي نيكولا أنيلكا بعدما رفض الاعتذار لمدربه عن تعديه عليه بالسباب بين الشوطين أثناء مباراة فرنسا والمكسيك والتي انتهت بالهزيمة بنتيجة 2 - 0. كما شاهد مئات المشجعين أثناء جلسة تدريب مفتوحة إيفرا يوشك على توجيه اللكمات إلى مدرب اللياقة البدنية روبرت دوفرن ورفض أفراد الفريق مغادرة الحافلة اعتراضا على الأمر. وانتهى الموقف بملهاة عندما خرج دومينيك ليقرأ بيانا غريبا من اللاعبين موجها إلى الصحافة يشرح غضبهم الشديد إزاء أسلوب التعامل الذي تعرض له أنيلكا.
وقد ترك دومينيك، الذي كان من المقرر له سلفا الرحيل عن المنتخب بعد البطولة، خلفه فريقا مشتتا ومنقسما على نفسه. وتجاوزت الفضيحة مجال كرة القدم وأصبحت فضيحة وطنية. وعندما تولى لوران بلان مسؤولية تدريب المنتخب بعد بطولة كأس العالم بجنوب أفريقيا تخلى عن جميع عناصر فريق كأس العالم الـ23 وذلك خلال أول مباراة للمنتخب تحت قيادته والتي انتهت بهزيمة فرنسا أمام النرويج بنتيجة 2 - 1 الأمر الذي ظهر وكأنه عقاب رمزي.
ورغم تأهل فرنسا نهاية الأمر لبطولة «يورو 2012» بسهولة لم تختف تماما نزعة التدمير الذاتي داخل الكرة الفرنسية. خلال اجتماع مع مسؤولي اتحاد كرة القدم الفرنسي عام 2011 أدلى بلان بتعليقات رآها آخرون فجة وعنصرية. وبدا أن بلان يتحسر على وضع الأكاديميات الرياضية في فرنسا لتركيزها على اللاعبين الصاعدين المتميزين بالقوة والسرعة أكثر من التكنيك والذكاء وأكد على أن هؤلاء اللاعبين عادة ما يكونوا داكني البشرة.
وخلال اللقاء قال بلان: «إنهم يدربون نفس النوعية من اللاعبين ذوي البنية الجسمانية الضخمة والقوية. من اليوم يتميز بهذا البنيان الضخم والقوي؟ إنهم أصحاب البشرة السمراء. هكذا تسير الأمور. هذه الحقيقة السائدة الآن. ويعلم الله أن مراكز التدريب ومدارس كرة القدم تمتلئ بهذه الفئة من اللاعبين». وحمل حديث بلان إيحاءات بأن اللاعبين داكني البشرة أفضل بدنيا لكنهم أقل من الناحية الذهنية، رغم أنه شعر بغضب عارم حيال هذا التفسير. وجاءت تعليقات بلان في ظل مناخ سياسي مفعم بالخطابات المناهضة للهجرة وقضايا قائمة منذ أمد بعيد تتعلق بالعرق.
على النقيض نجد أن الفريق الفائز بكأس العالم عام 1998 جرى النظر إليه كقوة واحدة تمثل عن حق التنوع العرقي الواسع داخل فرنسا وهو فريق كثيرا ما كانت تجري الإشارة إليه بعبارة «أسود وأبيض وعربي». وتولى ديدييه ديشامب قائد المنتخب الفرنسي عام 1998 مسؤولية تدريب الفريق خلفا لبلان عقب الخروج المخزي من بطولة «يورو 2012» من دور الثمانية. ومن العناصر الأساسية في سياسة إدارته للفريق حرصه على الحفاظ على وحدة الصف والتخلص من أي احتمال لتعرض صفوف الفريق للانقسام. وكان النبذ المستمر لكريم بنزيمة أوضح مثال على ذلك.
ورغم الدهشة البالغة التي أثارها استبعاد نجمي الدوري الإنجليزي الممتاز ألكسندر لاكازيت وأنتوني مارسيال من المنتخب الفرنسي فإن هذه الدهشة لم تمتد إلى داخل فرنسا ذاتها. لقد حرص ديشامب على اختيار المجموعة الأكثر تناغما داخل وخارج الملعب وليس مجرد استدعاء أفضل 23 لاعبا متاحا. واليوم يبدو أنه حتى أكثر قرار استبعاد أثار الدهشة وهو ذلك الخاص بأدريان رابيو مبررا تماما بالنظر إلى رد الفعل الغريب والطفولي الذي أبداه اللاعب تجاه استبعاده ورفض لاعب خط الوسط حتى وجود اسمه على قائمة الانتظار.
وبذلك أصبح المناخ العام داخل المنتخب أشبه ما يكون بناد. ومع أن هذا عادة ما يكون الهدف الذي يسعى وراءه أي مدرب فإن قليلين من يتمكنوا من تحقيقه. ولا يمكن التقليل من حجم الإنجاز الذي حققه ديشامب بمزجه عناصر فريقه اجتماعيا وفنيا ليحولهم إلى فريق مؤهل لحصد البطولات. وكشف أسلوب تدفق بنجامين ميندي وزملائه من لاعبي الاحتياطي على الملعب للاحتفال بكيليان مبابي بعدما وضع اللمسة الأخيرة على هجمة مرتدة ضد الأرجنتين مدى تماسك الفريق ووحدة صفوفه.
ومع هذا كان ديشامب بحاجة لتحقيق بعض التوازن خاصة أن فريقه لم يخل من اللاعبين الذين يميلون إلى الغرور وكان الإنجاز الأكبر لديشامب نجاحه في إقناع اللاعبين الأكثر سعيا لجذب الأضواء بالتضحية من أجل الفريق واللعب على نحو ييسر مهمة أقرانهم بدرجة أكبر عما اعتادوه على مستوى أنديتهم. وبدا أن الانتقادات التي تعرض لها بول بوغبا منذ عودته إلى مانشستر في وقت جابه صعوبة للتكيف مع دور أكثر انضباطا ويحمل صبغة دفاعية أكبر لم يكن لها أي وجود في روسيا.
ومع أن بوغبا لم يظهر التألق الساحر الذي سبق له تقديمه أثناء صعود نجمه في يوفنتوس فإنه أثبت أنه نجح أخيرا في أن يصبح اللاعب الديناميكي صاحب الحضور الديكتاتوري الذي لطالما بحث عنه جوزيه مورينيو داخل مانشستر يونايتد. وبالمثل تولى أنطوان غريزمان عن طيب خاطر دور صانع ألعاب في نقطة أعمق من الملعب ليترك بذلك كيليان مبابي على الطرف الحاد من خط الهجوم الفرنسي. واضطلع غريزمان بدور محوري في أدوار التصفيات وحصل على جائزة أفضل لاعب بالمباراة في مباراة النهائي عن استحقاق.
وانعكس هذا التغيير في التوجه العام والذي بدأ منذ بطولة يورو 2012 على تصريحات بوغبا قبل مباراة النهائي عندما قال: «لن أكذب عليكم. في بطولة اليورو ظننا أن الأمر قد حسم بالفعل. وأخبرنا أنفسنا أننا فزنا بالبطولة بالفعل بعد فوزنا على ألمانيا وأن هذه كانت مباراة النهائي الحقيقية بالنسبة لنا. ولا نريد أن نكرر هذا الخطأ من جديد اليوم. وسنتعامل مع هذه المباراة على نحو مختلف».
من بين التشابهات الأخرى بعام 1998 أن هذا الفريق كان يمثل بالفعل التنوع العرقي داخل فرنسا. وحسب الأرقام فإن 17 على الأقل من بين إجمالي الـ23 لاعبا كانوا مؤهلين للعب باسم دولة أخرى واليوم مثلما كان الحال منذ 20 عاما نال هؤلاء الفرصة للعمل كقوة موحدة في بلاد لا تزال تحاول إيجاد حلول لقضاياها الاجتماعية. ومثلما ذكر بليز ماتويدي الأسبوع الماضي فإن: «التنوع الذي نتميز به داخل الفريق يعكس صورة بلادنا الجميلة. إننا نمثل بفخر فرنسا. وبالنسبة لنا هذا أمر رائع».
ومع انطلاق البطولة بدأت فرنسا ببطء وبدا وكأن ديشامب يواجه صعوبة في دمج أفضل لاعبيه في التشكيل الأساسي لكن سرعان ما بدل أسلوبه وأعطى الأولوية لفكرة التوازن والتي شكلت حجر الزاوية بنجاحه مع المنتخب الفرنسي. وتقوم الفكرة على أنه ليس هناك أي فرد أهم من التوازن العام للفريق أو وحدة صفوفه. ومع تتابع مباريات البطولة نجح ديشامب في صياغة فريق فاعل وبرجماتي تدعم عناصره بعضها البعض. أما صيغة الفوز فقد اتبعها المدرب منذ فترة ويمكن إيجازها في: الحرية والعدالة والإخاء. من جانبه قال بنجامين ميندي: «لدينا في الفريق مجموعة جيدة من اللاعبين لكن هذا ليس الأمر كله. إننا أسرة حقيقية ونحمل بيننا مشاعر رائعة خارج الملعب. ويعود الفضل عما حدث إلى الجميع».
بالحرية والمساواة والتنوع... هكذا فازت فرنسا بكأس العالم
ديشامب حول مسار المنتخب المليء بالمواهب إلى فريق متكامل بعد معاناة من عدم القدرة على التنافس
بالحرية والمساواة والتنوع... هكذا فازت فرنسا بكأس العالم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة