ديغول وفرانكو... غداء سري في مدريد يكشف عنه للمرة الأولى

ماذا دار من حديث بين تلك الشخصيتين التاريخيتين المتناقضتين والمتشابهتين؟

ديغول وفرانكو... غداء سري في مدريد يكشف عنه للمرة الأولى
TT

ديغول وفرانكو... غداء سري في مدريد يكشف عنه للمرة الأولى

ديغول وفرانكو... غداء سري في مدريد يكشف عنه للمرة الأولى

في الثامن من يونيو (حزيران) 1970 وصل محرّر فرنسا من الاحتلال النازي ورئيس جمهوريتها الأسبق الجنرال ديغول إلى مدريد لمقابلة الجنرال فرانكو عدوّه السابق وحليف هتلر في الحرب العالمية الثانية. كان قد مضى عام على استقالة مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة بعد اضطرابات ربيع عام 1968 الشهيرة، وكان ديغول يحقق حلماً يراوده منذ فترة طويلة بزيارة إسبانيا لشدة إعجابه بشخصية دون كيشوت والإمبراطور كارلوس الخامس (شارلمان) الذي كاد أن يوّحد القارة الأوروبية بكاملها.
كان ديغول على أبواب الثمانين من عمره، في حين كان فرانكو في السابعة والسبعين، شبه منبوذ من الأسرة الدولية بسبب تحالفه مع النازيين، لكن واشنطن كانت قررت عدم عزله كليّاً لمقتضيات الحرب الباردة التي كانت في ذروتها. وكان الجنرال الفرنسي قد وصل إلى العاصمة الإسبانية برفقة زوجته وأحد مساعديه، بعد أن قَبِل دعوة فرانكو لتناول الغداء في مقر إقامته بقصر الباردو في ضاحية مدريد الشمالية.
بقي ذلك اللقاء مغموراً في تاريخ الرجلين من غير أن تُعرف عنه تفاصيل كثيرة، إلى أن صدر مؤخراَ كتاب حول اللقاء بعنوان «غداء في مدريد» للصحافي الفرنسي كلود سريّون الذي كان مقدِّماً لنشرة الأخبار الرئيسية على القناة الثانية للتلفزيون ومستشاراً للرئيس السابق فرنسوا هولاند. يقول سريّون عن كتابه «ماذا دار من حديث بين تلك الشخصيتين التاريخيتين المتناقضتين والمتشابهتين في آن معاً؟ حاولت أن أتخيل ذلك اللقاء كمسرحية يلتقي فيها الجنرال ديغول مدفوعاً برغبته في مواجهة عدّوه الذي كان قد كتب أيضاً صفحة في تاريخ أوروبا». وينقل الكاتب عن أحد أفراد العائلة التي استضافت ديغول خلال زيارته إلى مدينة طليطلة بعد مغادرته مدريد، ما سمعه من الجنرال عندما سئل عن انطباعاته بعد لقاء فرانكو إذ قال «إنه رجل كهل!».
لا يكشف كتاب سريّون الكثير عن ذلك اللقاء، اللهّم سوى ردود الفعل التي أحدثها في أوساط المقرّبين من ديغول التي تراوحت بين الدهشة والخيبة. يقول «إن تلك الزيارة أثارت خيبة عميقة لدى اثنين من أقرب المفكّرين من الجنرال: فرنسوا مورياك وأندريه مالرو الذي كان وزيراً للثقافة على عهده، وسبق له أن قاتل في الحرب الأهلية الإسبانية ضد قوات فرانكو. ويذكر سريّون أن مالرو أكّد للكاتب جان لاكوتور واضع سيرة ديغول، أنه كان استقال فوراً لو تمّت الزيارة عندما كان الجنرال رئيساً للجمهورية». ويضيف لاكوتور، أنه عندما سأل ديغول عن نتيجة تلك الزيارة، أجابه «... كانت إيجابية... أجل، كانت إيجابية بالنسبة لفرانكو، رغم القمع والجرائم. لكن ستالين أيضاً ارتكب أفظع منها بكثير».
لكن أسرار ذلك اللقاء التاريخي وتفاصيله محبّرة في تقرير محفوظ في أرشيف وزارة الخارجية الإسبانية ومدوّنات الصديق والدبلوماسي الراحل ماكسيمو كاخال، الذي كلّفّ وزير الخارجية آنذاك لوبيز برافو بالترجمة بين الرجلين. وكان كاخال قد أشار، بتحفّظ، إلى ذلك اللقاء في كتابه بعنوان «أحلام وكوابيس: مذكِّرات دبلوماسي» الذي صدر عام 2010 قبل أربع سنوات من وفاته. واللافت أن سريّون لا يشير إلى هذا الكتاب المرجع عن اللقاء موضوع مؤلفه.
وقد حظيت طيلة سنوات بعلاقة صداقة وزمالة مع ماكسيمو بعد أن أصبحت مترجم جلالة ملك إسبانيا ورئاسة الحكومة الإسبانية، وكنّا غالباً ما نتبادل النوادر والتفاصيل حول بعض اللقاءات، من بينها ذلك اللقاء الذي جمع ديغول بالجنرال فرانكو التي توفّي بعده بخمس سنوات قبل أيام من وصولي إلى العاصمة الإسبانية للالتحاق بالجامعة.
يقول كاخال: «كان فرنكو متهدّج الصوت... يكاد لا يُسمع. كان قليل الكلام، تبدو عليه علامات الانبهار وهو يستمع إلى ديغول الذي بادر مضيفه قائلاً: هو الجنرال فرانكو، وهذا ليس بقليل. أنا كنت الجنرال ديغول، وهذا يكفي». ويضيف أن ديغول أعرب عن إعجابه بفرانكو «... لأنه عرف كيف يُبعد إسبانيا عن الصراعات الدولية، مبدِّياً مصلحة بلاده على أي اعتبار آخر». ويذكر أنه ردّاً على ما قال ديغول بأنه أضعف الأحزاب السياسية، لكنه لم يقضِ عليها، أجاب فرانكو بأن الأحزاب السياسية «... تتنافس على إضعاف الدولة، وتدمّر وحدتها».
ويقول جان مورياك، الصحافي ونجل فرنسوا مورياك، الذي غطّى تلك الزيارة لوكالة الصحافة الفرنسية «... أن ديغول أُعجب خلال زيارته الطويلة إلى إسبانيا بقساوة الطقس، وتقشّف الأماكن، وعزلة القرى التي، على مرّ الأجيال، تشكّلت منها معالم الشخصية الوطنية الإسبانية التي كان معجباً بها».
وقد رحل ديغول بعد تلك الزيارة بستة أشهر، من غير أن يتمكّن من تحقيق حلمه الآخر بزيارة الصين.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.