التجارب المعجونة بالدم

التجارب المعجونة بالدم
TT

التجارب المعجونة بالدم

التجارب المعجونة بالدم

أنتمي إلى ذلك الجيل الذي انطلقت حياته المهنية في بداية تسعينات القرن الماضي، وفي الخلفية مشاهد متداخلة. بوش الأب يعلن من الكويت بداية نظام عالمي جديد تتسيده أميركا. العالم العربي ينقسم ويتقاتل بعد احتلال صدام للكويت. العراق يحاصر.
أنا ابن جيل تساوى عمره المهني مع التجربة الفضائية في العالم العربي. في عام 1991، دخل الإعلام العربي عصر الفضائيات، وانطلقت الفضائية المصرية وبعدها «إم بي سي».
عشنا تجربة أن نكون تلاميذ وأساتذة في آن واحد، فلم يكن هناك من سبقنا في العمل الفضائي لأنه بدأ بنا ومعنا.
لم تنتهِ التسعينات إلا بحدث جلل لا يقل عن تغيير النظام العالمي في بدايتها، حيث وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).
في أكتوبر (تشرين الأول) 2001، اشتعلت الحرب في أفغانستان. لم يمر وقت طويل إلا وتحركت إلى هناك لأرصد بعضاً من تحولات الزمن المر، الذي تطور إلى ما نحن فيه الآن.
منذ ذلك التاريخ، تعلمت أن أية تجربة صحافية، سواء كانت صحافة مكتوبة أو مرئية، لا تقاس بالمؤسسة التي أشتغل بها، وإنما تقاس بالأماكن الساخنة التي عملت وعشت بها.
تعلمت أن التجارب الصحافية الحقيقة لا تتأتي عبر الجلوس على المقاعد في الاستوديوهات المكيفة، ولا بربطة العنق الأنيقة. تعلمت أن المهنة الحقيقية هي المهنة المعجونة بالدم والعرق والتعب والخوف.
حين بدأت إرهاصة احتلال العراق، شاءت الظروف أن ألتقي «رئيس فرق التفتيش» هانزبليكس، وأتذكر حديثه معي حين قال: «أنا مثل الذي أرسلوه إلى مكان ليخبرهم إذا كانت الشمس مشرقة أم لا... لما أخبرتهم أنها ليست مشرقة، غضب الذين لا يردونها كذلك»، فأدركت أن هناك من لا يريد أن تشرق الشمس في بلادنا.
ولما اندلعت حرب احتلال العراق، وقفت هناك في بغداد وسط المنطقة الخضراء وفي غيرها، أتابع عن قرب عاصمة العراق وهي تحتضر، أتابع بكاء أبو نواس وهو يرى شارعه يضمر ويموت، أرى دجلة وهو ينزف ماءه ليجف والفرات وهو يذبل.
في 2004، بدأت كتابة روايتي «حالة سقوط»، من وحي معايشتي للحرب على العراق، وفيها عرفت معنى النزف والموت على الورق. جاءت الرواية طفحاً، وجاءت نبوءة تحققت كاملة في 2011، حين انفرطت مسبحة الحكام، كما قلت في الرواية.
عشت أربعة أعوام متنقلاً بين العراق وأفغانستان وباكستان وإيران، وقتها جربت معنى ما قاله ديستوفيسكي: «فهم الحياة لا يتأتي إلا بمعايشة نقيضها، وهو الموت».
ما زالت أمارس معشوقتي، وهي مهنتي، في البيت الذي أحبه، وهو «قناة العربية»، أكثر من نصف عمر تجربتي المهنية، اثنا عشر عاماً تمثل بالنسبة لي كل شيء، وفيها لم أنقطع عن التواصل مع ممالكي القديمة، وهي العراق وأفغانستان والسودان وفلسطين ومصر والمغرب وتونس وموريتانيا، وغيرها.
أذكر منذ عام، أو يزيد، حين زرت كابل «وكشفت عن الشخصية الحقيقية» للملا عمر، أدركت كم كنت متهوراً ومجنوناً حين ارتميت في أحضان الموت هناك في بداية أزمتهم.
وحين تحركت في شوارع بغداد وأنا أحصي أظافر الرصاص من على البيوت، أدركت أيضاً أن المهنة تحتاج شيئاً من الجنون.
نحن جيل قد لا يتكرر، لا لأننا أفضل من غيرنا، وإنما لأننا أبناء التجربة المؤلمة، وهذه التجربة ابنة زمانها، والأزمنة لا تعود.

- إعلامي مصري
مذيع ومقدم برامج في قناة {العربية}



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.