ماكرون يزور الفاتيكان وسط حالة توتر غير مسبوقة مع روما

الحكومة الإيطالية تعتبره «عدوها الأول» وتطالبه «بالسخاء» وفتح ميناء مارسيليا للمهاجرين

الرئيس الفرنسي مع بابا الفاتيكان (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي مع بابا الفاتيكان (أ.ف.ب)
TT

ماكرون يزور الفاتيكان وسط حالة توتر غير مسبوقة مع روما

الرئيس الفرنسي مع بابا الفاتيكان (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي مع بابا الفاتيكان (أ.ف.ب)

واضحة كانت الرسالة التي حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على توجيهها في مستهلّ زيارته إلى روما، عندما استقبل في قصر «فارنيسي»، مقر السفارة الفرنسية في العاصمة الإيطالية، وفدا من جمعية «سانت إيجيديو» التي تنشط منذ سنوات لمساعدة المهاجرين واللاجئين الذين يتقدّم ملفهم على بقيّة الهواجس والاهتمامات الأوروبية في الفترة الأخيرة، والذي سيكون الطبق الرئيسي على مائدة القمة الأوروبية المقبلة، ويرفع منسوب التأزّم إلى مستويات غير مسبوقة في العلاقات بين باريس وروما.
وكان ماكرون قد وصل في الصباح الباكر إلى العاصمة الإيطالية، برفقة قرينته بريجيت، ووزيري الداخلية والخارجية، ثم توجّه بعد ذلك إلى الفاتيكان؛ حيث التقى بالبابا فرنسيس وأجرى معه محادثات ثنائية، قبل أن يتوجّه إلى بازيليك يوحنا الليتراني، ليتسلّم لقب المشرف الكنسي، الأول والوحيد، على كاتدرائية روما، وهو لقب فخري يُمنح لرئيس الدولة الفرنسية، منذ عهد الملك هنري الرابع.
وقد علمت «الشرق الوسط» من مصادر مطّلعة في الفاتيكان، أن الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط عموما، وبخاصة في سوريا وليبيا، استحوذت على حيّز كبير من محادثات البابا وماكرون التي تناولت أيضا موضوع اللاجئين، الذي يتصدّر اهتمام الحبر الأعظم منذ توليه السدة البابوية قبل خمس سنوات. وفيما دعا البابا في حديث قصير أمام الصحافيين «الحكومات إلى مساعدة الفقراء»، كان رئيس الجمهورية الإيطالية سرجيو ماتّاريلا يقول، في معرض تعليقه على أزمة الهجرة: «عظمة الدول تكمن في تضامنها».
كشفت رئاسة الحكومة الإيطالية أن لقاءً عُقد مساء بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة جيوزيبي كونتي تجاوبا مع طلب الأخير، وتقرر عدم الكشف عنه قبل نهاية زيارة الرئيس الفرنسي إلى الفاتيكان. وأفادت المصادر بأن اللقاء الذي دام نحو الساعة تناول موضوع المركب «لايف لاين» الذي كانت إيطاليا تصر علـى عدم استقباله. وقد أعلنت مالطا في الساعات الأخيرة أنها ستستقبل المركب بعد مكالمة بين رئيس الوزراء المالطي ونظيره الإيطالي لم يكشف عن محتواها.
ولم يُعقد أي لقاء بين وزيري الخارجية والداخلية الفرنسيين ونظيريهما الإيطاليين، مما يعكس درجة التأزم في العلاقات بين فرنسا وإيطاليا، على خلفية الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإيطالية الجديدة، مدفوعة ببرنامج وزير الداخلية وزعيم رابطة الشمال اليمينية المتطرفة ماتّيو سالفيني، رافضة استقبال السفن والقوارب التي تحمل مهاجرين داخل المنطقة البحرية التي تقع تحت مسؤولية إيطاليا، بموجب الاتفاقيات الأوروبية السارية.
وفيما كان الرئيس الفرنسي مجتمعاً بالبابا فرنسيس، كان سالفيني يتحدّث أمام جمهور من مؤيديه ويواصل التصعيد، واصفاً ماكرون بأنه «شاب مهذّب؛ لكنه يُفرط في شرب الشامبانيا»، ليضيف: «نحن لا نتلقّى دروسا من الفرنسيين، وإذا أرادوا أن يُظهروا سخاءهم، فليفتحوا ميناء مارسيليا أمام القوارب العشرة المقبلة».
وكان نائب رئيس الحكومة الإيطالية، وزعيم حركة النجوم الخمس لويجي دي مايو، قد أعلن منذ يومين أن «الرئيس الفرنسي أصبح العدو الأول بالنسبة لإيطاليا»، بينما كان سالفيني يؤكد أن «ماكرون عليه الاعتذار عن التصريحات التي صدرت عنه، إذا كانت فرنسا راغبة في مواصلة العمل مع إيطاليا».
ويرى مراقبون هنا أن زيارة ماكرون إلى العاصمة الإيطالية من غير عقد لقاء برئيس الحكومة، تحمل رسالة واضحة حول التحالفات الأوروبية الجديدة التي تتشكّل على وقع منحنيات أزمة الهجرة، سيّما وأن مواقف البابا فرنسيس من هذا الموضوع قد تجاوزت دائما طروحات الأحزاب السياسية، من حيث وقوفها بجانب المهاجرين، وتعرّضت لانتقادات مباشرة من رابطة الشمال التي يتزعمها سالفيني.
وتجدر الإشارة إلى أنه خلافا للمألوف، لم يحصل أي لقاء رسمي بعد بين الحكومة الإيطالية الجديدة والفاتيكان، علما بأن وزير الداخلية قد أعلن منذ أيام عن رغبته في زيارة البابا؛ لكن من غير أن يلقى أي تجاوب من الدوائر المعنية في الكرسي الرسولي.
وقد أعرب مصدر دبلوماسي في الفاتيكان عن ارتياح الكنيسة لزيارة ماكرون، ووصفها بأنها «صفحة جديدة واعدة بعد فترة من العلاقات الصعبة»، في إشارة إلى الفتور الذي ساد هذه العلاقات على عهد الرئيس السابق فرنسوا هولاند، بعد إقرار الجمعية الوطنية القانون الذي يجيز زواج المثليين، وإصرار باريس على تعيين سفير مثلي لها لدى الفاتيكان لم يحصل على موافقة السدة البابوية.
ويُذكر أن ماكرون قد تلقّى دروسه في أحد معاهد الحركة اليسوعية التي ينتمي إليها البابا فرنسيس، وأنه طلب التعميد عندما كان في الثانية عشرة من عمره، علما بأنه قد أعلن مرارا بأنه ملحد.

- سفينة «لايفلاين» ترسو في مالطا
> أعلن رئيس الحكومة الإيطالية جوزيبي كونتي أن سفينة «لايفلاين» الموجودة قبالة مالطا، ستتمكن من الرسو في ميناء الجزيرة المتوسطية، موضحا أن إيطاليا ستستقبل قسما من الـ233 مهاجرا على متنها. وقال في بيان رسمي: «تحدثت مع رئيس الحكومة المالطية جوزيف موسكات عبر الجوال، سفينة منظمة (لايفلاين) غير الحكومية سترسو في مالطا»، مشيرا إلى أن «إيطاليا ستستقبل قسما من المهاجرين». وتابع كونتي «بطريقة متسقة مع المبادئ الرئيسية لاقتراحنا حول الهجرة وتقضي بأن من يرسو على السواحل الإيطالية والإسبانية واليونانية والمالطية يرسو في أوروبا، فإن إيطاليا ستستقبل قسما من المهاجرين على متن لايفلاين». ولم يحدد كونتي عدد هؤلاء لكنه أعرب عن الأمل في أن «تفعل الدول الأوروبية الأخرى الشيء نفسه».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟