«القاعدة» يحيي أبوابه الخلفية لاستعادة «الزعامة الزائفة»

هدد شركات غربية في أفريقيا... ولوّح مجدداً باستهداف دبلوماسيين

عناصر من «القاعدة» في الشريط الحدودي ما بين باكستان وأفغانستان («الشرق الأوسط»)
عناصر من «القاعدة» في الشريط الحدودي ما بين باكستان وأفغانستان («الشرق الأوسط»)
TT

«القاعدة» يحيي أبوابه الخلفية لاستعادة «الزعامة الزائفة»

عناصر من «القاعدة» في الشريط الحدودي ما بين باكستان وأفغانستان («الشرق الأوسط»)
عناصر من «القاعدة» في الشريط الحدودي ما بين باكستان وأفغانستان («الشرق الأوسط»)

ما بين تهديد فرع تابع لتنظيم «القاعدة» الإرهابي بشن هجمات على شركات غربية في شمال وغرب أفريقيا باعتبارها «أهدافاً مشروعة»، إلى تلويح «القاعدة» مجدداً عبر منابرها الإعلامية باستهداف السياسيين والدبلوماسيين في عدد من الدول. بات التنظيم يطرق أبواباً خلفية للعودة من جديد لصدارة مشهد «المتشددين» ولو بشكل مؤقت، عقب خسائر تلقاها خصمه «داعش» في سوريا والعراق.
وقال خبراء في شؤون التنظيمات الإرهابية لـ«الشرق الأوسط»، إن «ثمة مخاوف بدأت تبرز على الساحة الإعلامية والسياسية في سوريا والعراق من عودة (القاعدة) مجدداً؛ كونه واحداً من أقدم التنظيمات الإرهابية التي انتشرت في تسعينات القرن الماضي بصورة هائلة». وأكدوا أنه «لا يجب التقليل من تهديدات «القاعدة» في أي وقت، خصوصاً أنه أم التنظيمات الجهادية، ورغم حالة التراجع الذي يعانى منها التنظيم في الخطط والأدوات، فإن هذا لا يقلل من قدرته على تنفيذ خطط على أرض الواقع».
ويقدم تنظيم «القاعدة» نفسه بصفته طليعة الجهاد ضد أميركا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، وأصحاب منهج صحيح على خلاف «داعش» الذي يصفهم بـ«الخوارج الغلاة والتكفيريين». ويرى مراقبون، أن «كثيراً من الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي تلقت تدريبات على يد عناصر (القاعدة) انفصلت عن التنظيم خلال السنوات الماضية وانضمت لتنظيمات أخرى مثل (داعش)... وتسعى (القاعدة) لضم هؤلاء (الدواعش) عقب الهزائم التي لحقت بهم في سوريا والعراق خلال الأشهر الأخيرة».
وبخلاف تفجيرات برج التجارة العالمي في الحادي عشر من ديسمبر (كانون الأول) عام 2001، فإن «القاعدة» يمتلك سجلاً أسود في العمليات الإرهابية، أبرزها في عام 1998 عندما قام التنظيم بعملية تفجير مبنى سفارتي الولايات المتحدة الأميركية في نيروبي ودار السلام بكينيا؛ مما أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص.
وهدد فرع لتنظيم «القاعدة» بشن هجمات على شركات غربية في شمال وغرب أفريقيا، ودعا إلى مقاطعتها. واستهدف مقاتلو التنظيم فنادق يرتادها أجانب في مالي وبوركينا فاسو وساحل العاج، وقال التنظيم في بيان له، إن «هذا يأتي منابذة لكل الشركات والمؤسسات الغربية - وبدرجة أولى الفرنسية منها - العاملة في المغرب الإسلامي (من ليبيا إلى موريتانيا) ومنطقة الساحل، وإخطار لها بأنها هدف مشروع لعناصره».
تزامن ذلك مع تقرير مصري كشف عن أن «القاعدة» يلوّح عبر أدواته الإعلامية باستهداف السياسيين والدبلوماسيين، وقال التقرير التي أعده باحثون في دار الإفتاء المصرية، إن «المخاطر التي رصدها عن مساعي (القاعدة) لاستهداف السياسيين والدبلوماسيين تعود إلى تاريخ تنظيم «القاعدة» الذي يعتبر من أكثر التنظيمات الإرهابية احترافية في تنفيذ الاغتيالات السياسية واستهداف المقرات الدبلوماسية، منذ بداية التسعينات بتفجير السفارة المصرية بباكستان عام 1995».
وقال المراقبون، إنه «رغم الضربات القوية التي وجهتها بعض القوى الدولية والإقليمية إلى التنظيمات الإرهابية الموجودة في منطقة الساحل والصحراء خلال الفترة الماضية، فإن ذلك لا ينفي أن الجهود التي تبذلها تلك القوى من أجل تكريس حالة الأمن والاستقرار في هذه المنطقة، تواجه تحديات كثيرة لا تبدو هينة، وبخاصة أن تلك التنظيمات ما زال لديها القدرة على تنفيذ عمليات إرهابية نوعية».
وأكد المراقبون في هذا الصدد، كان لافتاً أنها بدأت تركز على استهداف القوات الدولية والإقليمية، على غرار الهجوم الأخير الذي نفذته جماعة تدعى «نصرة الإسلام والمسلمين» الموالية لتنظيم «القاعدة» على دورية تابعة لقوة «بارخان» الفرنسية في مدينة غاو بشمال مالي مطلع يوليو (تموز) الحالي، وأدى ذلك إلى مقتل 4 مدنيين، وإصابة 31 آخرين، منهم 8 جنود فرنسيين... وتلى الهجوم الذي تعرض له مقر قيادة قوة مجموعة الساحل والصحراء في مدينة سيفاري بوسط مالي.
وأضاف التقرير المصري، أن زعيم تنظيم «القاعدة» الإرهابي أيمن الظواهري قد وضع لأتباعه دستوراً في الإرهاب والإجرام وإراقة الدماء وأطلق عليه «شفاء صدور المؤمنين»، يهدف من خلاله إلى إضفاء شرعية دينية وسياسية على عمليات الاغتيالات لأفراد البعثات الدبلوماسية وتفجير مقراتها... متجاهلاً احتمالية سقوط ضحايا من المدنيين أو الأبرياء أثناء تنفيذهم تلك الهجمات الإرهابية؛ حيث برر الظواهري لأتباعه جواز إتلاف النفس من أجل ما أطلق عليه زوراً «مصلحة الدين والمصلحة العامة»... كما أجاز الظواهري لأتباعه قتل المخالفين في العقيدة إذا اختلط بهم من لا يجوز رميه من المسلمين أو غيرهم.
وأشار التقرير إلى أن آراء الظواهري الشاذة كانت بمثابة الأساس الذي انطلق منه تنظيم «القاعدة» وما لحقه وتزامن معه من جماعات إرهابية اشتهرت بالإفراط في تنفيذ العمليات الانتحارية، واستحلال استهداف السياسيين والدبلوماسيين، بغض النظر عن عقد الأمان الممنوح لهم.
من جانبه، قلل الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، من مزاعم وتهديدات تنظيم «القاعدة»، لافتاً إلى أن «الظواهري ما زال يعيش أحلام الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الدموية وما زال يعزف على أوتار الماضي، ويحاول جاهداً الإبقاء على تنظيمه والجماعات التابعة له كحركة متماسكة، رغم أنها بالفعل تفككت». مضيفاً أن «القاعدة» لا يزال يجد صعوبة في قبول انشقاق مزيد من الجماعات التابعة له، وبخاصة بعد انشقاق تنظيم داعش ومنافسته له؛ مما يؤكد مخاوفه من ظهور منافسين آخرين لقيادة حركة الجهاد العالمي - المزعومة - وسحب البساط من تحت قدمه، ويكون في آخر قائمة التنظيمات التي تدعي أنها - جهادية على حد زعمهم.
كما لـ«القاعدة» تاريخ حافل في استهداف الدبلوماسيين، فسبق أن أعلن عام 2005 استهداف رئيس البعثة الدبلوماسية المصرية في العراق السفير إيهاب الشريف الذي تم اختطافه من أحد شوارع بغداد. وفي أبريل (نيسان) عام 2010 تبنى التنظيم ثلاث عمليات انتحارية استهدفت كلاً من السفارة المصرية وسفارات عربية وأجنبية في العاصمة بغداد؛ مما أسفر عن 30 قتيلاً. وفي مارس (آذار) من العام نفسه أعلنت جماعة تدعى «نصرة الإسلام والمسلمين» التابعة لـ«القاعدة» في مالي، مسؤوليتها عن سلسلة هجمات بالعاصمة بوركينا فاسو وأغادوغو، واستهدفت السفارة والمعهد الفرنسيين ومقر القوات المسلحة في البلاد؛ مما أسفر عن مقتل 28 شخصاً على الأقل وجرح العشرات.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2015، اختطف تنظيم «القاعدة» في مدينة المكلا شرق اليمن، خمسة أشخاص، بينهم صحافيون وناشطون وسياسيون.
وفي مارس 2016، اختطف مسلحون من «القاعدة» وكيل محافظة أبين في اليمن حيدرة دحة قرب مدينة زنجبار.
وفي فبراير (شباط) 2017، اختطف عناصر من «القاعدة»، العقيد عبد الله الخضر حسين، أحد قيادات الحماية للرئيس هادي، في منطقة الخديرة إحدى قرى مديرية لودر بمحافظة أبين.
وفي يونيو (حزيران) 2017، اقتاد مسلحون مرتبطون بتنظيم «القاعدة» الإرهابي، عدداً من أعضاء بعثة الأمم المتحدة في ليبيا رهائن، وذلك بمنطقة الزاوية، وتم احتجاز سيارة تابعة للبعثة، في منطقة الحرشة غربي طرابلس التابعة لبلدية الزاوية، وقاد عملية الاختطاف شعبان هدية، المعروف بأبو عبيدة الزاوي التابع لـ«القاعدة».
وقال عمرو عبد الرحمن، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إنه «لا يجب التقليل من تهديدات «القاعدة» في أي وقت، خصوصاً أنه أم التنظيمات الجهادية، ورغم حالة التراجع الذي يعاني منها التنظيم في الخطط والأدوات، فإن هذا لا يقلل من قدرته على تنفيذ خطط على أرض الواقع».
في غضون ذلك، رجحت مصادر أمنية مصرية أن يتولى «القاعدة» زمام المرحلة الجهادية المقبلة، معتمداً على الاستفادة من القوة البشرية المدربة النازحة من «داعش» وتحالفه القائم مع جماعة «الإخوان»، والتمويل الذي لا يزال يتلقاه من قطر.
وتحدثت المصادر عن طفرة في مستويات تنظيم «القاعدة» القتالية، إثر اكتسابه خبرات ميدانية واسعة خلال سنوات الحرب السورية، لافتة إلى أن التنظيم الذي يهتم أكثر من ذي قبل بزعزعة الأنظمة العربية، يضم مقاتلين على قدر كبير من الاحترافية، ودربت عناصره على استخدام أسلحة متطورة... وربما العملية الإرهابية التي شهدتها مصر في أكتوبر عام 2017 بالواحات بالصحراء الغربية دليل على هذا التكتيك، الذي ظهرت فيه بصمات تنظيم «القاعدة» بوجهه الجديد.
بينما قال الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن ثمة مخاوف بدأت تبرز على الساحة الإعلامية والسياسية في سوريا والعراق من عودة «القاعدة» مجدداً على الساحة؛ كونه واحداً من أقدم التنظيمات الإرهابية التي انتشرت في تسعينات القرن الماضي بصورة هائلة ولديه قدرة على جذب فلول وبقايا التنظيمات الميتة الأخرى، التي لاذت بالفرار من الهزائم المتتالية.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.