الصدفة اختارتني فلحقت بها

الصدفة اختارتني فلحقت بها
TT

الصدفة اختارتني فلحقت بها

الصدفة اختارتني فلحقت بها

لم تجتذبني يوماً أخبار المجتمع ووجوهه المعروفة، فمنذ أن عملت في الصحافة بأوائل الستينات في «دار الصياد»، كان شرطي عدم تكلفتي بتغطيتها. بالفعل، عملت في مجال السياسة والفن والثقافة والأدب، والتقيت شخصيات بارزة، حفر بعض منها في ذاكرتي، على الرغم من دخولي هذا العالم بالصدفة.
يقال «رب صدفة غيرت مجرى الحياة»، وهو بالفعل ما حصل معي في حياتي الإعلامية. كنت صحافية لا أكتب إلا قناعاتي، بحيث لا يمكن لأحد أن يفرض رأيه علي. وفي إحدى المرات، جاء زميل لي في الدار يطلب مني مساعدته في إجراء مقابلات لبرنامج تلفزيوني يعده، فقلت في نفسي: «بجرّب».
قمت بمهمتي، وأجريت مقابلات مع بعض الشباب اللبناني حول أحلامهم وطموحاتهم، معتقدة أن ما أقوم به مجرد اختبار لخبراتهم. عدت من «تلفزيون لبنان» يومها إلى منزلي، لتسارع والدتي وتقول لي: «ولو هيك بيطلعوا عالتلفزيون مع شعرك المنكوش وثيابك البسيطة؟»، عرفت عندها أنني كنت أقف أمام الكاميرا، وأدركت أن تناغماً حصل بيني وبينها، وانكسر الخوف. اعتدت عليها، وصارت صديقتي.
كرت السبحة، وعملت في برامج تلفزيونية ثقافية، وكنت أجري مقابلات ثقافية مع أدباء وكتاب ورسامين، لأنتقل بعدها إلى برنامج الهواة «استوديو الفن»؛ شكل علامة فارقة في حياتي المهنية. دخلته هو أيضاً بالصدفة. فعندما التقيت وأنا في مبنى «جريدة النهار»، حيث كنت أعمل، بسيمون أسمر، بادرني بالقول في لقاء ضيق في المصعد: «لديّ برنامج تلفزيوني فني جديد، فما رأيك لو دخلت هذه التجربة؟» أجبت بسرعة: «وهل تريدني أن أجري مقابلات مع فنانين؟ أنا لم أعتد على ذلك قبلاً!». وأذكر تماماً جوابه: «أنت صحافية يتملكك حب المعرفة، فستجدين طريقك بسرعة».
كنت أسير على الطريق وكأنني أحلق في الفضاء، فأمر مشاركتي في هذا البرنامج شكل «خبطة» في عالم التلفزيون اللبناني. الأنظار كانت تتوجه إليّ، فيستوقفني الناس ويطرحون عليّ الأسئلة تلو الأخرى، وأرد عليهم بلطف، فولدت بيني وبينهم علاقة جميلة بفضل البرنامج الشعبي فائق النجاح.
جميل أن تشعر بنجاحاتك المهنية؛ هي بمثابة مكافأة لجهدك، ولكنها أحياناً كانت تربكني وتقيدني، خصوصاً أن أسلوب الحياة البسيطة والطبيعية هي هوايتي.
بعد «استوديو الفن»، قدمت برنامج «لبنان الذاكرة واليوم»، فأجريت حوارات مع شخصيات بارزة حول التغييرات التي طالت المجالات بعد الحرب. فلقد سبق والتقيت بغالبيتهم قبل الحرب، فتعرفت إليهم من جديد من بعدها، ولاحظت آثارها الكبيرة التي تركتها علينا. أذكر من بين تلك الشخصيات الشاعر الراحل نزار قباني.
كان متشائماً حزيناً لبيروت وأوضاعها، فانتقدته: «لماذا كل هذا التشاؤم؟ أين هي بيروت ست الدنيا التي تتغنى بها؟ وهل تعتقد أنه في إمكانهم القضاء على ست الدنيا؟».
يسكنني لبنان من رأسي حتى أخمص قدمي، ولا سيما عاصمته بيروت، فأنا بيروتية الهوى، أعشق طرقاتها وبيوتها وأحياءها، ولا سيما أزقة الأشرفية التي تربيت فيها. أما بحرها، فهو صديقي المقرب. أذكر عندما عرضت عليّ سميرة الخاشقجي الانتقال معها إلى مصر هرباً من الحرب لإدارة مجلة «الشرقية»، كان شرطي الوحيد هو أن أزور لبنان كل 10 أيام. وافقت هي، وتمسكت بشرطي على الرغم من أنه تطلب مني أحياناً زيارة بلدي على متن باخرة أو طائرة أو بالبر بسبب الحرب.
مع الأسف، لم تتقدم بيروت مع الأيام، فالأوفياء لها باتوا قلة.
لم أكن من الإعلاميات اللاتي يشغلن حدسهن للحكم على نجم أو سياسي أو موقف معين. فالبحث والتدقيق وطرح أسئلة كثيرة أستنبش بها ما ورائيات الحدث والشخصية كانت طريقي الوحيد. تفاجأت بقدرات تعرفت على أصحابها بالصدفة، كماجدة الرومي تلك الفتاة الصغيرة التي دخلت الاستوديو بنعومة وخجل، لتطالعنا بصوتها القوي الذي قلب أجواء الاستوديو رأساً على عقب، فكبرت قلوبنا، وافتخرنا فيها جميعاً.
أطرف الشخصيات التي التقيتها في مشواري الإعلامي الراحل العميد ريمون إده. كان يتمتع بخفة ظل لافتة، يتحدث معي، يقفز إلى مكتبته ويسحب منها قصاصة صحيفة ليؤكد لي ما يقوله، ولينتقل بعدها إلى حديث وراء الآخر بشكل لا يمل منه. حتى السياسة تغيرت مفاهيمها اليوم، فالجميع يريد حصته من البلاد بأكملها وكأنه ورثها أباً عن جد.
التطور يمشي ويمارس على جميع الأصعدة، على الإعلام والثقافة والفن والتواصل مع الآخر، وعلى سيرة التواصل، فأنا من الأشخاص الذين لا يحبون وسائل التواصل الاجتماعي، فأغمض عيني عندما أمر بقرب جهاز الكومبيوتر خوفاً من إشعاعاته الخطرة، وحفاظاً على ذاكرتي.
لا أثق بأخبار الشبكة العنكبوتية، وما زلت أفضل عليها المرجعية الأصلية، لأن أياً كان يمكنه أن يزودنا بأخبار مغلوطة، وباستطاعته تمريرها عبر هذه الشبكة. أما نصيحتي لإعلاميي اليوم، فهي ألا يخافوا من قول الحقيقة، فهي وحدها كفيلة ببناء وطن. أملّ اليوم من مشاهدة التلفاز، فلا مواضيع تجذبني فيه غير السياسية.
قد لا يكتفي الإنسان من حبه للحياة، ولكن يأتي اليوم الذي يجب أن يلزم حدوده، فالوقت مدرسة بحد ذاته لا يجب تفويت أي حصة منه.

* إعلامية لبنانية


مقالات ذات صلة

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
إعلام الدوسري أكد أهمية توظيف العمل الإعلامي لدعم القضية الفلسطينية (واس)

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

أكّد سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي أهمية توظيف العمل الإعلامي العربي لدعم قضية فلسطين، والتكاتف لإبراز مخرجات «القمة العربية والإسلامية» في الرياض.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
المشرق العربي الهواتف الجوالة مصدر معلومات بعيداً عن الرقابة الرسمية (تعبيرية - أ.ف.ب)

شاشة الجوال مصدر حصول السوريين على أخبار المعارك الجارية؟

شكلت مواقع «السوشيال ميديا» والقنوات الفضائية العربية والأجنبية، مصدراً سريعاً لسكان مناطق نفوذ الحكومة السورية لمعرفة تطورات الأحداث.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي جنود إسرائيليون يقودون مركباتهم في منطقة قريبة من الحدود الإسرائيلية اللبنانية كما شوهد من شمال إسرائيل الأربعاء 27 نوفمبر 2024 (أ.ب)

إصابة مصورَين صحافيَين بنيران إسرائيلية في جنوب لبنان

أصيب مصوران صحافيان بجروح بعد إطلاق جنود إسرائيليين النار عليهما في جنوب لبنان اليوم الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

تساؤلات بشأن دور التلفزيون في «استعادة الثقة» بالأخبار

شعار «غوغل» (رويترز)
شعار «غوغل» (رويترز)
TT

تساؤلات بشأن دور التلفزيون في «استعادة الثقة» بالأخبار

شعار «غوغل» (رويترز)
شعار «غوغل» (رويترز)

أثارت نتائج دراسة حديثة تساؤلات عدة بشأن دور التلفزيون في استعادة الثقة بالأخبار، وبينما أكد خبراء وجود تراجع للثقة في الإعلام بشكل عام، فإنهم اختلفوا حول الأسباب.

الدراسة، التي نشرها معهد «نيمان لاب» المتخصص في دراسات الإعلام مطلع الشهر الحالي، أشارت إلى أن «الثقة في الأخبار انخفضت بشكل أكبر في البلدان التي انخفضت فيها متابعة الأخبار التلفزيونية، وكذلك في البلدان التي يتجه فيها مزيد من الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار».

لم تتمكَّن الدراسة، التي حلَّلت بيانات في 46 دولة، من تحديد السبب الرئيس في «تراجع الثقة»... وهل كان العزوف عن التلفزيون تحديداً أم الاتجاه إلى منصات التواصل الاجتماعي؟ إلا أنها ذكرت أن «الرابط بين استخدام وسائل الإعلام والثقة واضح، لكن من الصعب استخدام البيانات لتحديد التغييرات التي تحدث أولاً، وهل يؤدي انخفاض الثقة إلى دفع الناس إلى تغيير طريقة استخدامهم لوسائل الإعلام، أم أن تغيير عادات استخدام ومتابعة وسائل الإعلام يؤدي إلى انخفاض الثقة».

ومن ثم، رجّحت الدراسة أن يكون سبب تراجع الثقة «مزيجاً من الاثنين معاً: العزوف عن التلفزيون، والاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي».

مهران كيالي، الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا» في دولة الإمارات العربية المتحدة، يتفق جزئياً مع نتائج الدراسة، إذ أوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «التلفزيون أصبح في ذيل مصادر الأخبار؛ بسبب طول عملية إنتاج الأخبار وتدقيقها، مقارنة بسرعة مواقع التواصل الاجتماعي وقدرتها على الوصول إلى شرائح متعددة من المتابعين».

وأضاف أن «عدد المحطات التلفزيونية، مهما ازداد، لا يستطيع منافسة الأعداد الهائلة التي تقوم بصناعة ونشر الأخبار في الفضاء الرقمي، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي». إلا أنه شدَّد في الوقت نفسه على أن «الصدقية هي العامل الأساسي الذي يبقي القنوات التلفزيونية على قيد الحياة».

كيالي أعرب عن اعتقاده بأن السبب الرئيس في تراجع الثقة يرجع إلى «زيادة الاعتماد على السوشيال ميديا بشكل أكبر من تراجع متابعة التلفزيون». وقال إن ذلك يرجع لأسباب عدة من بينها «غياب الموثوقية والصدقية عن غالبية الناشرين على السوشيال ميديا الذين يسعون إلى زيادة المتابعين والتفاعل من دون التركيز على التدقيق». وأردف: «كثير من المحطات التلفزيونية أصبحت تأتي بأخبارها عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فتقع بدورها في فخ الصدقية والموثوقية، ناهيك عن صعوبة الوصول إلى التلفزيون وإيجاد الوقت لمشاهدته في الوقت الحالي مقارنة بمواقع التواصل التي باتت في متناول كل إنسان».

وحمَّل كيالي، الهيئات التنظيمية للإعلام مسؤولية استعادة الثقة، قائلاً إن «دور الهيئات هو متابعة ورصد كل الجهات الإعلامية وتنظيمها ضمن قوانين وأطر محددة... وثمة ضرورة لأن تُغيِّر وسائل الإعلام من طريقة عملها وخططها بما يتناسب مع الواقع الحالي».

بالتوازي، أشارت دراسات عدة إلى تراجع الثقة بالإعلام، وقال معهد «رويترز لدراسات الصحافة»، التابع لجامعة أكسفورد البريطانية في أحد تقاريره، إن «معدلات الثقة في الأخبار تراجعت خلال العقود الأخيرة في أجزاء متعددة من العالم». وعلّق خالد البرماوي، الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، من جهته بأن نتائج الدراسة «غير مفاجئة»، لكنه في الوقت نفسه أشار إلى السؤال «الشائك»، وهو: هل كان عزوف الجمهور عن التلفزيون، السبب في تراجع الصدقية، أم أن تراجع صدقية الإعلام التلفزيوني دفع الجمهور إلى منصات التواصل الاجتماعي؟

البرماوي رأى في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «تخلّي التلفزيون عن كثير من المعايير المهنية ومعاناته من أزمات اقتصادية، دفعا الجمهور للابتعاد عنه؛ بحثاً عن مصادر بديلة، ووجد الجمهور ضالته في منصات التواصل الاجتماعي». وتابع أن «تراجع الثقة في الإعلام أصبح إشكاليةً واضحةً منذ مدة، وإحدى الأزمات التي تواجه الإعلام... لا سيما مع انتشار الأخبار الزائفة والمضلّلة على منصات التواصل الاجتماعي».