الفلسطينيون والإسرائيليون.. سيناريوهات ما بعد السلام

تدحرج سريع للأحداث بما لا تشتهي السفن.. والخيارات مفتوحة

الفلسطينيون والإسرائيليون.. سيناريوهات ما بعد السلام
TT

الفلسطينيون والإسرائيليون.. سيناريوهات ما بعد السلام

الفلسطينيون والإسرائيليون.. سيناريوهات ما بعد السلام

لا أحد في فلسطين أو إسرائيل يستطيع أن يرسم خريطة طريق واضحة، يمكن لها أن تجيب على الأقل عن سؤال واحد بسيط، إذا ما كانت الأحداث على الأرض تتجه نحو حرب جديدة أو تهدئة طويلة.
وحتى أولئك الذين يفترض أنهم يمسكون زمام القرار، يبدو كأن الأحداث فلتت من بين أيديهم، فلا هم قادرون على إعلان حرب ولا هم قادرون على وضع تهدئة، وما عملية {الجرف الصامد} التي أطلقتها إسرائيل بشكل مفاجئ ضد غزة فجر الثلاثاء، إلا دليل واضح على ذلك، إذ تركز إسرائيل على ضربات جوية وتحذر من حرب برية وتنشد تهدئة مصرية، وينسحب هذا أيضا على حماس التي قصفت مواقع في إسرائيل وتحذر من ضرب مدن أبعد وعينها على الهدوء.
وعلى الرغم من أن حلقة التصعيد الحالية، ضمن سلسلة حلقات متجددة، لكنها تبدو الأخطر إذ جاءت بعد تدحرج مثير للأحداث، منذ أعلنت إسرائيل في 13 من يونيو (حزيران) الماضي، اختفاء ثلاثة مستوطنين في الضفة الغربية، واتهمت حماس بخطفهم.
منذ ذلك الوقت، تبدل وجه الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من دبلوماسي إلى دموي، وزاد من دمويته العثور لاحقا على جثث المستوطنين الثلاثة مدفونة قرب الخليل جنوب الضفة الغربية، ومن ثم اختطاف مستوطنين لفتى فلسطيني من القدس وإحراقه حيا في أبشع انتقام ممكن.
لم يسكت الإسرائيليون على قتل مستوطنيهم ولم يسكت الفلسطينيون على قتل فتاهم وآخرين، فتفجرت مواجهات في كل الضفة ولحقتها مواجهات في إسرائيل نفسها قبل أن تنتقل المعركة إلى قطاع غزة.
وزاد من الطين بلة أن كل هذه التطورات جاءت فيما انهارت جهود الولايات المتحدة لتحقيق اتفاق سلام بين الطرفين، وسط اتهامات متبادلة بينهما بالتصعيد والتخريب واختيار المواجهة.
قد تبدو المواجهات الحالية الآن رد فعل منطقيا في غياب الأمل، لكنها ليست خيارا نهائيا للأطراف كما يبدو. وعلى مدار الشهرين الماضيين اجتمع الكابينت (المجلس الأمني والسياسي الإسرائيلي المصغر) الذي يقرر السياسة الأمنية الإسرائيلية أكثر من مرة، وبقيت القيادة الفلسطينية في رام الله في حالة انعقاد دائم، فيما أعلنت حماس وفصائل فلسطينية في القطاع الاستنفار والجهوزية التامة، لكن أي منهم على الإطلاق لم يعرف ماذا سيفعل في اليوم التالي.
ويمكن القول إن الجميع كان يبحث عن الانتقام وتحقيق إنجازات سريعة، لكن من دون أن يتورطوا في حرب، وبدت هذه مسألة معقدة خارج السيطرة، إذ تبين لاحقا أن الانتقام والحرب لا ينفصلان.
استغلت إسرائيل عملية قتل المستوطنين واتهمت حماس بها، وطلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من الرئيس الفلسطيني محمود عباس فك الشراكة مع الحركة الإسلامية، وأمر قواته بشن حرب على بنيتها التحتية في الضفة فأعادت قواته اعتقال محرري صفقة تبادل الأسرى {شاليط} وأغلقت مؤسسات وصادرت أموالا.
نددت السلطة بالهجمات الإسرائيلية وطلبت حماية دولية ثم لوحت بالذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية.
تبرأت حماس من عملية خطف وقتل المستوطنين لكنها باركت العملية وقالت إنها سترد على أي استهداف لها.
كان الجميع يهدد الجميع، وحتى قبل ساعة من إطلاق إسرائيل عمليتها في غزة، ظل الوضع يتبدل من حال إلى حال في كل ساعة.
يعيش اليهود ساعة آمنة ثم تسقط الصواريخ فجأة مقبلة من غزة، يفطر أهالي غزة على أخبار التهدئة ثم يتلقون ضربات تودي بحياة أبنائهم قبل السحور، تسيطر السلطة الفلسطينية على الشارع ساعة الظهر، وتتحول المدن إلى ملتهبة في الليل، وسط تحليلات موسعة حول إمكانية اندلاع انتفاضة جديدة أو لا، وبدء حرب على غزة أو لا.
ومع استمرار إسرائيل في عمليتها الجوية على غزة، بدت جميع الخيارات مفتوحة في ظل انقسام واضح في الساحتين الإسرائيلية والفلسطينية، حول مستقبل الضفة والقطاع معا، إذ يطلب اليمين الإسرائيلي ضرب حماس بيد من حديد وإعادة احتلال القطاع، ويرفض ذلك الجيش الإسرائيلي، وتطلب حماس انتفاضة فلسطينية واسعة في الضفة وإسرائيل وترفض ذلك السلطة. ويرى مراقبون أن خيارات الفلسطينيين والإسرائيليين أصبحت تائهة ومفتوحة في نفس الوقت. وقالت مصادر فلسطينية رفيعة لـ{الشرق الأوسط}، إن الرئيس الفلسطيني يفكر جديا في الانضمام إلى مؤسسات دولية جديدة ومن بينها محكمة الجنايات من أجل محاسبة إسرائيل، لكنه يعرف أن ذلك قد يعني الخطوة الأخيرة إذ يمكن أن ترد إسرائيل بشكل غير مسبوق على السلطة، كما أن الولايات المتحدة قد تقاطع السلطة سياسيا وماليا، ولذلك سينتظر حتى اللحظة الأخيرة قبل اتخاذ خطوة من هذا القبيل.
وبعد الاتفاق السابق بين السلطة وحماس، ظل خيار المحكمة الدولية أحد أهم خيارات عباس المتبقية، إلا إذا أراد مواجهة إسرائيل هو ما يعني الانتحار بالنسبة له. لكن عدم اتخاذ عباس أي خطوات يبدو انتحارا شعبيا كذلك، إذ تعرض الرجل لأوسع حملة انتقادات في حقه بسبب عجز السلطة عن رد العدوان غلى الضفة.
وقال عباس إنه يملك خيارات وسيفعلها لأن من حقه أن يحمي شعبه وإن من يخشى المحاكم الدولية عليه أن يوقف جرائمه.
لم تأبه إسرائيل لتهديدات عباس، وبعد ساعات فقط شنت هجوما على القطاع لكن لسان حالها يقول إنها لا تريد لملايين من مواطنيها أن يعيشوا تحت صواريخ حماس.
أما حماس، فحافظت على صورتها راعية المقاومة، ووجدت نفسها مضطرة للرد على الاستهدافات الإسرائيلية لكنها تفكر في نفس الوقت في تجنب حرب جديدة. وبدا التردد في خيارات كل طرف واضحا، في الخطابين السياسي والأمني.
وقال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، يتسحاق اهارونوفيتش، إن المستوى السياسي أعطى الجيش الإسرائيلي كامل حرية العمل لضرب حركة حماس، وإن احتمال توسيع العملية العسكرية منوط بحماس نفسها وليس بإسرائيل.
وردت حماس متوعدة بتوسيع نطاق أهدافها في إسرائيل. واتهم القيادي في الحركة، حسام بدران إسرائيل باختراق التهدئة مرارا وتكرارا، مما دفع حماس وبقية فصائل المقاومة إلى الالتزام بحق الرد. وأضاف بدران، {إن المطلوب من أي جهة إقليمية أو دولية تريد أن يكون هناك نوع من الاستقرار في هذه المنطقة، أن توجه ضغوطها على إسرائيل}.
ومن جهته، طالب الرئيس الفلسطيني محمود عباس الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بوقف التصعيد العسكري والالتزام بالهدنة التي جرى التوصل إليها بين الجانبين في 2012.
ودعا عباس في بيان بثته وكالة الأنباء الرسمية الفلسطينية بعد موجة من الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة التي أطلق منها عشرات الصواريخ باتجاه بلدات إسرائيلية إلى {وقف التصعيد فورا}.
ودعا المجتمع الدولي إلى التدخل الفوري والعاجل لوقف هذا التصعيد الخطير الذي سيجر المنطقة إلى مزيد من الدمار وعدم الاستقرار. وحذرت الرئاسة الفلسطينية من أنها ستتخذ خطوات مصيرية إذا استمر العدوان. إذن كل طرف ترك الباب مفتوحا لخطوات جديدة وتركه مواربا للتراجع عنها.
وقد يكون خيار الحرب على غزة مرتبطا بالجبهة الداخلية الإسرائيلية أكثر من أي شيء آخر، كمن أراد أن يمسك العصا من المنتصف. وأوضح المحلل السياسي الإسرائيلي، تسفي يحزيكلي، أن اجتماعات المجلس الوزاري المصغر في إسرائيل {الكابينت} كانت تمتد لساعات طويلة وتعقد يوميا على مدار أيام متتالية دون أن تخرج بنتائج وتشهد جدالا حول القرارات الممكن اتخاذها لمواجهة كل الجبهات.
وأشار إلى أن وزراء اليمين المتطرف من أحزاب البيت اليهودي وإسرائيل بيتنا كانت تضغط بقوة للدخول في عملية عسكرية ضد حماس فيما يعارض نتنياهو ووزير الدفاع موشيه يعلون ومسؤولون من المؤسسة الأمنية من بينهم رئيس الأركان بيني غانتز ذلك ويفضلون ضبط النفس.
وفي هذا الصدد ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، أن مشادة كلامية حادة وقعت بين نتنياهو وليبرمان خلال اجتماع الحكومة الإسرائيلية الأحد بسبب الموقف من غزة، أدت لاحقا إلى فك ليبرمان الشراكة مع نتنياهو.
ولمحت الصحيفة إلى أن نتنياهو يشعر بأن وزراءه يستغلون الأوضاع للمزايدة عليه بهدف مصالحهم الشخصية سياسيا وأن ذلك كان واضحا من خلال المشادة الكلامية مع ليبرمان.
ويرى المحلل العسكري للقناة العبرية العاشرة، ألون بن دافيد، أن إسرائيل لا تريد التورط في جبهة مفتوحة مع حركة حماس في غزة، في الوقت الذي تخشى فيه انتفاضة ثالثة في الضفة قد تطيح برؤوس سياسية أبرزها نتنياهو.
ولفت بن دافيد إلى أن إسرائيل أصبحت أمام ثلاث جبهات في الضفة والقدس والوسط العربي، وهي الآن ليست بحاجة إلى معركة جديدة طويلة مع حماس التي قد تلجأ لاستخدام أسلحة استراتيجية تعطل الحياة في مدن حساسة مثل تل أبيب والقدس ومدن أخرى.
لكن كيف فلتت الأمور من بين يدي نتنياهو؟
قبل ساعات من الهجوم على غزة، دوت صفارات الإنذار في القدس، ونقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن انفجارات في مستوطنة بيت شيمش بين القدس وتل أبيب ومن ثم سحبت الخبر.
وحتى الآن لم يعرف على وجه الدقة إذا ما كان صاروخ من غزة انفجر فعلا في بيت شيمش أو مكان آخر، لكن بالنسبة للإسرائيليين، فإن ضرب القدس ومحيطها خط أحمر لا يمكن تجاوزه، وهذا ما قاد إلى هجوم على غزة. أما لماذا ضربت حماس محيط القدس، فلأن غارة إسرائيلية على نفق في القطاع أودت بحياة 7 من عناصرها كانوا بداخله، فلم تستطع الحركة تجاوز الأمر. ويرى المختص في الشؤون الإسرائيلية، عدنان أبو عامر، أن حماس وإسرائيل في طريقهما لعملية متدحرجة ستصل في نهاية المطاف إلى معركة مفتوحة رغم أن الجانبين لم يقررا بعد خياراتهما ولا يرغب أي منهما في فتح باب المعركة.
وقال أبو عامر لـ{الشرق الأوسط} إن {إسرائيل لا ترغب في ذلك في ظل وجود أكثر من جبهة وتخوفا من قدرات المقاومة، وحماس تريد إرسال رسائل لكافة الأطراف في ظل اشتداد الحصار عليها وتعثر الكثير من الملفات العالقة وأبرزها المصالحة دون أن تدخل معركة مفتوحة وتحقق في الوقت ذاته مطالبها من دون أن تتورط في الحرب}.
وأضاف {الخيارات الإسرائيلية تسير بين مكلفة وأقل تكلفة إما بالوصول لمرحلة الاستقرار أو المواجهة المفتوحة، أما في غزة فالأوضاع عبارة عن رمال متحركة تتغير كل حين}.
ويعتقد أبو عامر أن المنطقة أكثر قابلية نحو تفاهمات مبدئية إذا ما حققت حماس مطالبها.
وحدد الناطق باسم حماس الدكتور سامي أبو زهري طلبات حماس من أجل تهدئة، فهي بالإضافة إلى وقف العدوان فورا، {التزام إسرائيل بالاتفاق السابق للتهدئة، وأن تفرج عن الأسرى المحررين في صفقة شاليط الذين أعيد اعتقالهم مؤخرا ورفع الحصار بشكل كامل عن قطاع غزة بما في ذلك فتح معبر رفح أمام المواطنين}.
وشدد أبو زهري في حديث لـ{الشرق الأوسط} على أن حماس وبجانبها فصائل المقاومة لا تقبل بتهدئة مجانية دون تحقيق المطالب الفلسطينية التي كان من المفترض أن يجري تنفيذها في أعقاب اتفاق معركة حجارة السجيل (عامود سحاب.. الحرب الإسرائيلية على غزة 2012).
وأكد أبو زهري أن فصائل المقاومة تطالب بوقف العدوان الإسرائيلي الشامل في كافة الأراضي الفلسطينية قبل الحديث عن أي تهدئة، وليس فقط في غزة.
وأبقى أبو زهري الباب مفتوحا لأي خيارات {نحن مستعدون للتعامل مع كل الخيارات}.
ومن وجهة نظر أبو عامر فإن السلطة الفلسطينية أكثر الأطراف الخاسرة الآن، على خلفية تصاعد المواجهات في الضفة وغزة، ومن وجهة نظره فإن {السلطة تحاول امتصاص الموجة الحالية حتى لا تصل لموجة مفتوحة، ولا تملك سوى انتظار ما قد تسفر عنه الأحداث الحالية}.
ولا يرى المحلل السياسي والمختص في الشؤون الإسرائيلية أكرم عطا الله، أن المنطقة قد تذهب إلى حرب في وقت قصير. وقال عطا الله، لـ{الشرق الأوسط} إن «الوضع في المنطقة كله معقد والخيارات ستبقى محدودة أمام الجميع}. وأضاف {الكل في عنق الزجاجة الآن}.
وتابع {كافة الأطراف تعيش حالة عجز عن الفعل والجميع يحاول الابتعاد عن الهاجس الذي يشعر به}. مبينا أنه في حال اندفعت المنطقة للعنف فلا يمكن لأحد السيطرة عليها. ويعتقد عطا الله أن الخيارات الفلسطينية صعبة جدا، قائلا إن أكثرها احتمالا هو خيار الذهاب في انتفاضة شعبية في ظل الإجماع الوطني عليها وخشية إسرائيل منها لعدم استطاعتها مواجهتها والوقوف عاجزة أمام كل الجبهات. كما يرى عطا الله أن خيارات إسرائيل كذلك صعبة، {إسرائيل علاقاتها مع العالم على شفا الهاوية ولم يعد ينظر العالم لها وكأنها ضحية ويأخذ براويتها، خاصة بعد أن وجهت إسرائيل صفعة للعالم بضربها جهود السلام}.
أما عن خيارات حماس، فيرى عطا الله أنها أفضل من غيرها. وقال عطا الله إنها {ستحاول من خلال التصعيد فتح آفاق جديدة للخروج من الوضع الصعب الذي تعيشه وتعمل جاهدة لفرض اشتراطاتها وألا تفوت الفرصة على نفسها لتوجيه رسائل مختلفة لإسرائيل وللسلطات المصرية وأيضا لقيادة السلطة الفلسطينية}. وفي خضم الحرب الحالية تحاول كل جهة لوم الأخرى.
وأصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعليماته إلى الجيش الإسرائيلي بتكثيف النشاط العسكري ضد حركة حماس في قطاع غزة، وقال بعد اجتماعات أمنية الثلاثاء، {حماس هي التي اختارت هذا التصعيد فلتتحمل تبعاته}.
وشنت إسرائيل في اليوم الأول للحرب على غزة أكثر من 100 ضربة جوية، وقال المتحدث العسكري اللفتنانت كولونيل بيتر ليرنر في تغريدة على تويتر {عملية الجرف الصامد جارية وتستهدف قدرات حماس التي تروع إسرائيل}.
وتوعدت حماس بمفاجأة إسرائيل خلال الحرب الحالية بما لا تتوقعه.
لكن لا يبدو الأمر رهن بقرار صادر عن مكتب نتنياهو أو قيادة القسام وحسب، إنه رهن بالتطورات على الأرض قبل كل شيء، بمن يمكن أن تقتل صواريخ إسرائيل في غزة؟ وإلى أين يمكن أن تصل صواريخ حماس في إسرائيل؟ وكيف ستتصاعد أو تهدأ الانتفاضة في الضفة الغربية والداخل؟ وماذا يريد الشبان الغاضبون في القدس وبيت لحم والناصرة ورام الله والمثلث؟ وماذا يريد المستوطنون المنفلتون من عقالهم؟ وما مدى قوة المصريين في إقناع الأطراف بوقف التصعيد؟.
لا أحد يعرف كيف ستتطور الأحداث بعد ساعة واحدة.

* كيف تطورت الأحداث

* في 13 من يونيو (حزيران) الماضي أعلنت إسرائيل عن اختفاء 3 مستوطنين هم ايال يفراح 19 عاما، ونفتالي فرنكال 16 عاما، وجلعاد شاعير 16 عاما، من مكان قرب مستوطنة غوش عتصيون القريبة من الخليل جنوب الضفة الغربية.
* بعد يوم واحد اتهمت إسرائيل حماس بتنفيذ العملية لكن حماس لم تعقب.
* في 15 يونيو عزلت إسرائيل جنوب الضفة الغربية، وأرسلت لواء كاملا من المظليين وقوات خاصة إلى مدينة الخليل المغلقة للبحث عن المستوطنين الثلاثة، وقالت إسرائيل إنها تعمل وفق فرضية أنهم على قيد الحياة.
* بعد يوم واحد في 16 يونيو اتهم نتنياهو عباس بالمسؤولية عن خطف الشبان عبر شراكته مع حماس ولأن الحادثة وقعت في الضفة الغربية، لكنه في نفس اليوم اتصل به وطلب المساعدة في إيجاد الشبان المخطوفين.
* بعد أيام من البحث في الخليل قرر وزير الدفاع الإسرائيلي توسيع نطاق العمليات إلى كل مدن الضفة الغربية.
* على مدار أيام طويلة لاحقة، اجتاح الجيش الإسرائيلي مدن الضفة الغربية وأخذ يعتقل قيادات وناشطين من حماس ويداهم منازل ومؤسسات وجمعيات ومدارس وجامعات.
* أثناء عملية البحث أغلق الجيش الإسرائيلي، جميع المعابر مع قطاع غزة القريبة من الخليل، وشنت الطيارات غارات على غزة.
* استمرت عملية البحث 18 يوما وقتل الجيش الإسرائيلي 8 فلسطينيين واعتقل نحو 600 في الضفة الغربية.
* في 30 يونيو أعلن الجيش الإسرائيلي عثوره على جثث الشبان الثلاثة، في منطقة حلحول شمال الخليل وكانت نقطة تحول مهمة.
* أغلق الجيش الإسرائيلي الخليل بالكامل وتعهد نتنياهو بانتقام لم يخلقه الشيطان.
* انتقم الجيش فورا بتفجير منزلي مروان القواسمي وعامر أبو عيشة، وهما شابان من الخليل ينتميان لحماس وتتهمهما إسرائيل بخطف وقتل المستوطنين.
* بعد يوم واحد خرج المستوطنون إلى شوارع الضفة الغربية في محاولة للانتقام من فلسطينيين.
* في 2 من يوليو (تموز) الحالي، اختطف مستوطنون الفتى محمد أبو خضير (16 عاما) من أمام منزله في حي شعفاط في القدس ووجدت جثته محترقة بعد ساعات في غابة المدينة.
* فتحت حادثة تعذيب وإحراق أبو خضير الباب لتصعيد كبير في الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ تمددت المواجهات العنيفة بين الفلسطينيين الغاضبين والجيش الإسرائيلي إلى أنحاء واسعة في مدينة القدس.
* أظهر التشريح أن محمد أحرق وهو حي، فتفجر غضب واسع في وادي عارة وقلنسوة والطيبة وجلجولية وأم الفحم وباقة الغربية والناصرة في إسرائيل، في تطور نوعي ولافت ومقلق لأجهزة الأمن الإسرائيلية التي لا تريد وصول الأوضاع إلى حرب عربية يهودية في الداخل.
* أكد والد الفتى حسين أبو خضير لـ{الشرق الأوسط} أن ولده أحرق وهو حي يقاوم واتهم النازيين الجدد بحرقه.
* ندد عباس وطلب تحقيقا دوليا وهدد بالتوجه إلى الجنايات الدولية.
* في 7 يوليو أعلنت حماس عن مقتل 7 من عناصرها بقصف إسرائيلي على نفق وردت بإطلاق وابل من الصواريخ يعتقد أن واحدا منها وصل إلى أطراف القدس.
* بعد يوم واحد في 8 يوليو دوت صفارات الإنذار في القدس، منبئة بصاروخ من غزة وبعد ساعات شنت إسرائيل فجرا عملية {الجرف الصامد} ضد القطاع.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».