السرد بعينٍ سينمائية

عجائب بغداد في «جمهورية مريم» لوارد بدر السالم

السرد بعينٍ سينمائية
TT

السرد بعينٍ سينمائية

السرد بعينٍ سينمائية

ينطوي أي عملٍ تجريبي على مغامرة من نوعٍ ما، قد تكون في الشكل أو في المضمون أو في التقنية السردية، وفي حالات نادرة يمكن أن تمتدّ المغامرة لتغطي العناصر الثلاثة برمتها. ورواية «جمهورية مريم»، لوارد بدر السالم، الصادرة عن «منشورات المتوسط» بإيطاليا، لا تخلو من بعض الملامح التجريبية التي يمكن أن نتلمّسها بوضوح في المبنى والمعنى، إضافة إلى تعويم الحاضر، والاستعاضة عنه بالماضي والمستقبل، عبر تقنيتي الاسترجاع والاستشراف. وعلى الرغم من وجود قصة حُب تجمع بين الروائي السبعيني النحيل ومريم، المرأة المسيحية التي أنقذها من الموت، ثم اقترن بها لاحقاً في زواجٍ عابر للأديان، فإن فضاء الرواية يظل دايستوبياً، مُرعباً، وكئيباً رغم نهايته المفتوحة التي تشي بأنّ الماضي قد انتهى، ولن يعود لأنه «صار أفلاماً قصيرة». كما فتح الروائي وارد بدر السلام أفقاً للتعالق مع روايته السابقة «عجائب بغداد»، خصوصاً في ما يتعلق بالأستاذ الأكاديمي الذي تشبّه بأفكار بوذا وكونفوشيوس، وشيّد قرية يوتوبية صغيرة على ضفاف دجلة لا تحفل بالطوائف والأديان، غير أن الميليشيات السوداء تابعته وأحرقت القرية، وظل مصيره غامضاً، ومجهولاً، وعصياً على التأويل. وهذه إحالة واضحة إلى البطل الإشكالي الذي ينغمس في تغيّير الواقع المزري الذي يعيشه أبناء وطنه المُهددين بالضياع والخُسران.
ثمة في الرواية خلطة سحرية جميلة بين السرد الروائي المتقشف والجملة الشعرية المكثفة من جهة، وبين النسق الروائي والفيلم الوثائقي من جهة أخرى، إضافة إلى حضور عدسة الكاميرا التي تشترك هي الأخرى في الكتابة بتقنيتها الفوتوغرافية التي تقف وراءها عين بشرية حسّاسة ومرهفة تلتقط كل ما تراه مناسباً، ومتساوقاً مع الحدث على الصعيد الفني.
قد تكون البداية مثيرة وصادمة في المقطع الأول من الرواية للمرأة الخمسينية مريم وهي ترى نفسها معلّقة بين طرفي النار والماء، وأن الذي أنقذها في أثناء الاحتراب الطائفي عام 2006 هو الروائي النحيل ذاته الذي حارب الإرهاب والفساد، وساهم في بناء «الحي الأخضر» مع الأستاذ الجامعي الغامض الذي توارى بطريقة عجائبية.
تنطلق أحداث الرواية عام 2036، عبر تقنية الفيلم الوثائقي الذي صوره فريق تلفزيوني ياباني، يتألف من هيروشي، وهو إعلامي وروائي معروف ومن أنصار البيئة، ويوكي، المصورة الشابة، وصحافي متدرب لم نعرف له اسماً. هؤلاء الثلاثة اليابانيون كانوا شهوداً على الأحداث الدامية التي دمرت قرية الصفيح والتنك، ولم يخرجوا منها سالمين، فقد أصيب الإعلامي الروائي الياباني بطلقة وخزت ساقه، وكلما يتحسسها يتذكر واقعة حرق القرية، وإبادة أناسها الأبرياء الذين يشكلون صورة مصغرة للعراق، بقومياته وأديانه وأطيافه المتعددة. يستدرج هذا الروائي العجوز يوماً من تلك العقود الثلاثة ليكون بذرة لروايته التي تحمل عنوان «نهر بغداد» التي كتبها بألم، لكنها لم تتعسّر عليه كما تعسّرت على الروائي العراقي النحيل لأنه لم يكتب عن خيط الدم الذي انساب وراءهما في النهر في ذلك اليوم الفظيع، لذلك ظلت روايته مؤجلة تنتظر شرارة الإبداع التي تقدح في أعماق ذاكرته، لتعيده إلى «جمهورية مريم» التي أصبحت آمنة، ولن يطالها شيء بعد الآن.
تتمثل ذروة تقنية الاسترجاع في الفصلين الثامن عشر والتاسع عشر، إذا اعتبرنا المقاطع العشرين للرواية فصولاً، حيث يسرد الروائي العراقي النحيل قصة إنقاذه لمريم، أو بالأحرى قصة الإنقاذ المُتبادَل: «كنتُ أُنقذكَ، وكنتَ تُنقذني في تيّار النهر الجريح»، إلى أن تخلّصا بأعجوبة من الحرق بالنار أو الغرق بالماء، فيما يروي الإعلامي الياباني مشاهداته في أثناء احتراق القرية، ولجوئه مع المصور إلى النهر المنحدر جنوباً، حتى عثرت عليهما الشرطة النهرية وانتشلتهما عند الخيوط الأولى لمطلع الفجر.
يُهدي الروائي النحيل رواية «عجائب بغداد»، التي كتبها في أثناء الغزو الأميركي للعراق عام 2003، إلى هيروشي، ويخبره بأنّ فيها خيالاً كثيراً لم يخرج عن واقعية لأن الواقع العراقي اشتمل على كل أنواع الفانتازيا والمواقف الغريبة التي لا تحدث إلاّ في الكوابيس الليلية المُرعبة. وبالمقابل، يهديه هيروشي رواية «نهر بغداد»، ويعززها ببعض الأفلام الوثائقية التي ترصد ذلك اليوم الذي احترقت فيه القرية، عسى أن يستدرك الروائي العراقي روايته المتعسّرة، ويشرع في كتابتها بتدفقٍ يخلو من أي احتباس لغوي.
تتشظى الثيمة الرئيسة إلى ثيمات فرعية، مثل: مُناصرة البيئة، والمكان اليوتوبي، والميليشيات الوحشية، والحكومات الهزيلة التي أوهمت الناس بالديمقراطية، وتفكيك السياسة العراقية التي خذلت الناس، وكرّست التزوير والفساد واللصوصية. ومن قلب هذه الثيمات المتعددة، تنبثق أسئلة لعلها لا تؤرِّق كاتب النص فحسب، وإنما تشغل بال القرّاء العراقيين الذين يحبون وطنهم الجريح، ويتساءلون: «كيف نزرع الجمال بعد الحرب؟ وكيف ننشئ بيئة أخرى وسط الخراب؟ وكيف نروِّض النفوس المتوحشة؟».
ثمة شخصيات إشكالية غامضة في كل رواية من روايات السالم، الذي بلغ رصيده الروائي ثماني روايات أنجزها منذ عام 2000 حتى الآن، وفي كل رواية هناك محاولة تجريبية أو لمسة تجديد يضفيها على نصه الإبداعي، كأن يجرّب في الثيمة أو الشخصية أو اللغة أو الزمكان. وفي «جمهورية مريم» ثمة تجريب على هذه المعطيات الأربعة التي تضع القارئ أمام نصٍ مختلف لا يشبه رواياته السبع الماضيات، مثل «طيور الغاق» و«شبيه الخنزير» و«مولد غراب»، وما سواها من روايات ظلت عالقة في ذاكرة القارئ العربي. وقد تكون شخصية الأستاذ الجامعي هي الأكثر إغراء للمتلقي لأنه اختفى في ظروف غامضة، أو تشبّه ببوذا، أو أصبح بمثابة المُنقذ الذي ينتظره الجميع حتى في عصر التكنولوجيا المتطورة.
وعلى الرغم من النهاية التفاؤلية لهذه الرواية، فإن الروائي يتنبأ بعودة السلاح الذي سوف يهدد جمهورية مريم مستقبلاً، ذلك «لأن الإنسان مجبول على الجريمة»، وأنه مرشّح لارتكابها في أي زمان ومكان. ومع ذلك، فإن الرواية تناصر الطبيعة، وتمجّد الحي الأخضر الذي شُيِّد في مزرعة الجثث، شرط أن يقطعون الطريق على الميليشيات الطائفية التي توحشت في غفلة من الزمن بفعل المحرِّضات المعروفة التي تستفيق كلما يغيب القانون، وتتلاشى الدولة في الأزمنة الرديئة.
بقي أن نشير إلى أن القاص والروائي وارد بدر السالم قد أصدر حتى الآن ثماني روايات، وسبع مجموعات قصصية، من بينها: «ذلك البكاء الجميل» و«أصابع الصفصاف» و«جذوع في العراء»، إضافة إلى عدد من النصوص المفتوحة، وأدب الرحلات، والنقد الأدبي. ونظراً لحصوله على عدد كبير من الجوائز الأدبية في القصة والرواية والنص المفتوح، فقد أطلق عليه النقاد العراقيون لقب «قنّاص الجوائز»، وقد نالت رواية «عذراء سنجار» جائزة الدولة التقديرية للرواية عام 2017، وهي آخر جائزة يحصل عليها السالم الذي شكّل حضوراً فاعلاً في المشهد الثقافي العراقي منذ أوائل الثمانينات حتى الوقت الحاضر.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!