إعلام «داعش» يتهاوى وسط محاولات الإنقاذ

يبحث عن «مناصرين» رغم رداءة الفيديوهات وسقطات الترجمة

إعلام «داعش» يتهاوى وسط محاولات الإنقاذ
TT

إعلام «داعش» يتهاوى وسط محاولات الإنقاذ

إعلام «داعش» يتهاوى وسط محاولات الإنقاذ

قال باحثون مصريون، إن آلية تنظيم داعش الإعلامية باتت تتهاوى؛ بسبب هزائم التنظيم في سوريا والعراق طوال الأشهر الماضية، وإن هذا التهاوي ظهر في انخفاض المحتوى الذي يبثه التنظيم، ورداءة الفيديوهات والصور؛ لكن هناك محاولات إنقاذ من «داعش» لعودة منصاته الإعلامية لسابق عهدها وقت ظهور التنظيم في عام 2014.
وكشفت دراسة مطولة أعدها مرصد الأزهر لمكافحة التطرف في العاصمة المصرية القاهرة، عن أنه مع مطلع العام الحالي بدأ تنظيم داعش المتطرف في إعادة بناء صفوف منظومته الإعلامية، وبالفعل ظهرت علامات انتعاشة طفيفة فيها؛ فأعاد بناء معظم مواقعه الإلكترونية، ومؤسساته الدعائية، وبخاصة في أفغانستان وباكستان، وشرع في إصدار منتجات أكثر تحديثاً وأفضل جودة؛ لكن لا يعني هذا الانتعاش عودة وسائل الإعلام الداعشية إلى قوتها السابقة التي كانت في 2014 و2015. كذلك كشفت أيضاً، عن أن المستهدف الأول لـ«آلة داعش الإعلامية» هم الشباب، في محاولة لاستقطابهم للصفوف القتالية، أما المستهدف الثاني فهم عامة الجمهور ممن يهدف التنظيم إلى إثارة شعور واسع النطاق بالخوف وانعدام الأمن لديهم.
الدكتور محمد عبد الفضيل، المشرف على مرصد الأزهر، قال لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معه، إن «داعش» يبذل جهوداً من أجل استعادة نفوذه ونشاطه مرة أخرى على الساحة الإعلامية، وإن كان ذلك عبر إمكانات متواضعة، بالمقارنة بفترة «الوهج الإعلامي» الذي صاحب ظهور وصعود التنظيم بداية من 2014.

رسالة البغدادي
أصداء كلمات زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي حول أهمية سلاح الإعلام ما زالت تؤتي ثمارها بين عناصر التنظيم، الذي لعب منذ بداية ظهوره حتى يومنا هذا على ورقة الإعلام، واتخذه طريقاً لتحقيق مآربه غير المشروعة. ووفق الباحثين في مرصد الأزهر، فإن «بداية العمل البحثي في الدراسة كان منصبّاً على ضرورة معرفة العلاقة بين (داعش) والإعلام، ومدى تأثير الأخير في إقناع المقاتلين بالانضمام إلى التنظيم الدموي... ونقصد بالإعلام، تلك الترسانة الإعلامية الضخمة والمُنظمة التي فوجئ العالم بأن الدواعش يمتلكونها. لأن (داعش) لم يشبه منذ ظهوره نظراءه من التنظيمات الإرهابية التي سبقته؛ بل أخذ منحى آخر بداية من طرق القتل المتوحشة والاغتصاب والانتهاكات غير الآدمية، وصولاً إلى تفرده بترسانة إعلامية ضخمة ومنظمة نجحت في استقطاب المقاتلين من الشرق والغرب على السواء؛ ما جعل هذا التنظيم الإرهابي الأول، على مدار التاريخ، الذي اتخذ من التسويق سلاحه الأقوى، ومن الأعلام السوداء والسجناء ذوي الرداء البرتقالي علامة تجارية معروفة تظهر في المقاطع المصورة التي ينتجها التنظيم».

ترنح المنصات
ولفتت الدراسة أيضاً إلى أن «داعش» منذ ظهوره اعتمد على إنتاج مقاطع فيديو عالية الجودة ومواكبة لأحدث التقنيات الإعلامية العالمية، إضافة إلى طباعته عدداً من المجلات، ونجاحه في اختراق مواقع التواصل الاجتماعي واتخاذها نافذة للوصول إلى أكبر عدد ممكن من مستخدمي هذه المواقع. إلا أن الشبكة الإعلامية «الداعشية» ترنحت الآن، وطرأ على المحتوى الذي تنشره عدد من المتغيرات، منها انخفاض كبير في حجم المحتوى المنشور، ورداءة جودة الفيديوهات والصور، وغلبة النغمة الدفاعية على الإصدارات الأخيرة، وتأخر التنظيم في إصدار البيانات التي يتبنى فيها مسؤوليته عن الهجمات التي يُنفذها، والمبالغة في الأسلوب، فضلاً عن سقطات الترجمة من العربية للغات الأجنبية.
من جهته، قال عبد الفضيل، رغم تهاوي إعلام «داعش» فالتنظيم مستمر في توجيه دعوات الانضمام إليه، حتى لو جاء هذا الانضمام في صورة «مناصرين» على المواقع الإلكترونية، أو قيام أحد هؤلاء «المناصرين» بعملية إرهابية في دولته، وليس الهجرة لـ«داعش». لافتاً إلى أن الحملات العسكرية المكثفة التي شنّها التحالف الدولي ضد التنظيم أدت إلى انخفاض تواجده الإعلامي، ومقتل قياداته الإعلامية. وذكرت تقارير دولية، أن القضاء على شخصيات إعلامية لـ«داعش» كان ضربة قاسمة لترسانته الإعلامية، وفشل التنظيم حتى الآن في العثور على شخصيات يمكن أن تحل محل تلك القيادات.

إعلاميو التنظيم
عددت الدراسة أبرز قادة الإعلام في «داعش»، يتقدمهم أبو محمد العدناني، المتحدث الرسمي للتنظيم، الذي أسند إليه مسؤولية الإشراف على العمليات الأهم التي نفذها التنظيم خارج مناطق وجوده في العراق وسوريا، ولا سيما هجمات تركيا وأوروبا. وقتل العدناني في أغسطس (آب) 2016 جراء هجمة جوية شنتها قوات التحالف الدولي بإحدى المعارك في حلب.
وهناك وائل عادل حسن، المعروف بـ«أبو محمد الفرقان»، وشغل منصب وزير الإعلام بالتنظيم بعد مقتل العدناني، وأسندت إليه مسؤولية إخراج المواد الدعائية، مثل عمليات الإعدام التي كان ينفذها التنظيم في حق ضحاياه، وقتل في سبتمبر (أيلول) 2016 في غارة جوية قرب مدينة الرقة. وكذلك أحمد أبو سمرة، ويعرف باسم «أبو سليمان الشامي»، وكان مسؤولاً عن الأفلام الوثائقية وإخراج الفيديوهات، وعن نشاط «داعش» على مواقع التواصل الاجتماعي، وقتل في يناير (كانون الثاني) 2017.
وقال الدكتور كمال بريقع، المشرف على وحدة رصد اللغة الإنجليزية في مرصد الأزهر، لـ«الشرق الأوسط»، إن «المكافحة الإلكترونية التي شنتها إدارات مواقع (فيسبوك) و(تويتر) و(يوتيوب) قلصت آلية الدواعش الإعلامية، فقد عمل التنظيم منذ ظهوره على توظيف مواقع التواصل الاجتماعي لدعم انتشاره إعلامياً، من خلال نشر مقاطع الفيديو الخاصة به على حسابات أعضائه ومؤيديه، غير أن فقدان التنظيم قدرته على إنتاج مواد إعلامية جديدة خلال الفترة الماضية، ساهم في تراجع تداول مواد التنظيم الإعلامية على هذه المواقع».
وعلق «تويتر» 125 ألف حساب أغلبها تابع لـ«داعش» مطلع 2016، وبعد 6 أشهر علق 235 ألف حساب آخر... وأعلن «يوتيوب» استخدام تقنية «إعادة التوجيه» بحيث تقوم على توجيه أي شخص يبحث عن مقاطع فيديو ذات محتوى متطرف إلى مقاطع الفيديو التي تواجه المتطرفين ولديها رسالة مضادة.
وأضاف بريقع، إن «الشخصيات الإعلامية الداعشية التي نجت من القتال اضطرت إلى الفرار والتخفي بتغيير أماكن تواجدها، واللجوء إلى الاختباء في أماكن منعزلة تنعدم فيها وسائل الاتصال، وهو أمر يختلف عما كانوا يتمتعون به سابقاً». وبحسب تقارير دولية، فإن تنظيم داعش الإرهابي أنتج في سبتمبر 2017 ثلث ما أنتجه في أغسطس 2015.
ويرى مراقبون أن «بعض وسائل التواصل الاجتماعي تحولت إلى آليات استغلتها التنظيمات الإرهابية من أجل التواصل مع (الإرهابيين) والمتعاطفين، بشكل ساعد التنظيمات على استقطاب عدد كبير منهم، وتعويض خسائرها البشرية التي فرضها تعدد المواجهات التي انخرطت فيها داخل المناطق التي سيطرت عليها».

منصات «الدواعش»
أيضاً، تحدثت الدراسة عن منصات «داعش» الآن، وتمثلت في موقع «أخبار المسلمين، ووكالة أعماق الإخبارية، ومؤسسة الحياة للإنتاج، وجريدة النبأ الأسبوعية»، إضافة إلى مكاتب إعلامية محلية في سوريا والعراق وباقي الدول، تقوم بتوزيع مواد معظمها من وكالة «أعماق» وموقع «أخبار المسلمين».
و«أعماق» تُعد الوكالة المركزية للتنظيم، وتمتلك موقعاً على الشبكة الإلكترونية اختفى فترة، ثم عاد إلى الظهور خلال 2015 و2016، وشهدت منذ ديسمبر (كانون الأول) 2017 وحتى فبراير (شباط) من العام الحالي تحسناً ملحوظاً، ظهر من خلال زيادة حجم إعلاناتها؛ لكنها تواجه الآن صعوبات في نشر موادها على «فيسبوك» و«تويتر». أما «مؤتة» فهي وكالة أنباء غير رسمية، ولا تزال نشطة حتى وقتنا الراهن. فضلاً عن «شبكة أخبار الولايات» وأسست في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) 2017، وتنشر بيانات «داعش» باللغة الإنجليزية، التي يُعلن فيها التنظيم مسؤوليته عن الهجمات التي ينفذها، وليس لهذه الشبكة موقع معين، وتقوم بالنشر من خلال تطبيق «التليغرام» فقط، ومن خلالها يتم النشر في مختلف وسائل الإعلام العالمية.
وكذا مؤسسة «القرار»، وهي وكالة أنباء محلية بدأت نشاطها في يونيو (حزيران) 2017... بالإضافة إلى مؤسسات إنتاج وتوزيع المواد الإعلامية، مثل: «الفرقان، والحياة، والأجناد، ورماح». ومواقع إلكترونية مثل «الصوارم». ومجلات إلكترونية مثل «الأنفال». ومحطات راديو مثل «البيان». ومنصات أخرى ليست نشطة حالياً مثل موقع «الحق»، ومجلات شهرية مثل «رومية» و«دابق». وشبكة «الاعتصام» للإعلام. وموقع «الأنصار» الإلكتروني.

استراتيجية المُكافحة
خلصت الدراسة المصرية، بحسب عبد الفضيل، إلى أن «داعش» سينحسر على الأرض قليلاً ليدشن نفسه إعلامياً ويعود للظهور في بؤر أخرى غير التي هُزم فيها... وأنه لا بد من التوقف قليلاً عن الجزم بزوال الخطر الداعشي. إذ إن هناك دلائل تشير إلى وجود المزيد من الأعمال الإجرامية في جعبة هذا التنظيم، ومن ثم فإن التريث وعدم القطع بزواله، وتعزيز التعاون بين الأجهزة الأمنية على مستوى العالم، أمر ضروري من أجل عدم السماح للتنظيم بمفاجأة العالم بظهوره مرة أخرى في صورة جديدة.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟