الحديث بين ترمب وبوتين لم يكن «توافقياً» طوال الوقت

68 % من الجمهوريين في الكونغرس يؤيدون أداء الرئيس في هلسنكي

TT

الحديث بين ترمب وبوتين لم يكن «توافقياً» طوال الوقت

دافع الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن العلاقة الودية التي تجمعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أنها، كما قال، لم تتسم بالتوافق دائماً. ودافع ترمب عن جهوده لبناء علاقة مع نظيره الروسي، وقال في مقابلة بثتها محطة تلفزيونية أمس (الجمعة)، إن محادثاتهما مضت على نحو جيد. وقال ترمب لمحطة «سي إن بي سي» في مقابلة سجلتها معه الخميس: «في الواقع تفاهمنا على نحو جيد». لكنه أشار إلى أنهما لم يتفقا بشأن كل شيء. وقال ترمب: «عقدنا اجتماعاً استمر أكثر من ساعتين. لم يكن توافقياً طيلة الوقت». ولم يذكر مزيداً من التفاصيل. لكنه أضاف: «ناقشنا كثيراً من الأمور الجيدة للبلدين».
ودعا ترمب الخميس، بوتين، لزيارة واشنطن لعقد اجتماع ثانٍ بينهما في الخريف، متحدياً بذلك موجة من الانتقادات في الولايات المتحدة. ولا يعلم أحد ما الذي حدث في الاجتماع الثنائي بين ترمب وبوتين الذي حضره المترجمون فقط، حتى كبار المسؤولين وأعضاء الكونغرس الذين قالوا إنه لم يجرِ إطلاعهم على ما تم في اللقاء. وقال ترمب إن هناك علاقة ودية بينه وبين بوتين الذي تتهمه وكالات مخابرات أميركية بإصدار توجيهات للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.
وفي مثال شديد الوضوح على الفجوة بين ترمب ومستشاريه بشأن روسيا، عبر دان كوتس مدير المخابرات الوطنية الأميركية عن دهشته لسماع نبأ الدعوة التي وجهها ترمب لبوتين لزيارة واشنطن. وعلم كوتس بقرار ترمب مثل غيره عندما أعلنه البيت الأبيض على «تويتر»، بينما كان يجري مقابلة في منتدى أسبن الأمني في كولورادو. وقال كوتس ضاحكاً حينها: «حسناً، سيكون هذا مميزاً».
ودفعت تصريحاته كبار مسؤولي المخابرات في إدارته وكذلك زعماء الكونغرس الجمهوريين إلى إعادة التأكيد على النتائج التي أشارت إلى أن روسيا حاولت التأثير في الناخبين الأميركيين.
وأثار الموقف التصالحي لترمب إزاء بوتين خلال قمة هلسنكي الصدمة حتى داخل معسكر الرئيس الأميركي، لكن أعضاء الكونغرس من الجمهوريين لا يملكون سوى وسائل محدودة لاحتواء الرئيس الأميركي. مع أن الجمهوريين لا يميلون عادة إلى انتقاد رئيسهم، فإنهم انضموا هذه المرة إلى صفوف الديمقراطيين. ورد هؤلاء على الرئيس الذي بدا أمام كاميرات العالم أجمع كأنه يبرئ ساحة نظيره الروسي بعد لقائهما على انفراد في فنلندا.
وعلق السيناتور الجمهوري بن ساس: «لقد ابتعدنا عن الواقع»، متهماً ترمب بمجاملة «بلطجي أصبح طاغية روسيا»، وذلك تعليقاً على قول الرئيس الأميركي إنه لا يرى «سبباً» للشك في تدخل روسي. وأكد ترمب أن الأمر كان زلة لسان، لكن بعض أعضاء الكونغرس باتوا يدفعون في اتجاه أخذ المبادرة واحتواء السياسة الخارجية بعد أسبوع دبلوماسي حافل انتقد فيه ترمب بشكل مباشر الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
وكتب الجمهوري بوب كوركر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ على «تويتر»: «لم تعد هناك ضوابط»، مضيفاً: «حان الوقت ليتدخل الكونغرس بشكل أكبر واستعادة حقوقنا». كما علق السيناتور الجمهوري ليندساي غراهام: «عدم القيام بشيء سيشكل خطأ سياسياً»، مع أنه غالباً ما يكون منسجماً مع ترمب، مضيفاً أن تدخل روسيا «احتمال من نوع اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) يمكننا الحؤول دون وقوعه». وتقدم عضو الكونغرس الجمهوري أيضاً، جيف فليك، الأربعاء، باقتراح يعيد التأكيد على قناعة أجهزة الاستخبارات بحصول تدخل روسي، وأن موسكو ستتحمل مسؤولية أفعالها لكن دون المضي أبعد من ذلك. لكن اقتراحاً أقدم كان تقدم به السيناتور ماركو روبيو يعود بقوة في هذه المرحلة، فهو يقترح فرض عقوبات تلقائية على روسيا في حال تدخل جديد في الانتخابات. ولمح زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، الثلاثاء، إلى إمكان عرض النص على التصويت. لن يترشح أي من كوركر أو فليك لولاية جديدة، وبالتالي بإمكانهما انتقاد ترمب علناً، لكن الباقين لا يمكنهم المجازفة، إذ إن حادثة مارك سانفورد لا تزال حاضرة في الأذهان. فقد خسر هذا العضو في مجلس النواب الذي شن الرئيس حملة ضده بعد انتقاده له في انتخابات أولية لحزبه في ولاية كارولاينا الشمالية لصالح مرشح آخر موالٍ لترمب.
كما كشف استطلاع أجرته شبكة «سي بي إس نيوز» ونشر الخميس، أن 68 في المائة من الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس يؤيدون أداء ترمب خلال قمة هلسنكي.
إلا أن الجمهوريين لا يملكون سوى غالبية محدودة في مجلس الشيوخ (51 مقعداً في مقابل 49)، وفي غياب جون ماكين الذي يعاني سرطاناً في الدماغ، تكفي معارضة صوت واحد لقلب النتيجة. وقال السيناتور الديمقراطي براين شاتز: «كل ما نحن بحاجة إليه هو شخص يريد أن يكون في الجانب الصحيح من التاريخ». وعلق السيناتور الديمقراطي ريتشارد بلومنتال لوكالة الصحافة الفرنسية: «أعتقد أن موجة القلق في تزايد» داخل الحزبين الرئيسيين. لكن الجمهوريين يفضلون الاستماع إلى شهادة وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون اللذين من المفترض أنهما على اطلاع على مضمون المحادثات.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟