نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»
TT

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

يتابع نصر الحريري، الطبيب السوري الأربعيني، بحسرة وخيبة المستجدات الواردة من مسقط رأسه في مدينة درعا. فمنذ توليه رئاسة هيئة التفاوض في عام 2017 خسرت فصائل المعارضة تباعاً القلمون وريف حمص والغوطة، ومؤخراً درعا المعروفة بـ«مهد الثورة». يتحدث الحريري عن «صفقة خبيثة» أدت لغياب الرد الأميركي على هجوم قوات النظام السوري المدعومة من روسيا في جنوب غربي البلاد بعد أن استخدمت واشنطن القوة العسكرية ضد هجمات على حلفائها في مناطق أخرى بسوريا.

لكن الخيبة شيء والاستسلام شيء آخر بالنسبة إلى الحريري الذي انضم إلى صفوف الثورة السورية مع انطلاقتها، فعُيّن عضواً بالهيئة السياسية للائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية ممثلاً عن الحراك الثوري، قبل أن تختاره المعارضة لرئاسة وفدها إلى مفاوضات جنيف، فرئيس الوفد المفاوض المعارض أكد بالتزامن مع رفع النظام علمه في درعا، المضي في المعركة، مشدداً على أنه «واهم من يعتقد أن معركتنا مع النظام يمكن أن تحددها جغرافياً أو يمكن لها أن تنتهي بسهولة». ورغم توقف المفاوضات في جنيف منذ سعي موسكو لاستبدال المسار السويسري بمسار «سوتشي» الذي كان يعارضه الحريري، فإن هيئة التفاوض سلمت مطلع الشهر الحالي قائمة مرشحيها للجنة الدستورية التي خلص إليها آخر اجتماع في سوتشي للمبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا. وقد اعتبر رئيس الهيئة أنها «خطوة للمضي في تطبيق بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254 وإيماناً منها بضرورة مواصلة العمل والصمود في كل الجبهات بما فيها السياسية».
ويبدو أن الحريري يتقن الصمود. فابن درعا الذي ولد في الأول من يناير (كانون الثاني) 1977، تخرج في كلية الطب وحصل على الماجستير في الأمراض الباطنية والقلبية، وشغل مناصب عدة، أبرزها رئيس الأطباء في مستشفى الأسد الجامعي بدمشق، ثم رئيس الأطباء في مستشفى درعا الوطني، بعد أن تخصص طبيب القسطرة القلبية في مستشفى الشفاء وعدد من المستشفيات الخاصة في دمشق. وعمل الحريري أيضاً محاضرا في شركة للصناعات الدوائية ومديرا طبيا للعيادات السعودية في مخيم الزعتري، ثم مديراً للمكتب الإقليمي للهيئة الطبية السورية.
لم تكن المسيرة المهنية للحريري محصورة بالتحديات الكبيرة التي يواجهها أي طبيب، إذ تعرض للملاحقة الأمنية منذ 2003 وحتى 2009 بتهمة «بث أفكار تضعف الشعور القومي». وفي عام 2011 انضم إلى «الحراك الثوري السلمي» مع انطلاقة الثورة السورية، وشارك في تنظيم أول اعتصام نقابي، وألقى بياناً قال فيه إن «قوات الأمن مجرمة وهي من ارتكبت المجازر» وإن «الإعلام السوري كاذب يسعى إلى الفتنة، ويجب محاسبته». وقدم هو والمعتصمون استقالات جماعية من حزب «البعث». واعتقل بعد ذلك أكثر من 20 مرة بتهم تمويل الثورة، وإضعاف الشعور القومي، وتصوير الشهيد حمزة الخطيب وبث صوره على القنوات، والتواصل مع قنوات إعلامية معادية للنظام، والتحريض والتأجيج على التظاهر ضد النظام ومعالجة الثوار.
وأسس ابن درعا نقابة الأطباء الأحرار في مدينته عام 2011، وأعلن عن عملها رسمياً في الأردن بعد عامين. وهو عضو مؤسس في المنتدى الوطني للحوار الديمقراطي في الأردن، وفي اللجنة الطبية السورية في الأردن، وفي اللجان المحلية في مدينة درعا، ونقيب الأطباء والصيادلة الأحرار.
لكن مشواره الثوري من الداخل السوري انتهى في عام 2012، بعد أن قرر مغادرة درعا متوجهاً إلى الأردن في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول)، فأقام في مخيم الزعتري وهناك عمل مديراً طبياً للعيادات السعودية في المخيم، كما كان مديراً للمكتب الإقليمي للهيئة الطبية السورية.
وبعدها انضم الحريري إلى الائتلاف المعارض وتولى الأمانة العامة فيه في 2014 قبل أن يُنتخب رئيساً لهيئة التفاوض خلفاً لرياض حجاب في مؤتمر «الرياض 2» في فبراير (شباط) 2017. وترأس ابن درعا وفود المعارضة في اجتماعات جنيف 4 و5 و6 و7 و8 و9. ورغم توقف الاجتماعات، فإن هيئة التفاوض تواصل اجتماعاتها في الرياض بشكل دوري (كل شهر أو كل شهر ونصف تقريباً)، وهي عقدت آخر اجتماع في الرابع والعشرين من الشهر الماضي وبحثت خلاله المشاركة في اللجنة الدستورية التي تم التفاهم عليها في اجتماعات «سوتشي». وتم فعلياً إرسال مجموعة من الأسماء المقترحة إلى دي ميستورا.
وأعلن الحريري مؤخراً أن اللجنة الدستورية التي ستشكلها الأمم المتحدة من أجل الحل السياسي في البلاد، تتكون من النظام والمعارضة والخبراء بنسبة الثلث لكل طرف، لافتاً إلى أن اللجنة الدستورية «تم الحديث عنها في جنيف، وازداد زخمها بعد مؤتمر سوتشي (الحوار السوري)، وخف الحديث عنها لاحقاً لرفض النظام لها». وأوضح أنه «بعد قرار إرسال الأسماء للأمم المتحدة زاد الزخم، والدول الضامنة (تركيا وروسيا وإيران) يتم التشاور معها للوصول إلى 150 عضواً، وهناك سعي أممي للتواصل مع دول آستانة، والتواصل مع الدول الغربية للتوصل إلى تصور بشأن اللجنة».
ويأخذ معارضو الحريري عليه أنه كان في عام 2014 من أبرز المعارضين للمفاوضات مع النظام السوري ولمسار الحل السياسي باعتباره جمّد إلى جانب 43 عضواً عضويتهم في الائتلاف المعارض بعد قرار القيادة المشاركة في مفاوضات جنيف، وأنه تحول اليوم إلى رئيس الوفد المفاوض.
ولم تشارك هيئة التفاوض بشكل رسمي في المفاوضات التي أفضت إلى انضمام درعا إلى «مناطق المصالحات» وإن كان 3 من أعضائها أبرزهم بشار الزعبي جلسوا مع الروس على طاولة واحدة، وكانوا شركاء بالاتفاق الذي تم توقيعه مؤخراً. وتؤكد مصادر مطلعة أن الحريري لم يكن له أي دور بالتواصل المباشر مع المفاوضين الروس، وكان فقط على اتصال بقادة الفصائل في الجنوب، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه ركز جهوده على تكثيف الاتصالات مع السعودية والأردن وتركيا، «وحين تم توقيع الاتفاق بخصوص درعا لم يكن للهيئة أي دور أو قرار».
ويأخذ مدير «مركز جسور للدراسات» محمد سرميني على الحريري أنه «براغماتي بطريقة مبالغ فيها»، لافتاً إلى أنه «كان من المجموعة التي قاطعت مؤتمر جنيف 2 وعلقت مشاركتها في الائتلاف، لكن الآن هو المسؤول الأول عن التفاوض». ويرى سرميني في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الحريري لم ينجح في ملء الفراغ الذي تركه رئيس الوزراء الأسبق رياض حجاب»، مشيراً إلى أن «الأداء الذي قدمته الهيئة في درعا مؤخراً كان مخيباً باعتبارها ظلت متفرجة على تسليم المنطقة للنظام والروس».
في المقابل، تؤكد مصادر قريبة من الهيئة أنها «لم تقف أبدا متفرجة على ما يحصل في درعا وحاولت ممارسة كل الضغوط اللازمة سواء من خلال الاتصالات والمشاورات المفتوحة مع سفراء الدول الكبرى، أو من خلال محاولة الحد من خسارة المعارضة بالصفقة التي تم بالنهاية فرضها بعد قرار واشنطن تسليم المنطقة للروس»، مذكرة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «دورها يبقى إلى حد بعيد محصوراً بالعمل الدبلوماسي ولا سلاح بين يديها إلا التمسك بالقرارات الأممية».
ورغم بعض الأصوات المعارضة أو المنتقدة لأداء الحريري والمطالبة باستقالته من منطلق أن أعضاء الهيئة يجلسون على طاولة المفاوضات لإيجاد حل سياسي، فيما النظام يطبق عملياً الحل العسكري، فإن مصادر الائتلاف المعارض تنفي تماماً وجود أي نية حالياً لانتخاب بديل عن الحريري أو عن أحد أعضاء الهيئة.
وصوّب ابن درعا بوضوح نهاية الشهر الماضي باتجاه الولايات المتحدة، فشجب ما سماه «الصمت الأميركي» على هجوم قوات النظام السوري على درعا في جنوب غربي سوريا، واصفاً ما يحصل بأنه «صفقة». وقال الحريري في مؤتمر صحافي في الرياض إن وجود «صفقة خبيثة» هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسر غياب الرد الأميركي على هجوم القوات الحكومية المدعومة من روسيا في جنوب غربي سوريا بعد أن استخدمت واشنطن القوة العسكرية ضد هجمات على حلفائها في مناطق أخرى من سوريا. ورأى أن واشنطن تحافظ فقط على المناطق التي تريدها في سوريا. كما وصف تحرك المجتمع الدولي حيال جنوب سوريا بـ«الوهمي والفارغ»، معتبراً أن المجازر التي ترتكب بحق المدنيين «عار وعيب بحق المجتمع الدولي».
ولعل أبرز ما يسبب نوعاً من الخيبة للحريري في الأشهر الماضية، بحسب مقربين منه، هو إمعان النظام بالحل العسكري مقابل قرار أميركي واضح تم إلزام حلفاء واشنطن به لجهة وقف تقديم الدعم المسلح لمقاتلي المعارضة. وقد تحدث مؤخراً لوكالة «رويترز» عن قرار دولي اتُخذ نهاية السنة الماضية، بوقف الدعم العسكري، «ما يعني أنه قرار للولايات المتحدة». وأضاف: «نحن نعرف، والشعب السوري يعرف، أن أميركا لا ترغب جدياً في الوصول إلى الحل السياسي ووضع ثقلها الحقيقي في المفاوضات، وهي قادرة على إحداث تغيير ما».
وبعد الإقرار بتخلي واشنطن عن المعارضة السورية، يسعى الحريري إلى إقناع الاتحاد الأوروبي بعدم سلوك المسار الأميركي، مشدداً على أنه «ينبغي للاتحاد الأوروبي ألا يمنح أي شرعية للحكومة السورية، لأنه على رغم المكاسب العسكرية الأخيرة التي حققها النظام، فإنه لن يتمكن من السيطرة الكاملة على البلاد». ولا تزال هيئة التفاوض تعتبر الاتحاد الأوروبي أحد أهم شركاء المعارضة، وترى أنه «لإحراز تقدم في العملية السياسية في جنيف، علينا أن نمارس ضغوطاً على روسيا والنظام وحلفائه، خصوصاً أن لدى الأوروبيين كثيرا من الأدوات للضغط على روسيا والنظام».
وخلال زيارته لندن في مايو (أيار) الماضي، تحدث الحريري في مقابلة مع «الشرق الأوسط» عن ثمانية إجراءات تقوم بها طهران لتثبيت بقائها في سوريا هي «أولاً، عرقلة الحل السياسي، وثانياً، تجنيس ميليشيات والسيطرة على ممتلكات، وثالثاً، جلب عشرات آلاف الميليشيات الأجانب، ورابعاً، السيطرة على القرار، وخامساً، بناء قواعد عسكرية إيرانية، وسادساً، إقامة مستودعات ومصانع أسلحة، وسابعاً، إبرام عقود اقتصادية لثروات استراتيجية، وثامناً، تجييش وتعبئة طائفية». واعتبر أن «كل هذا جعل من رئيس (فيلق القدس) في (الحرس الثوري) الإيراني قاسم سليماني حاكماً في سوريا».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.