أكثر من مليون زائر لأم الأعياد الشعبية الإسبانية

في السادس من يوليو (تموز) من كل عام تتحوّل مدينة بامبلونا الهادئة في مقاطعة نافارّا إلى بحر مائج من البشر يتدفقون في أزقتها الضيّقة أمام الثيران الهائجة، لا يحميهم من قرونها الحادة واندفاعها كالسيل الجارف سوى تلك الرغبة الدفينة التي تدفع الإنسان إلى الوقوف عند شفا الهاوية وملامسة الخطر. إنها بداية احتفالات «سان فرمين» الذائعة الصيت التي يرجّح مؤرخون أنها تعود إلى القرن الثالث عشر، والتي تعتبر «أم الأعياد» الشعبية في إسبانيا.
أكثر من مليون زائر يتوافدون في مثل هذه الأيام من كل أنحاء العالم إلى المدينة التي لا يزيد عدد سكانها عن 200 ألف؛ ينتشرون في الشوارع والساحات والحدائق وعلى الشرفات، يترقّبون اندفاع آلاف الشبّان أمام 6 ثيران باتجاه حلبة المصارعة، حيث يتوزّعون في رحابها، ويواصلون التحدّيات التي غالباً ما تسفر عن وقوع الجرحى... والقتلى أحياناً. سيلٌ من القمصان والسراويل البيضاء والمحارم الحمر يجري في عروق المدينة التي تتورّم بالفوضى والهذيان، لا تعرف حدوداً، ولا تخضع لضوابط في عرس عبثي يتجدد كل عام. تبلغ المسافة الفاصلة بين نقطة الانطلاق ومدخل الحلبة 875 متراً، لا يستغرق اجتيازها أكثر من 3 دقائق، يعود الهدوء بعدها إلى المدينة التي تباشر الاستعداد لصخب الاحتفالات التي تصل الليل بالنهار، والنهار بالليل، طوال ثمانية أيام، يُقال إنها تساوي ثمانية أعمار.
أصحاب المنازل المطلّة على الأزقة التي تتدافع فيها الجماهير أمام الثيران يؤجرون شرفاتهم بمبلغ قدره 150 دولاراً يومياً للشخص الواحد، بينما يصل سعر الغرفة إلى 1200 دولار في الفنادق الفخمة، مثل فندق «اللؤلؤة» الذي كان يرتاده الروائي الأميركي أرنست همنغواي الذي خلّد مدينة بامبلونا وأعيادها في روايته المهمة الأولى «وأشرقت الشمس» التي وضعها عام 1926 بعد زيارته الثالثة لحضور أعياد «سان فرمين». وكان همنغواي قد زار المدينة للمرة الأولى عام 1923 عندما انتقل من باريس إلى إسبانيا بحثاً عن الإلهام والمغامرات التي كانت محرّكه الأول، ثم راح يتردد عليها كل عام مع زوجتيه وأصدقائه، وتعرّف على عدد من مصارعي الثيران، وشارك في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب الجمهوريين. وبقي يتردد طوال سنوات على بامبلونا، حتى بعد نهاية الحرب الأهلية التي خسرها الجمهوريون، وكانت آخر زيارة مقررة له عام 1961، لكنه اتصل بالفندق لإلغاء حجزه عندما تدهورت صحته فجأة وتوفي مطلع شهر يوليو (تمّوز) من ذلك العام.
لكن منذ العام الماضي تخيّم على أعياد «سان فرمين» ظلال حادثة وقعت خلال احتفالات العام 2016 عندما أقدمت مجموعة من الشبّان على اغتصاب فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، وبعد محاكمتهم إثر الدعوى التي رفعتها الفتاة أصدرت المحكمة قراراً بإخلاء سبيلهم بكفالة، مما أثار موجة عارمة من الاحتجاجات، وسلّط الأضواء على التجاوزات التي تشهدها هذه الأعياد ولا يُكشف عنها. يُضاف إلى ذلك أن الحركات المدافعة عن حقوق الحيوان التي تدعو إلى إلغاء حفلات مصارعة الثيران قد نشطت كثيراً في السنوات الأخيرة، وتمكنّت من دفع بعض الحكومات الإقليمية إلى استصدار قوانين بمنعها. وقد ألمحت رئيسة بلدية بامبلونا منذ أيام إلى أنها قد تنظر في إمكانية إلغاء حفلات المصارعة التي تجري بعد الظهر خلال الأعياد، أما انطلاق الثيران في الشوارع فهو ليس موضع نظر».
ورغم ذلك ما زال السيّاح يتدفقون على بامبلونا لمشاهدة «أكبر عيد في العالم» كما وصفه همنغواي، يتقدمهم مئات الأثرياء الصينيين والروس، والأميركيين الذين يحلمون بالسير في خطى صاحب «العجوز والبحر».