نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»
TT

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

يتابع نصر الحريري، الطبيب السوري الأربعيني، بحسرة وخيبة المستجدات الواردة من مسقط رأسه في مدينة درعا. فمنذ توليه رئاسة هيئة التفاوض في عام 2017 خسرت فصائل المعارضة تباعاً القلمون وريف حمص والغوطة، ومؤخراً درعا المعروفة بـ«مهد الثورة». يتحدث الحريري عن «صفقة خبيثة» أدت لغياب الرد الأميركي على هجوم قوات النظام السوري المدعومة من روسيا في جنوب غربي البلاد بعد أن استخدمت واشنطن القوة العسكرية ضد هجمات على حلفائها في مناطق أخرى بسوريا.

لكن الخيبة شيء والاستسلام شيء آخر بالنسبة إلى الحريري الذي انضم إلى صفوف الثورة السورية مع انطلاقتها، فعُيّن عضواً بالهيئة السياسية للائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية ممثلاً عن الحراك الثوري، قبل أن تختاره المعارضة لرئاسة وفدها إلى مفاوضات جنيف، فرئيس الوفد المفاوض المعارض أكد بالتزامن مع رفع النظام علمه في درعا، المضي في المعركة، مشدداً على أنه «واهم من يعتقد أن معركتنا مع النظام يمكن أن تحددها جغرافياً أو يمكن لها أن تنتهي بسهولة». ورغم توقف المفاوضات في جنيف منذ سعي موسكو لاستبدال المسار السويسري بمسار «سوتشي» الذي كان يعارضه الحريري، فإن هيئة التفاوض سلمت مطلع الشهر الحالي قائمة مرشحيها للجنة الدستورية التي خلص إليها آخر اجتماع في سوتشي للمبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا. وقد اعتبر رئيس الهيئة أنها «خطوة للمضي في تطبيق بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254 وإيماناً منها بضرورة مواصلة العمل والصمود في كل الجبهات بما فيها السياسية».
ويبدو أن الحريري يتقن الصمود. فابن درعا الذي ولد في الأول من يناير (كانون الثاني) 1977، تخرج في كلية الطب وحصل على الماجستير في الأمراض الباطنية والقلبية، وشغل مناصب عدة، أبرزها رئيس الأطباء في مستشفى الأسد الجامعي بدمشق، ثم رئيس الأطباء في مستشفى درعا الوطني، بعد أن تخصص طبيب القسطرة القلبية في مستشفى الشفاء وعدد من المستشفيات الخاصة في دمشق. وعمل الحريري أيضاً محاضرا في شركة للصناعات الدوائية ومديرا طبيا للعيادات السعودية في مخيم الزعتري، ثم مديراً للمكتب الإقليمي للهيئة الطبية السورية.
لم تكن المسيرة المهنية للحريري محصورة بالتحديات الكبيرة التي يواجهها أي طبيب، إذ تعرض للملاحقة الأمنية منذ 2003 وحتى 2009 بتهمة «بث أفكار تضعف الشعور القومي». وفي عام 2011 انضم إلى «الحراك الثوري السلمي» مع انطلاقة الثورة السورية، وشارك في تنظيم أول اعتصام نقابي، وألقى بياناً قال فيه إن «قوات الأمن مجرمة وهي من ارتكبت المجازر» وإن «الإعلام السوري كاذب يسعى إلى الفتنة، ويجب محاسبته». وقدم هو والمعتصمون استقالات جماعية من حزب «البعث». واعتقل بعد ذلك أكثر من 20 مرة بتهم تمويل الثورة، وإضعاف الشعور القومي، وتصوير الشهيد حمزة الخطيب وبث صوره على القنوات، والتواصل مع قنوات إعلامية معادية للنظام، والتحريض والتأجيج على التظاهر ضد النظام ومعالجة الثوار.
وأسس ابن درعا نقابة الأطباء الأحرار في مدينته عام 2011، وأعلن عن عملها رسمياً في الأردن بعد عامين. وهو عضو مؤسس في المنتدى الوطني للحوار الديمقراطي في الأردن، وفي اللجنة الطبية السورية في الأردن، وفي اللجان المحلية في مدينة درعا، ونقيب الأطباء والصيادلة الأحرار.
لكن مشواره الثوري من الداخل السوري انتهى في عام 2012، بعد أن قرر مغادرة درعا متوجهاً إلى الأردن في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول)، فأقام في مخيم الزعتري وهناك عمل مديراً طبياً للعيادات السعودية في المخيم، كما كان مديراً للمكتب الإقليمي للهيئة الطبية السورية.
وبعدها انضم الحريري إلى الائتلاف المعارض وتولى الأمانة العامة فيه في 2014 قبل أن يُنتخب رئيساً لهيئة التفاوض خلفاً لرياض حجاب في مؤتمر «الرياض 2» في فبراير (شباط) 2017. وترأس ابن درعا وفود المعارضة في اجتماعات جنيف 4 و5 و6 و7 و8 و9. ورغم توقف الاجتماعات، فإن هيئة التفاوض تواصل اجتماعاتها في الرياض بشكل دوري (كل شهر أو كل شهر ونصف تقريباً)، وهي عقدت آخر اجتماع في الرابع والعشرين من الشهر الماضي وبحثت خلاله المشاركة في اللجنة الدستورية التي تم التفاهم عليها في اجتماعات «سوتشي». وتم فعلياً إرسال مجموعة من الأسماء المقترحة إلى دي ميستورا.
وأعلن الحريري مؤخراً أن اللجنة الدستورية التي ستشكلها الأمم المتحدة من أجل الحل السياسي في البلاد، تتكون من النظام والمعارضة والخبراء بنسبة الثلث لكل طرف، لافتاً إلى أن اللجنة الدستورية «تم الحديث عنها في جنيف، وازداد زخمها بعد مؤتمر سوتشي (الحوار السوري)، وخف الحديث عنها لاحقاً لرفض النظام لها». وأوضح أنه «بعد قرار إرسال الأسماء للأمم المتحدة زاد الزخم، والدول الضامنة (تركيا وروسيا وإيران) يتم التشاور معها للوصول إلى 150 عضواً، وهناك سعي أممي للتواصل مع دول آستانة، والتواصل مع الدول الغربية للتوصل إلى تصور بشأن اللجنة».
ويأخذ معارضو الحريري عليه أنه كان في عام 2014 من أبرز المعارضين للمفاوضات مع النظام السوري ولمسار الحل السياسي باعتباره جمّد إلى جانب 43 عضواً عضويتهم في الائتلاف المعارض بعد قرار القيادة المشاركة في مفاوضات جنيف، وأنه تحول اليوم إلى رئيس الوفد المفاوض.
ولم تشارك هيئة التفاوض بشكل رسمي في المفاوضات التي أفضت إلى انضمام درعا إلى «مناطق المصالحات» وإن كان 3 من أعضائها أبرزهم بشار الزعبي جلسوا مع الروس على طاولة واحدة، وكانوا شركاء بالاتفاق الذي تم توقيعه مؤخراً. وتؤكد مصادر مطلعة أن الحريري لم يكن له أي دور بالتواصل المباشر مع المفاوضين الروس، وكان فقط على اتصال بقادة الفصائل في الجنوب، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه ركز جهوده على تكثيف الاتصالات مع السعودية والأردن وتركيا، «وحين تم توقيع الاتفاق بخصوص درعا لم يكن للهيئة أي دور أو قرار».
ويأخذ مدير «مركز جسور للدراسات» محمد سرميني على الحريري أنه «براغماتي بطريقة مبالغ فيها»، لافتاً إلى أنه «كان من المجموعة التي قاطعت مؤتمر جنيف 2 وعلقت مشاركتها في الائتلاف، لكن الآن هو المسؤول الأول عن التفاوض». ويرى سرميني في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الحريري لم ينجح في ملء الفراغ الذي تركه رئيس الوزراء الأسبق رياض حجاب»، مشيراً إلى أن «الأداء الذي قدمته الهيئة في درعا مؤخراً كان مخيباً باعتبارها ظلت متفرجة على تسليم المنطقة للنظام والروس».
في المقابل، تؤكد مصادر قريبة من الهيئة أنها «لم تقف أبدا متفرجة على ما يحصل في درعا وحاولت ممارسة كل الضغوط اللازمة سواء من خلال الاتصالات والمشاورات المفتوحة مع سفراء الدول الكبرى، أو من خلال محاولة الحد من خسارة المعارضة بالصفقة التي تم بالنهاية فرضها بعد قرار واشنطن تسليم المنطقة للروس»، مذكرة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «دورها يبقى إلى حد بعيد محصوراً بالعمل الدبلوماسي ولا سلاح بين يديها إلا التمسك بالقرارات الأممية».
ورغم بعض الأصوات المعارضة أو المنتقدة لأداء الحريري والمطالبة باستقالته من منطلق أن أعضاء الهيئة يجلسون على طاولة المفاوضات لإيجاد حل سياسي، فيما النظام يطبق عملياً الحل العسكري، فإن مصادر الائتلاف المعارض تنفي تماماً وجود أي نية حالياً لانتخاب بديل عن الحريري أو عن أحد أعضاء الهيئة.
وصوّب ابن درعا بوضوح نهاية الشهر الماضي باتجاه الولايات المتحدة، فشجب ما سماه «الصمت الأميركي» على هجوم قوات النظام السوري على درعا في جنوب غربي سوريا، واصفاً ما يحصل بأنه «صفقة». وقال الحريري في مؤتمر صحافي في الرياض إن وجود «صفقة خبيثة» هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسر غياب الرد الأميركي على هجوم القوات الحكومية المدعومة من روسيا في جنوب غربي سوريا بعد أن استخدمت واشنطن القوة العسكرية ضد هجمات على حلفائها في مناطق أخرى من سوريا. ورأى أن واشنطن تحافظ فقط على المناطق التي تريدها في سوريا. كما وصف تحرك المجتمع الدولي حيال جنوب سوريا بـ«الوهمي والفارغ»، معتبراً أن المجازر التي ترتكب بحق المدنيين «عار وعيب بحق المجتمع الدولي».
ولعل أبرز ما يسبب نوعاً من الخيبة للحريري في الأشهر الماضية، بحسب مقربين منه، هو إمعان النظام بالحل العسكري مقابل قرار أميركي واضح تم إلزام حلفاء واشنطن به لجهة وقف تقديم الدعم المسلح لمقاتلي المعارضة. وقد تحدث مؤخراً لوكالة «رويترز» عن قرار دولي اتُخذ نهاية السنة الماضية، بوقف الدعم العسكري، «ما يعني أنه قرار للولايات المتحدة». وأضاف: «نحن نعرف، والشعب السوري يعرف، أن أميركا لا ترغب جدياً في الوصول إلى الحل السياسي ووضع ثقلها الحقيقي في المفاوضات، وهي قادرة على إحداث تغيير ما».
وبعد الإقرار بتخلي واشنطن عن المعارضة السورية، يسعى الحريري إلى إقناع الاتحاد الأوروبي بعدم سلوك المسار الأميركي، مشدداً على أنه «ينبغي للاتحاد الأوروبي ألا يمنح أي شرعية للحكومة السورية، لأنه على رغم المكاسب العسكرية الأخيرة التي حققها النظام، فإنه لن يتمكن من السيطرة الكاملة على البلاد». ولا تزال هيئة التفاوض تعتبر الاتحاد الأوروبي أحد أهم شركاء المعارضة، وترى أنه «لإحراز تقدم في العملية السياسية في جنيف، علينا أن نمارس ضغوطاً على روسيا والنظام وحلفائه، خصوصاً أن لدى الأوروبيين كثيرا من الأدوات للضغط على روسيا والنظام».
وخلال زيارته لندن في مايو (أيار) الماضي، تحدث الحريري في مقابلة مع «الشرق الأوسط» عن ثمانية إجراءات تقوم بها طهران لتثبيت بقائها في سوريا هي «أولاً، عرقلة الحل السياسي، وثانياً، تجنيس ميليشيات والسيطرة على ممتلكات، وثالثاً، جلب عشرات آلاف الميليشيات الأجانب، ورابعاً، السيطرة على القرار، وخامساً، بناء قواعد عسكرية إيرانية، وسادساً، إقامة مستودعات ومصانع أسلحة، وسابعاً، إبرام عقود اقتصادية لثروات استراتيجية، وثامناً، تجييش وتعبئة طائفية». واعتبر أن «كل هذا جعل من رئيس (فيلق القدس) في (الحرس الثوري) الإيراني قاسم سليماني حاكماً في سوريا».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.