«الوراقون» في الزمن الجميل!

«الوراقون» في الزمن الجميل!
TT

«الوراقون» في الزمن الجميل!

«الوراقون» في الزمن الجميل!

فرغتُ للتو من قراءة كتاب ممتع، ولكنه مثير للحسرة...! ممتع لأنه ينقلنا إلى عصر ازدهار الثقافة في العراق؛ العصر الذي كانوا يقولون فيه إن «الكتاب يُؤلف في مصر، ويُطبع في لبنان، ويُقرأ في العراق»، والحسرة أن هذا العصر لم يُعد موجوداً، فلا مصرَ تنتج نفائس الفكر والأدب، ولا العراق لديه فسحة من حزن يلجأ فيها إلى الكتاب...!
الكتابُ هو «مذكرات قاسم محمد الرجب» (1917 - 1974)، الوراق البغدادي الشهير، وصاحب «مكتبة المثنى» ببغداد. وناشر مجلة «المكتبة»، وهي أول صحيفة ثقافية عرفها العراق (صدر عدها الأول في مايو /أيار/ سنة 1960).
يؤرخ قاسم الرجب رحلته مع عالم الكتب في سنوات الخصب الثقافي والأدبي والسياسي في العراق. دخل عالم الكتب وهو طفل فقير قادم من حي الأعظمية عبر سوق السراي، حيث اشتغل صبياً في مكتبة لبيع الكتب، وفي سنة 1935 أسس «مكتبة المعري»، ثم غير اسمها إلى «مكتبة المثنى».
ارتبطت سوق السراي بالثقافة والعلم والمدارس، وفي مقدمته للكتاب، يذكر المؤرخ العراقي الدكتور عماد عبد السلام رؤوف، أن سوق السراي والمنطقة التي تقع فيها، ومن ضمنها القشلة وشارع المتنبي، تعود إلى القرن الخامس الهجري، وفي هذا التاريخ تم إنشاء ثلاث حواضن تعليمية وأربطة للعباد، وعبر الأزمنة أصبح المكان جاذباً للمدارس ودور القضاء وللكتب، ويلتقي مع هذه السوق شارع المتنبي الشهير. يصف الرجب سوق الوراقين، بدءاً من تحديد الدور الذي تلعبه دُور الكتب، فهي لم تكن مجرد مخازن للبيع، ولكنها مجالس مفتوحة تجتذب الأدباء والعلماء والمفكرين والمؤرخين والسياسيين ونخبة المجتمع. يتحدث في مذكراته كيف ازدهرت حركة النشر في العراق، كيف كان الكتاب رائجاً، ليس بالنسبة لجمهور الثقافة فحسب، بل لعموم الطبقات الاجتماعية، بعض الناس كانوا يقصدون السوق أربع مرات يومياً كحال المؤرخ والمحامي عباس العزاوي، صاحب كتاب «تاريخ العراق بين احتلالين»، وكتاب «تاريخ عشائر العراق» الذي يعتبر مرجعاً مهماً في تاريخ العشائر العراقية، وهناك من كان يبيت في السوق منتظراً وصول دفعة من الكتب كانت تأتي من الخارج، وحتى بعض رجال السياسة كانوا يرتادون السوق يذكر منهم نوري السعيد (رئيس وزراء العراق لتسع مرات).
يروي في مذكراته كيف كانت سوق الكتاب في العراق تستجيب وتتفاعل مع الأحداث السياسية التي كانت تمرّ بالبلد، بل وبطبيعة المجتمع المتعدد والثري بهوياته الثقافية. يذكر أن الكتب التي تحمل الفكر الشيوعي كانت ممنوعة عموماً في العراق، ولكنها أصبحت أكثر الكتب رواجاً بعد ثورة 14 يوليو (تموز)، وهي الثورة التي قادها عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف سنة 1958 وأطاحت بالملكية، وحولت العراق إلى نظام جمهوري.
يتحدث عن مزاج القراءة عند الناس، ففي ذلك الزمن كان الجمهور يتلهف إلى قراءة كتب الروايات العالمية، وبعضهم كان يفتش عن كتب الأدب والكتب الجنسية مثل كتاب «رشف الزلال من السحر الحلال» لجلال الدين السيوطي، وهو عبارة عن عشرين مقامة من مقامات النساء، يروي فيها عن عشرين عالماً أسرار ليلة الزفة...!
يروي أن كتب المسيحية واليهودية والديانات الأخرى كانت تباع في المكتبات، بل إنه صدر في تلك الفترة كتاب عن «عبدة الشيطان» في العراق... رغم أنه يكشف أنه كمن وهي صبي لمكتبة كانت تبيع كتب التبشير المسيحي فهشّم زجاجها، حتى أرغمت على الرحيل... ولا يعكر ذلك من طبيعة الجو المتسامح والمتصالح مع الآراء المتنوعة، وهو يشير إلى أن الوراقين كانوا ينظرون للكتب بعين التاجر الباحث عن الكسب ليس إلا، حتى أن قاسم الرجب نفسه امتهن بيع الكتب الممنوعة ما دامت تجذب له ربحاً، وهو يروي أنه شاهد موقوفاً في سجن أبي غريب فسأله عما جاء به إلى السجن، فأجابه: كتبك الممنوعة!
كان الوراقون يصنعون بيئة للثقافة وحواضن للأدب... وكانوا يكسبون بعض المال... صار الوراقون الجدد يكسبون المال فحسب...!



تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين

أحلم بسوريا جديدة تُعاد صياغتها على أسس المواطنة الحقيقيّة، حيث ينتمي الفرد إلى الوطن لا إلى طائفة أو عرق أو حزب... أتوق إلى وطنٍ لا يُجرّم فيه الحلم، ولا يُقمع فيه الاختلاف، وطنٍ يكفل لكلّ فرد حقّه في التعلم بلغته الأم، وفي التعبير عن هويّته وثقافته من دون خوف أو وصاية أو إنكار.

أحلم بسوريا تصان فيها الحريات العامّة، حيث يصبح احترام حرّية الرأي والتعبير قانوناً لا شعاراً أجوفَ، وحيث يُحمى المواطن لا أن يُساق إلى السجون أو المنافي لمجرّد مطالبته بحقوقه. سوريا التي أتمنّاها هي التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون، حيث لا تفضيلات ولا محسوبيات، لا فساد ينهش موارد البلاد ولا استبداد يدمّر مستقبلها.

أحلم ببلد يُدار بقوانين عادلة مستمدّة من حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، لا بقرارات فردية تُصادر الحياة برمّتها؛ حيث سيكون لكلّ فرد حقّه في التعلم والعمل والتعبير عن رأيه، وستُحترم لغات السوريّين وثقافاتهم كما تُحترم حياتهم. لن يُضطهد الكرديّ بسبب لغته، ولا أيّاً كان بسبب اختلافه أو رأيه أو معتقده، ولن يُنظر إلى الأقلّيات وكأنّها مُلاحقةٌ في وطنها، لن يكون هناك من فرق بين سوريّ وآخر. سوريا التي أنشدها ستُعيد الاعتبار إلى حقوق الجميع من دون تمييز، بحيث تُعتبر الحقوق واجبات تضمنها الدولة وتحميها.

أحلم أن تكون سوريا ما بعد الاستبداد دولة القانون والمؤسّسات، لا الفوضى والاستئثار بالسلطة. دولة تكفل لمواطنيها حرّية الاختيار وحرّية النقد، وتتيح لهم المشاركة الفاعلة في صنع مستقبلهم. لا أريد أن تُستبدل ديكتاتورية بأخرى، ولا أن يُعاد إنتاج التهميش تحت مسمّيات جديدة. أريد لوطني أن يتخلّص من إرث الديكتاتوريّة والعنف، وأن ينطلق نحو حياة كريمة يعلو فيها صوت الإنسان فوق أصوات السلاح والتناحر.

أحلم بسوريا تتجاوز «ثأراتها» التاريخية، سوريا التي تتصالح مع ماضيها بدل أن تعيد إنتاجه، فلا يكون فيها مَن يتسلّط على قومية أو لغة أو مذهب، سوريا التي تُبنى بالشراكة لا بالإقصاء.

سوريا التي أنشدها هي تلك التي لا تُعامل فيها لغة على أنّها تهديد للدولة، ولا يُعتبر فيها الكردي أو الأرمني أو الآشوري أو أي أحد آخر ضيفاً في أرضه.

لقد حُرمنا لعقود طويلة من التعلّم بلغتنا الكردية، ومن كتابة أحلامنا وهواجسنا بتلك اللغة التي نحملها بصفتها جزءاً من كينونتنا. لا أريد أن يُحرم طفل سوري - أياً كان انتماؤه - من لغته، لا أريد أن يُضطرّ أحد إلى الانكماش على ذاته خوفاً من رقابة السلطة أو وصاية المجتمع.

لا أريد أن تُلغى الذاكرة الكردية أو تُهمّش، بل أن تُعاد إليها قيمتها من دون مِنّةٍ أو مساومة، أن تُعاد اللغة إلى أصحابها الحقيقيِّين، أن تُدرَّس الكردية والعربية والآشورية وغيرها من اللغات في سوريا، وأن تكون كلّ لغة جسراً للمحبّة لا سلاحاً للتمييز.

أحلم بوطن تُرفع فيه المظالم عن كواهل السوريّين، فلا أرى مشرَّدين بين الأنقاض، ولا أسمع أنين أمّهات يبحثن عن جثامين أبنائهنّ المفقودين في كلّ مكان.

أحلم بوطن يتنفّس أبناؤه جميعاً بحرّيَّة، وطن يضمّد جراحه التي خلّفتها أنظمة الاستبداد، ويُفسح مكاناً للكرامة والحرية لتكونا أساسَين صلبَين لعقد اجتماعيّ جديد.

آمل أن تكون سوريا الناهضة من ركام نظام الأسد - الذي أعتبره تنظيماً مافيوياً لا غير - فضاءً يتّسع لاختلافنا. أن نستطيع العيش بوصفنا مواطنين كاملين، لا غرباء في أرضنا.

ولا يخفى على أحد أنّه لا يمكن بناء سوريا جديدة دون مواجهة الماضي بشجاعة وشفافية. العدالة الانتقالية ستكون الخطوة الأولى نحو تضميد جراح السوريين، لا بدّ من محاسبة عادلة لكلّ من ارتكب انتهاكات في حقّ الإنسان والوطن.

في سوريا التي أحلم بها، ستكون الثقافة حرّةً ومستقلة، مسرحاً للحوار والاختلاف، وفسحة لتجسيد التنوع السوريّ بجماله وثرائه. أحلم بروايات ومسلسلات تُحكى بكلّ لغات سوريا، ومعارض فنية تعبّر عن هموم السوريين وأحلامهم، ومسرح يضيء بصدق على المآسي والأمل معاً. الثقافة ستصبح أداة بناءٍ لا هدم، وحافزاً لإعادة اكتشاف الهوية المشتركة.

أحلم بوطن يحترم يحترم المرأة كإنسان وكشريك فعّال في بناء الحاضر والمستقبل، حيث تكون القوانين الضامنة لحقوقها جزءاً أصيلاً من بنية الدولة الجديدة. المرأة السورية التي واجهت الحرب بصبرها وشجاعتها تستحقّ أن تكون في مقدمة صفوف التغيير والنهضة.

أحلم بدولة تُوظّف مواردها لخدمة المواطنين، وتعتمد على طاقات الشباب والكفاءات السورية لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية تعيد الأمل وتكفل حياة كريمة للجميع. أحلم بوطن يعيد احتضان أبنائه المهاجرين المتناثرين في الشتات، ويفتح لهم أبواب المشاركة الفاعلة في إعادة البناء.

سوريا التي أحلم بها هي وطن يليق بتضحيات شعبها، وطن تتجلّى فيه القيم الإنسانية العليا، ويُعاد فيه الاعتبار إلى العدل والحرية والسلام.

كروائيّ تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه، وحُرم معي ملايين من السوريين من أبسط حقوقهم في الوجود، من حرية اللغة، والهوية، والانتماء الذي لم يكن يوماً خياراً، بل قيداً مفروضاً.

قد تبدو أحلامي رومانسيّة وبعيدة المنال، لكنّ الأحلام هي بذور المستقبل، وهي الأسس التي سنبني عليها غدنا المنشود.

هل سيظلّ هذا كلّه حلماً مؤجّلاً؟ ربّما. لكن، على الأقلّ، صار بإمكاننا كسوريّين أن نحلم!

* روائي سوري