أحمد رشيد: التصدي لقضايا الفساد وتحسين العلاقات مع دول الجوار أولويات رئيس الأفغان المقبل

الصحافي الباكستاني المتخصص أكد أن عبد الله الأجدر على تحقيق التوافق بين الأقليات من أجل التوصل لاتفاق السلام مع حركة طالبان

المؤلف والصحافي الباكستاني أحمد رشيد
المؤلف والصحافي الباكستاني أحمد رشيد
TT

أحمد رشيد: التصدي لقضايا الفساد وتحسين العلاقات مع دول الجوار أولويات رئيس الأفغان المقبل

المؤلف والصحافي الباكستاني أحمد رشيد
المؤلف والصحافي الباكستاني أحمد رشيد

أجرت «الشرق الأوسط» حديثا مع المؤلف والصحافي الباكستاني أحمد رشيد الذي يقوم بتغطية المسائل المتعلقة بباكستان وأفغانستان ووسط آسيا لأكثر من ثلاثة عقود. وقد كان موجودا في كابل عام 1978 أثناء الانقلاب الذي بموجبه تولى الشيوعيون زمام السلطة، وفي العام التالي كان موجودا في مدينة قندهار عندما دخلت القوات الروسية بكثرة. وكان من بين مؤلفاته كتاب «طالبان: الإسلام المتشدد، النفط والأصولية في آسيا الوسطى»، الذي نُشر قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) مباشرة، ويشتهر بما فيه من تفاصيل مستقاة من المصدر الأساسي وما يقدمه من معرفة منقطعة النظير عن المنطقة.
وناقش أحمد رشيد حالة الجمود الانتخابي في أفغانستان، والفرص المتاحة لدى كل مرشح لتوحيد الجماعات العرقية المختلفة حول مشروع وطني واحد، ووضع محادثات السلام بين الحكومة وطالبان، والعلاقة الغامضة عادة ما بين الجماعات المسلحة في باكستان والسلطات الباكستانية. وجاء الحوار معه على النحو التالي:
* ادعت حملة المرشح الرئاسي عبد الله عبد الله أن هناك أعمال تزوير واسعة النطاق وأن كرزاي وأتباعه هم وراء علميات التزوير هذه. هل تصدق هذه الادعاءات؟
- من الصعب للغاية معرفة هذا الأمر في الوقت الراهن، ولكن من الواضح أن المرشح الرئاسي عبد الله الذي كان قد انسحب من الانتخابات الرئاسية في عام 2009 لن يتسامح مع أعمال التزوير مجددا، فهذه هي المرة الثانية بالنسبة له التي واجه فيها احتمالية حدوث أعمال تزوير واسعة النطاق، وهو في طريقه للنضال مرة أخرى. وأعتقد أن هذا الأمر تسبب في وقوع أزمة كبيرة في أفغانستان. وبالطبع طغت الأحداث التي تشهدها كل من العراق وسوريا وكذلك أحداث أخرى على الأزمة التي تشهدها أفغانستان، ولكن ما يحدث في أفغانستان من الممكن أن يسفر عن اندلاع حرب أهلية بين أنصار طرفي النزاع عبد الله وأشرف غني.
وللأسف، يعود جزء من المشكلة إلى الرئيس كرزاي، ففي البداية كان يبدو أنه يقف في صف عبد الله، ويبدو أنه أعطاه بعض الضمانات قبيل الانتخابات بأنه في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية، فإن كرزاي سيستمر في دعم توليه للرئاسة. والآن يبدو أن كرزاي قد انتقل إلى دعم أشرف غني. وبالتالي على ما يبدو فإنه في حال وقوع أعمال تزوير، فإن هذا التزوير سيكون نُفذ من جانب أجهزة الدولة التابعة للرئيس كرزاي. وإذا كان التزوير لصالح أشرف غني، فهذا من شأنه أن يوضح أن كرزاي يؤيد أشرف غني وليس عبد الله، وبالطبع، هذا الأمر من شأنه أن يقوض من مبادئ إجراء انتخابات حرة ونزيهة.
* ما الذي تتوقعه بشأن عبد الله أو حتى أشرف غني؟ ما الذي بإمكانهما تقديمه للدولة الأفغانية في حال تولي أي منهما الرئاسة والذي لم يستطع كرزاي تقديمه؟
- أعتقد أن كلا منهما بمقدوره القيام بهذا الدور بشكل كفء، فكلاهما متعلم ويتمتع بشخصية معاصرة، كما يؤمن كل منهما ببناء الأمة وبناء الدولة. فهما يرغبان في التأكيد على كل الأمور التي حدثت على نحو خاطئ في العقد الماضي، ويريدان التصدي لقضايا مثل الفساد والمخدرات، والتي عادت بالضرر على أفغانستان. كما أنهما يطمحان في تحسين العلاقات مع الدول المجاورة لهما. لم يكن هناك شيء خطأ في أجندتهما على الإطلاق.
ولكن تكمن المشكلة هنا أنه عندما يتولى أي منهما الرئاسة، سوف تدور الأجندة الحقيقية–للأسف–حول العرقية، فهل إذا تولى عبد الله أو أشرف غني بزمام السلطة، سيكون بمقدورهما تحقيق التوازن بين كل الجماعات العرقية داخل الحكومة ومؤسسة الرئاسة التابعة لهما؟
* عبد الله له أصول من الطاجيك والبشتون. فهل تعتقد أن يساعد هذا الأمر في المفاوضات مع حركة طالبان، وأن يكون له دور في نظرة طالبان له؟ أم أن حركة طالبان لن تثق به على الإطلاق لكونه كان يعمل مستشارا لقائد تحالف الشمال في أفغانستان أحمد مسعود؟
- حتى الآن أوضحت دول أمثال باكستان–التي تعد أحد المؤيدين لحركة طالبان الأفغانية–أن عبد الله، الذي يُنظر إليه باعتباره ينتمي إلى الطاجيك لأنه قاتل مع الطاجيك في الحرب الأهلية ضد حركة طالبان، بمقدوره أن يلعب دور الوسيط من أجل تحقيق السلام، وعلى الأرجح أنه سيكون أفضل من أشرف غني في هذا الصدد، لأنه يستطيع أن يجمع كل الأقليات الأخرى غير البشتون، أمثال الهزارة، والتركمان، والأوزبك، والطاجيك، إلخ؛ فهناك حاجة لتحقيق التوافق بين تلك الأقليات من أجل التوصل لاتفاق السلام مع حركة طالبان.
ويمكن أيضا لأشرف أن يقوم بالأمر ذاته، ولكنه لا يحظى بالقبول من جانب الكثير، ويتعين النظر في مسألة ما إذا كان هو الشخص المناسب الذي بإمكانه التوسط في اتفاق معقد ومتعدد الأعراق كهذا.
* يبدو أن حركة طالبان في أفغانستان تنقسم ما بين هؤلاء القادة الذين يؤيدون المحادثات المباشرة مع الحكومة، وهؤلاء الذين يعارضون ذلك. فهل لا يزال الملا عمر، بحكم الأمر الواقع، القائد الرئيس وهل هو صاحب الكلمة الأخيرة في عملية السلام؟
- قبل كل شيء أعتقد أن استمرار وجود قيادة مركزية لحركة طالبان في أفغانستان، يعد أمرا إيجابيا للغاية. فبالنظر إلى حركة طالبان في باكستان، نجد أننا لدينا أربعون جماعة، ولا تقبل أي جماعة بقيادة الجماعات الأخرى، ولذا فمن المجدي بالنسبة للمفاوضات أن تكون هناك قيادة مركزية. وأعتقد الآن أنه في الوقت الراهن، تعد القيادة منقسمة، ويوجد جدال طويل بشأن السلام أو الحرب، حيث نجد جماعة ضغط من أجل السلام داخل حركة طالبان، وتعمل هذه الجماعة بالفعل بمساعدة الولايات المتحدة منذ عامين مضت، وأعتقد أن هذه الجماعة تحظى جزئيا بتأييد الملا عمر، نظرا لأنه لم يكن من الممكن لهذه المحادثات أن تُجرى لو لم تحظ بتأييد الملا عمر.
ولكن هناك أيضا جماعة ضغط متشددة، والتي ترى أنه يتعين علينا غزو كابل وهزيمة الحكومة والاستيلاء على السلطة، وكل ما تبقى منها، وأعتقد أن النقاش ما زال مستمرا، ولكننا لن نفهم النتائج المتمخضة عن هذا الجدال أو ما الذي تريده طالبان بالفعل لحين تسوية الأزمة في كابل، وإلى أن يكون هناك رئيس في كابل يمسك بزمام السلطة ويحظى بقبول الشعب.
* عقب مرور أكثر من عقد من الزمان على التدخل في أفغانستان بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ما المزايا الأساسية للوجود الدولي في أفغانستان؟
- أعتقد أن المزايا الأساسية الحقيقية تكمن في الخدمات الاجتماعية وتوفير الخدمات للشعب، وهو الأمر الذي لم يحدث على الإطلاق في تاريخ أفغانستان، فحتى في الثمانينات، كانت تحرص الحكومة الشيوعية بالأساس على تقديم الخدمات والبضائع إلى النخبة الحضرية، ولم تعمل قط على توفير تلك الخدمات إلى المناطق الريفية. وأعتقد أن توفير البضائع والخدمات يعد بمثابة أمرا في غاية الأهمية، وتزايدت تطلعات الشعب الأفغاني إلى حد كبير لأن يستمر ذلك الأمر في ظل الحكومة الجديدة ومن دون مساعدة الأميركان.
* هناك الكثير من الأقاويل حول العلاقة بين حركة طالبان الأفغانية ومديرية استخبارات الباكستانية. هل تغيرت طبيعة تلك العلاقة مع انسحاب القوات التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) من أفغانستان؟
- أعتقد أن العلاقة بينهما تغيرت في وقت سابق؛ ففي وقت من الأوقات في مطلع 2003–2004، كانت باكستان تدعم حركة طالبان عسكريا، ولا أعتقد أن هذا هو الحال الآن؛ فبالتأكيد من المسموح لهم اعتبار باكستان بمثابة الملاذ بالنسبة لهم؛ فالقيادة التابعة لهم توجد هناك، ولكنني لا أعتقد أن جهاز الاستخبارات الباكستاني (ISI) أو الجيش الباكستاني يدعهم عسكريا مثلما كان عليه الحال من قبل. أرى أن هناك تغييرا كبيرا.
ثانيا، باكستان حريصة للغاية على إجراء تسوية من خلال التفاوض ما بين كابل وحركة طالبان، وقد ساعدت في هذا الأمر من قبل، ولا سيما في المحادثات التي جرت مع الولايات المتحدة في عامي 2011 و2012، وأعتقد أن باكستان تود تدشين مثل تلك المحادثات مجددا مع الحكومة الجديدة.
* ما تعليقكم على ما ورد في كتاب صدر أخيرا للصحافية البريطانية كارلوتا غال، والمعنون «العدو الخطأ»، ووجود أدلة كثيرة على الاتهام الراسخ والقديم الموجه ضد جهاز الاستخبارات الباكستاني بأنه يدعم حركة طالبان الأفغانية؟
- حقا، ليس لدي إجابة عن هذا السؤال. إنها تؤكد ذلك الأمر على نحو مثير للاهتمام، ولكنني لا أعتقد أن أحدا يعرف الإجابة عن هذا السؤال، ولكنها لم توضح المصادر التي حصلت منها على تلك المعلومات، فما المصادر التي أتت منها بهذه المعلومات؟ فهل حصلت على تلك المعلومات من مصادر داخل جهاز الاستخبارات الباكستاني؟ وإذا كانت مصادر معلوماتها من الأفغان، فإنني في هذه الحالة، لا أثق حقا في هذه المعلومات، ولذا أعتقد أنه لا توجد إجابة عن هذا التساؤل حتى الآن.
* يعد مولانا عبد العزيز، الإمام السابق لمسجد الأحمر، نشطا للغاية مجددا. هل يمكنك تفسير سر هذا الغموض أو حتى تفسير السبب وراء تسامح السلطات الباكستانية عند تعاملها مع الميليشيات الإسلامية وانتشار الأفكار المتطرفة؟
- للأسف، هذه السياسة استمرت على مدى الأربعين عاما الماضية؛ حيث اعتادت الميليشيات الباكستانية التدخل في أجندة السياسة الخارجية الباكستانية في الهند، وكشمير، وأفغانستان، ووسط آسيا. وأتمنى أن تنتهي هذه الفترة، وأن يتفهم الجيش الباكستاني وكذلك جهاز الاستخبارات الباكستاني حجم الخسارة، وكذلك التأثير السلبي لمثل هذا النوع من الحرب بالوكالة على الوضع الداخلي في باكستان، وبالفعل فإننا نرى النمو الهائل لحركة طالبان في باكستان، والتأثير السلبي لذلك على صورة باكستان أمام العالم وكذلك على الدول المجاورة لها.
لم تنته هذه السياسة بعد، ولكن آمل أن تكون هناك سياسات أكثر منطقية وعقلانية لا تعتمد على اللجوء إلى استخدام المتطرفين.
* فيما يتعلق بالدول المجاورة لباكستان، باعتقادك كيف يمكن لرئيس الوزراء الهندي الجديد تغيير ديناميكيات العلاقة مع باكستان؟
- يعد هذا أمرا سابقا لأوانه للغاية، ولكن كل المؤشرات تعد إيجابية للغاية، فقد ذهب نواز شريف لحضور حفل تنصيب رئيس الوزراء الهندي في دلهي، وتبادلا الرسائل بعضهما البعض، ولكن لم يحدث شيء بالفعل على أرض الواقع، فالهنود يريدون اتخاذ إجراءات ضد السبعة أشخاص المتهمين بتنظيم المذبحة التي وقعت في مومباي عام 2007، والباكستانيون يريدون استئناف المحادثات بشأن كشمير والقضايا الأخرى. وفي الحقيقة لم يحدث أي من تلك الأمور. وفي الحقيقة، فإن مجرد تبادل الرسائل والعلاقات الودودة بينهما لا يعد كافيا، فإننا بحاجة إلى أكثر من ذلك.



كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام