100 شرطي يحققون في وفاة بريطانية بغاز «نوفيتشوك»

وزير الداخلية استبعد فرض عقوبات جديدة على موسكو قبل انتهاء التحقيق

TT

100 شرطي يحققون في وفاة بريطانية بغاز «نوفيتشوك»

تواصل الشرطة البريطانية جهودها الحثيثة لفك لغز وفاة امرأة إثر تعرضها لغاز الأعصاب نوفيتشوك، بعد 4 أشهر من استخدام الغاز نفسه ضد الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا، في اعتداء اتهمت لندن موسكو بالوقوف خلفه.
وقالت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، في الصباح الباكر أمس، إنها شعرت بـ«الذهول والصدمة» لوفاة دون ستورجيس، البالغة 44 عاماً، وهي أم لـ3 أبناء كانت تعيش في نزل للمشردين في مدينة سالزبري، في جنوب غربي بريطانيا.
ومرضت ستورجيس وتشارلي رولي (45 عاماً) في 30 يونيو (حزيران) الماضي في إيمزبري، البلدة الصغيرة في مدينة سالزبري، حيث تسمم الجاسوس الروسي سيرغي سكريبال وابنته يوليا في الرابع من مارس (آذار) الماضي، وقد تعافيا منذ ذلك الوقت.
ولم تستبعد الشرطة احتمال تعرض أشخاص آخرين للمادة السامة التي تشتبه في أنها من مخلفات محاولة قتل سكريبال وابنته، لكن دون أن تكون أكيدة. وعبر النائب جون غلين عن «قلق» المجتمع المحلي بعد أن فتحت الشرطة تحقيقاً في عملية قتل، رغم إعلان مسؤولي السلطات الصحية أن الخطر على السكان متدنٍ، كما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية. وأبلغ غلين راديو هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أن الزوجين ربما لامسا غرضاً ملوثاً بسبب «عادتهما في البحث بصناديق القمامة»، فيما تبحث الشرطة عن «كيف وصلا لغاز الأعصاب هذا، ومتى».
وأدى حادث سكريبال إلى أزمة دبلوماسية كبيرة، دفعت بريطانيا وحلفاءها إلى سحب موظفين دبلوماسيين من موسكو، فيما اتخذت روسيا خطوات مماثلة. ونوفيتشوك غاز أعصاب له استخدامات عسكرية، طوره الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة.
وأكدت الشرطة أن التحقيق يركز خصوصاً على إيجاد رابط بين إيمزبري وسالزبري. وتلقي لندن باللوم على روسيا في الهجوم على سكريبال، حيث اتهم وزير الداخلية ساجد جافيد موسكو، الخميس، باستخدام بريطانيا «مكباً للسم». وقال جافيد للبرلمان: «حان الوقت لكي تقدم الدولة الروسية تفسيراً لما حدث بالضبط»، وأضاف أنه «من غير المقبول بتاتاً أن يصبح شعبنا هدفاً، سواء متعمداً أو عرضياً، وأن تصبح شوارعنا وحدائقنا وبلداتنا مكبات للسم». إلا أن روسيا سارعت إلى الرد، واتهمت بريطانيا بممارسة «ألاعيب سياسية قذرة»، لكن جافيد استبعد في تصريحات صحافية أدلى بها من سالزبري، الأحد، أن تفرض لندن المزيد من العقوبات على موسكو، في انتظار نتائج التحقيق الجنائي.
وقال الكرملين، أمس، إنه من «السخيف جداً» الربط بين روسيا ووفاة المرأة البريطانية. وأوضح ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «لا نعرف أن روسيا تم ذكرها أو ربطها (بالحادث)... نعتبر أنه في كل الحالات، سيكون ذلك سخيفاً جداً».
وشددت السلطات الصحية على أن الخطر المحيط بالسكان في المنطقة قليل ومتدنٍ. وخضع شرطي تعامل مع الزوجين إثر الحادث لفحص للتأكد من عدم تعرضه لغاز الأعصاب، وأثبت الأطباء أنه سليم تماماً. كما توافد عدد من سكان المنطقة على مستشفى سالزبري، حيث خضع الزوجان، ومن قبلهما سكريبال وابنته، للكشف عن أعراض محتملة للتسمم. ولم يتعرض أي شخص آخر لغاز الأعصاب المميت.
وقالت كريستين بلانشارد، المديرة الطبية لمستشفى سالزبري للعلاج، لصحيفة «ديلي تيلغراف»، أمس، إن طاقم المستشفى «عملوا بلا كلل لإنقاذ دون»، وتابعت: «أعضاء طاقمنا ماهرون ومخلصون ومحترفون، وأعرف أنهم اليوم يتألمون». وقالت رئيسة الوزراء إن «الشرطة ومسؤولي الأمن يعملون بشكل عاجل للتوصل للحقائق المرتبطة بالحادث الذي يتم التحقيق فيه الآن كـ(جريمة) قتل».
كانت الشرطة قد أشارت في البداية إلى حادث مرتبط بالمخدرات، لكن نيل باسو، قائد قسم مكافحة الإرهاب البريطاني، أعلن مساء الأربعاء أن الزوجين تعرضا لمادة نوفيتشوك، وهو «غاز الأعصاب نفسه» الذي استخدم في حادث سكريبال. وقال باسو إن وفاة ستورجيس «لن تؤدي إلا إلى تعزيز عزمنا على التعرف على الشخص أو الأشخاص المسؤولين عما يمكن أن أسميه فقط عملاً فظيعاً متهوراً همجياً». وعبر رواد النزل الذي كانت تعيش فيه ستورجيس، والذي تم إخلاؤه بعد توعك الزوجان، عن صدمتهم لوفاة الزوجة الأربعينية.
وقال بين غوردان، البالغ 27 عاماً، لوكالة الصحافة الفرنسية، مساء الأحد: «كان من الممكن أي يحصل ذلك بسهولة لأي شخص، لي أو لشريكتي». ويعمل نحو 100 محقق في مكافحة الإرهاب حالياً، إلى جانب الشرطة، في التحقيق. كما يشاهد عناصر شرطة يرتدون المعدات الواقية في شوارع سالزبري الهادئة في التحقيقات، التي قالت الشرطة الجمعة إنها قد تستغرق «أسابيع وشهوراً».
وحتى الآن، لا توجد أدلة على أن الزوجين زارا أي من المواقع المرتبطة بقضية تسميم سكريبال. وقال باسو إن «المحققين سيستمرون في أداء عملهم المضني والدقيق لجمع كل الأدلة المتاحة، لكي نفهم كيف وصل المواطنون للتعرض لمثل هذه المادة القاتلة التي كلفت بشكل مأساوي حياتها». وافترضت الشرطة، في البداية، أنهما تناولا كمية ملوثة من المخدرات غير القانونية، إلا أن اختبارات جرت في مختبر تابع لوزارة الدفاع في «بورتون داون» أظهرت أنهما تعرضا لغاز نوفيتشوك. وقالت الشرطة، الأحد، إن «المحققين يعملون بسرعة وبأكثر جدية ممكنة للتعرف على مصدر التلوث، لكن لم يتم تحديد ذلك حتى الآن»، وتابعت: «ليس بقدرتنا القول ما إذا كان غاز الأعصاب قد جاء من المجموعة نفسها التي تعرض لها سكريبال وابنته».
وقد تلقى سكريبال (67 عاماً) وابنته يوليا (33 عاماً)، التي كانت تزوره قادمة من موسكو، العلاج لفترة طويلة قبل خروجهما من المستشفى، لكن التحقيق في الاعتداء المروع بحقهما مستمر دون أن يتم توقيف أي شخص على صلة به.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟