نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»
TT

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

يتابع نصر الحريري، الطبيب السوري الأربعيني، بحسرة وخيبة المستجدات الواردة من مسقط رأسه في مدينة درعا. فمنذ توليه رئاسة هيئة التفاوض في عام 2017 خسرت فصائل المعارضة تباعاً القلمون وريف حمص والغوطة، ومؤخراً درعا المعروفة بـ«مهد الثورة». يتحدث الحريري عن «صفقة خبيثة» أدت لغياب الرد الأميركي على هجوم قوات النظام السوري المدعومة من روسيا في جنوب غربي البلاد بعد أن استخدمت واشنطن القوة العسكرية ضد هجمات على حلفائها في مناطق أخرى بسوريا.

لكن الخيبة شيء والاستسلام شيء آخر بالنسبة إلى الحريري الذي انضم إلى صفوف الثورة السورية مع انطلاقتها، فعُيّن عضواً بالهيئة السياسية للائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية ممثلاً عن الحراك الثوري، قبل أن تختاره المعارضة لرئاسة وفدها إلى مفاوضات جنيف، فرئيس الوفد المفاوض المعارض أكد بالتزامن مع رفع النظام علمه في درعا، المضي في المعركة، مشدداً على أنه «واهم من يعتقد أن معركتنا مع النظام يمكن أن تحددها جغرافياً أو يمكن لها أن تنتهي بسهولة». ورغم توقف المفاوضات في جنيف منذ سعي موسكو لاستبدال المسار السويسري بمسار «سوتشي» الذي كان يعارضه الحريري، فإن هيئة التفاوض سلمت مطلع الشهر الحالي قائمة مرشحيها للجنة الدستورية التي خلص إليها آخر اجتماع في سوتشي للمبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا. وقد اعتبر رئيس الهيئة أنها «خطوة للمضي في تطبيق بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254 وإيماناً منها بضرورة مواصلة العمل والصمود في كل الجبهات بما فيها السياسية».
ويبدو أن الحريري يتقن الصمود. فابن درعا الذي ولد في الأول من يناير (كانون الثاني) 1977، تخرج في كلية الطب وحصل على الماجستير في الأمراض الباطنية والقلبية، وشغل مناصب عدة، أبرزها رئيس الأطباء في مستشفى الأسد الجامعي بدمشق، ثم رئيس الأطباء في مستشفى درعا الوطني، بعد أن تخصص طبيب القسطرة القلبية في مستشفى الشفاء وعدد من المستشفيات الخاصة في دمشق. وعمل الحريري أيضاً محاضرا في شركة للصناعات الدوائية ومديرا طبيا للعيادات السعودية في مخيم الزعتري، ثم مديراً للمكتب الإقليمي للهيئة الطبية السورية.
لم تكن المسيرة المهنية للحريري محصورة بالتحديات الكبيرة التي يواجهها أي طبيب، إذ تعرض للملاحقة الأمنية منذ 2003 وحتى 2009 بتهمة «بث أفكار تضعف الشعور القومي». وفي عام 2011 انضم إلى «الحراك الثوري السلمي» مع انطلاقة الثورة السورية، وشارك في تنظيم أول اعتصام نقابي، وألقى بياناً قال فيه إن «قوات الأمن مجرمة وهي من ارتكبت المجازر» وإن «الإعلام السوري كاذب يسعى إلى الفتنة، ويجب محاسبته». وقدم هو والمعتصمون استقالات جماعية من حزب «البعث». واعتقل بعد ذلك أكثر من 20 مرة بتهم تمويل الثورة، وإضعاف الشعور القومي، وتصوير الشهيد حمزة الخطيب وبث صوره على القنوات، والتواصل مع قنوات إعلامية معادية للنظام، والتحريض والتأجيج على التظاهر ضد النظام ومعالجة الثوار.
وأسس ابن درعا نقابة الأطباء الأحرار في مدينته عام 2011، وأعلن عن عملها رسمياً في الأردن بعد عامين. وهو عضو مؤسس في المنتدى الوطني للحوار الديمقراطي في الأردن، وفي اللجنة الطبية السورية في الأردن، وفي اللجان المحلية في مدينة درعا، ونقيب الأطباء والصيادلة الأحرار.
لكن مشواره الثوري من الداخل السوري انتهى في عام 2012، بعد أن قرر مغادرة درعا متوجهاً إلى الأردن في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول)، فأقام في مخيم الزعتري وهناك عمل مديراً طبياً للعيادات السعودية في المخيم، كما كان مديراً للمكتب الإقليمي للهيئة الطبية السورية.
وبعدها انضم الحريري إلى الائتلاف المعارض وتولى الأمانة العامة فيه في 2014 قبل أن يُنتخب رئيساً لهيئة التفاوض خلفاً لرياض حجاب في مؤتمر «الرياض 2» في فبراير (شباط) 2017. وترأس ابن درعا وفود المعارضة في اجتماعات جنيف 4 و5 و6 و7 و8 و9. ورغم توقف الاجتماعات، فإن هيئة التفاوض تواصل اجتماعاتها في الرياض بشكل دوري (كل شهر أو كل شهر ونصف تقريباً)، وهي عقدت آخر اجتماع في الرابع والعشرين من الشهر الماضي وبحثت خلاله المشاركة في اللجنة الدستورية التي تم التفاهم عليها في اجتماعات «سوتشي». وتم فعلياً إرسال مجموعة من الأسماء المقترحة إلى دي ميستورا.
وأعلن الحريري مؤخراً أن اللجنة الدستورية التي ستشكلها الأمم المتحدة من أجل الحل السياسي في البلاد، تتكون من النظام والمعارضة والخبراء بنسبة الثلث لكل طرف، لافتاً إلى أن اللجنة الدستورية «تم الحديث عنها في جنيف، وازداد زخمها بعد مؤتمر سوتشي (الحوار السوري)، وخف الحديث عنها لاحقاً لرفض النظام لها». وأوضح أنه «بعد قرار إرسال الأسماء للأمم المتحدة زاد الزخم، والدول الضامنة (تركيا وروسيا وإيران) يتم التشاور معها للوصول إلى 150 عضواً، وهناك سعي أممي للتواصل مع دول آستانة، والتواصل مع الدول الغربية للتوصل إلى تصور بشأن اللجنة».
ويأخذ معارضو الحريري عليه أنه كان في عام 2014 من أبرز المعارضين للمفاوضات مع النظام السوري ولمسار الحل السياسي باعتباره جمّد إلى جانب 43 عضواً عضويتهم في الائتلاف المعارض بعد قرار القيادة المشاركة في مفاوضات جنيف، وأنه تحول اليوم إلى رئيس الوفد المفاوض.
ولم تشارك هيئة التفاوض بشكل رسمي في المفاوضات التي أفضت إلى انضمام درعا إلى «مناطق المصالحات» وإن كان 3 من أعضائها أبرزهم بشار الزعبي جلسوا مع الروس على طاولة واحدة، وكانوا شركاء بالاتفاق الذي تم توقيعه مؤخراً. وتؤكد مصادر مطلعة أن الحريري لم يكن له أي دور بالتواصل المباشر مع المفاوضين الروس، وكان فقط على اتصال بقادة الفصائل في الجنوب، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه ركز جهوده على تكثيف الاتصالات مع السعودية والأردن وتركيا، «وحين تم توقيع الاتفاق بخصوص درعا لم يكن للهيئة أي دور أو قرار».
ويأخذ مدير «مركز جسور للدراسات» محمد سرميني على الحريري أنه «براغماتي بطريقة مبالغ فيها»، لافتاً إلى أنه «كان من المجموعة التي قاطعت مؤتمر جنيف 2 وعلقت مشاركتها في الائتلاف، لكن الآن هو المسؤول الأول عن التفاوض». ويرى سرميني في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الحريري لم ينجح في ملء الفراغ الذي تركه رئيس الوزراء الأسبق رياض حجاب»، مشيراً إلى أن «الأداء الذي قدمته الهيئة في درعا مؤخراً كان مخيباً باعتبارها ظلت متفرجة على تسليم المنطقة للنظام والروس».
في المقابل، تؤكد مصادر قريبة من الهيئة أنها «لم تقف أبدا متفرجة على ما يحصل في درعا وحاولت ممارسة كل الضغوط اللازمة سواء من خلال الاتصالات والمشاورات المفتوحة مع سفراء الدول الكبرى، أو من خلال محاولة الحد من خسارة المعارضة بالصفقة التي تم بالنهاية فرضها بعد قرار واشنطن تسليم المنطقة للروس»، مذكرة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «دورها يبقى إلى حد بعيد محصوراً بالعمل الدبلوماسي ولا سلاح بين يديها إلا التمسك بالقرارات الأممية».
ورغم بعض الأصوات المعارضة أو المنتقدة لأداء الحريري والمطالبة باستقالته من منطلق أن أعضاء الهيئة يجلسون على طاولة المفاوضات لإيجاد حل سياسي، فيما النظام يطبق عملياً الحل العسكري، فإن مصادر الائتلاف المعارض تنفي تماماً وجود أي نية حالياً لانتخاب بديل عن الحريري أو عن أحد أعضاء الهيئة.
وصوّب ابن درعا بوضوح نهاية الشهر الماضي باتجاه الولايات المتحدة، فشجب ما سماه «الصمت الأميركي» على هجوم قوات النظام السوري على درعا في جنوب غربي سوريا، واصفاً ما يحصل بأنه «صفقة». وقال الحريري في مؤتمر صحافي في الرياض إن وجود «صفقة خبيثة» هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسر غياب الرد الأميركي على هجوم القوات الحكومية المدعومة من روسيا في جنوب غربي سوريا بعد أن استخدمت واشنطن القوة العسكرية ضد هجمات على حلفائها في مناطق أخرى من سوريا. ورأى أن واشنطن تحافظ فقط على المناطق التي تريدها في سوريا. كما وصف تحرك المجتمع الدولي حيال جنوب سوريا بـ«الوهمي والفارغ»، معتبراً أن المجازر التي ترتكب بحق المدنيين «عار وعيب بحق المجتمع الدولي».
ولعل أبرز ما يسبب نوعاً من الخيبة للحريري في الأشهر الماضية، بحسب مقربين منه، هو إمعان النظام بالحل العسكري مقابل قرار أميركي واضح تم إلزام حلفاء واشنطن به لجهة وقف تقديم الدعم المسلح لمقاتلي المعارضة. وقد تحدث مؤخراً لوكالة «رويترز» عن قرار دولي اتُخذ نهاية السنة الماضية، بوقف الدعم العسكري، «ما يعني أنه قرار للولايات المتحدة». وأضاف: «نحن نعرف، والشعب السوري يعرف، أن أميركا لا ترغب جدياً في الوصول إلى الحل السياسي ووضع ثقلها الحقيقي في المفاوضات، وهي قادرة على إحداث تغيير ما».
وبعد الإقرار بتخلي واشنطن عن المعارضة السورية، يسعى الحريري إلى إقناع الاتحاد الأوروبي بعدم سلوك المسار الأميركي، مشدداً على أنه «ينبغي للاتحاد الأوروبي ألا يمنح أي شرعية للحكومة السورية، لأنه على رغم المكاسب العسكرية الأخيرة التي حققها النظام، فإنه لن يتمكن من السيطرة الكاملة على البلاد». ولا تزال هيئة التفاوض تعتبر الاتحاد الأوروبي أحد أهم شركاء المعارضة، وترى أنه «لإحراز تقدم في العملية السياسية في جنيف، علينا أن نمارس ضغوطاً على روسيا والنظام وحلفائه، خصوصاً أن لدى الأوروبيين كثيرا من الأدوات للضغط على روسيا والنظام».
وخلال زيارته لندن في مايو (أيار) الماضي، تحدث الحريري في مقابلة مع «الشرق الأوسط» عن ثمانية إجراءات تقوم بها طهران لتثبيت بقائها في سوريا هي «أولاً، عرقلة الحل السياسي، وثانياً، تجنيس ميليشيات والسيطرة على ممتلكات، وثالثاً، جلب عشرات آلاف الميليشيات الأجانب، ورابعاً، السيطرة على القرار، وخامساً، بناء قواعد عسكرية إيرانية، وسادساً، إقامة مستودعات ومصانع أسلحة، وسابعاً، إبرام عقود اقتصادية لثروات استراتيجية، وثامناً، تجييش وتعبئة طائفية». واعتبر أن «كل هذا جعل من رئيس (فيلق القدس) في (الحرس الثوري) الإيراني قاسم سليماني حاكماً في سوريا».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.