كمال العيادي: الغرب يريد كتابا «باعة بهارات».. والكتاب صار قفص دجاج

كنا نترجم في القرن الثاني للهجرة ضعف ما ترجمنا في القرن العشرين

كمال العيادي
كمال العيادي
TT

كمال العيادي: الغرب يريد كتابا «باعة بهارات».. والكتاب صار قفص دجاج

كمال العيادي
كمال العيادي

* ما سر غربتك الطويلة والمبكرة خارج الوطن؟ هل كانت هروبا من القيود أم بحثا عن ماذا؟
- خرجت من تونس منذ ربع قرن تزيد سنة، وقبلها خرجت من القيروان، مدينتي العجوز القاسية الملهمة، إلى العاصمة تونس، ضيقا بنسيج أسئلتي المحرجة عن الأصول والماهية والمنابع.
بدت لي المدرسة الصوفية القيروانية أضيق من تسارع أنفاسي ودهشتي البكر التي لا يشبعها غير الأفق الرحب الممتد والمفتوح على أكثر من واجهة. فكان أن سلمتني هذه الرغبة المتوحشة للمعرفة إلى آفاق أبعد. فكان نداء المثالية الماركسية التي تداعت وتهشمت سريعا ومنذ السنوات الأولى لي بموسكو، وضربت من جديد في أرض الله الحرة. وكان لا بد لي من عشرين سنة في ميونيخ، عاصمة الشر والاقتصاد والفلسفة الألمانية، ومختبر هتلر نفسه. ولكنني انتهيت مجددا إلى قناعة ويقين بأن ما ينقص الأخضر ليكون شجرة هو نفسه ما ينقص ألمانيا لتكون موطني ومسكني، حيث أبيض وأبني لي بها عشا. ولم أكن في حاجة لملهم لأعرف أن القاهرة هي وجهتي المقبلة. ولكن الله زاد في إكرامي بأن أرسل ملهمة تؤمن بي وتناديني منذ ربع قرن بالكينغ. وكانت القاهرة مستقري (منذ أربع سنوات). وأتصور أن حياة واحدة لا تكفي لأباغت يوما بنداء الرحيل من جديد.
* «سردوك»، و«المربوع»، و«باريسا»، و«رحلة إلى الجحيم»، أعمال متميزة تحمل توقيعك، أيها أقرب إلى نفسك؟ وهل يمكن اعتبار «رحلة إلى الجحيم» أقرب إلى سيرة ذاتية؟
- أرتاح بصراحة لاستعمال ضمير المتكلم حين أكتب. وهذا مشروع وطبيعي. وهو الأقرب لمنطق من يريد الإقناع بتحريك شخوصه وجعلهم يتقاطعون في عوالم ممكنة وقريبة من الواقع. وأنا أتقاطع مع شخوصي وأومن بها ولا أحقد عليها، ولا يؤذيني أن أمنحها ضميري لتتكلم به وتخربط من خلاله بين الدمعة والضحكة. هذا كل ما في الأمر. أما عن السيرة الذاتية فأنا أحتقر كل كاتب يكتب سيرته الذاتية وهو لم يكمل نصف مشروعه بعد. من حقه أن يكتب سيرة ذاتية ولكن لا ينشرها في كتاب تام وشاهد عليه. من يكتب سيرته الذاتية فهو يكتب وصيته، وعليه أن ينزاح قليلا ليترك مكانه لمن هو في طور عيش، وممارسة سيرته الذاتية التي تنتهي بموته أو تقاعده. أنا أدعو كل كاتب يكتب سيرته الذاتية بإلحاح إلى أن يستقيل قبل ذلك، ويعلن رسميا أن حبره جف ومنابعه يبست. أما أنا فلا دخل لي بالسيرة الذاتية.
ما زال قدامي نصف عمر كامل وأصر عليه. وأنا أبدأ ككاتب حقيقي صبيحة كل مرة يصدر لي فيها كتاب. طبعا، لا علاقة لي بشخوصي، غير أنني خالقها ومحركها ومخرجها من الظلمات إلى النور ومسارح الحياة، رغم أن فيها بطبيعة الحال من سخطي ومن نفسي ومن روحي الكثير. تقاطعا إيجابيا حينا وعكسيا حينا آخر.
* إلى أى مدى تمثل الكتابة الأدبية عن نصوص أجنبية تحديا للكاتب عن الإبداع الخاص ؟ وكيف يهرب من خطر الذوبان فى شخصية صاحب النص الأصلى ؟
- هناك الكاتب وهناك المستكتب. المستكتب جمعه مستكتبون, وهم (كتاّب عموميّون) ومفرده (كاتب عمومي) وهذا طبعًا معرضّ لأن يكون لصًا أو مختلسًا أو في أفضل الأحوال معرض لأن يكون ضحية الإعتداء عليه من طرف الكتاب الكبار الحقيقيون ليتلبسوه ببصمتهم ورائحتهم وأسلوبهم ومرحهم أو تجهمهم, فهؤلاء الطبقة هم من قماش سردي أو شعري شفاف, يظهر ببساطة ويفضح من وراءهم أما النوع الثاني من الكُتّاب, فهم غيلان حقيقيون. لا يتأثرون بأي بصمة أخرى ولا تركب عليهم، بالعكس هم حين يتأثرون بجملة ما أو صورة ما فهم يضيفون إليها.
* كيف تقيم جهود الترجمة في العالم العربي؟ وهل هناك توازن مع الترجمة عن الأعمال العربية في الخارج؟
- بصراحة، حركة الترجمة عندنا ملف مخجل ومربك. أنا أشعر بالشفقة والحزن حين أقرأ أن بلدا صغيرا في حجم علبة السردين مثل إسرائيل يترجم سبعة أضعاف ما يترجم في كل البلدان العربية، وأن بلدا صغيرا جدا مثل النمسا أو حتى ألمانيا، يترجم ثلاثة ملايين عنوان لعمل فني وأدبي في السنة، بين السينما، والبرامج التلفزيونية، وكتب للأطفال، والروايات. بينما نجد أننا لا نكمل العشرة آلاف عنوان في أفضل الحالات. وأضيفي إلى ذلك أن الأغلبية من السادة المترجمين المحترمين، يتحايل ويترجم عن لغة واحدة يتقنها من كل آداب العالم. وبصراحة أنا أنظر بريبة لكل من يترجم عملا إبداعيا عن لغة وسيطة ليست لغته. أنا أعرف من يترجم كل ستة أشهر عملا من لغة جديدة وعملا ضخما فوق ذلك. وفي اعتقادي أن صمته وموته أفضل للأجيال المقبلة من آثار هذه الجرائم. أنا ترجمت لبوشكين وليرمانتوف وكريلوف وغيرهم، لأنني أحسست بحرقة أن أقرأ آثارا تشبه عيون نصوصنا، مثل «كليلة ودمنة» والقرآن و«الأغاني» وغيرها، وهي كتب مترجمة منذ بداية القرن الخامس عشر للروسية، عن طريق المشروع المسيحي الأترودوكسي الكبير في عهد العائلات القيصرية وبداية التجارة مع الشرق. وأحيانا أحتاج لشهر كامل من العمل اليومي من أجل ترجمة قصيد واحد. فكيف يمكن لأحدهم ترجمة كتاب ضخم في ألف صفحة في شهرين؟ وعن لغة لا يتقنها أصلا؟ كل هذا وما زلنا نحبو، رغم أننا كنا في القرن الثاني للهجرة مثلا، نترجم ضعف ما يترجم الآن في القرن العشرين.
* بأي عقل تفكر وأنت تكتب نصا عن لغة أجنبية إلى العربية؟ هل تفكر بالألمانية مثلا أو الروسية أو بلغتك العربية؟
- أفكر وأكتب باللغة العربية في أغلب الأحوال، رغم أنني أحلم كثيرا بالروسية والألمانية. وأفكر طبعا بالألمانية حين يكون خطابي موجها لعقلية ألمانية وقارئ ألماني. ولا تنسي أنني عشت في ألمانيا أكثر بكثير مما عشت في تونس. لكن الأصل هو العربية وهي منابعي ومرجعيتي دائما.
* رغم خلفيتك التونسية ذات الثقافة الفرنسية، لماذا اخترت اللغة الروسية والألمانية؟ وما الذي يميز الكتابات الأدبية في تلك اللغات لمن لا يعرفها؟
- الروسية اخترتها عن قناعة، ودرستها في تونس في المركز الثقافي الروسي وأنا في بداية حياتي. وكان ذلك السبب الذي من أجله وافقوا على تمكيني من منحة سخية للدراسة في روسيا. وقد عشقت حد الهيام هذه اللغة الفاتنة وإلى حد اليوم وبعد ربع قرن من عدم تطبيقها عمليا في كلامي. فأنا أحبذ أن أعبر بعبارة بالروسية حين أتناقش مع زوجتي ورفيقة الدرب، الروائية الكبيرة د. سهير المصادفة التي تتقن الروسية بشكل جيد أيضا. وبالمناسبة اللغة الروسية قريبة جدا في عمقها وثرائها وحميميتها ومبالغاتها من اللغة العربية. أما الألمانية، فقد فرضت علي بصراحة، لأنني حملت جسدي معي كمهاجر هناك في ميونيخ. وكان لا بد لأعيش وأدرس أن أتعلم لغتهم بشكل جيد. والحقيقة أنني اكتشفت عمقها وصرامتها بعد سنوات طويلة من سنوات الجامعة.
* من واقع تجربتك في الغربة، هل يجيد الآخرون التفكير بالأدب العربي؟ بمعنى هل يجد مكانته اللائقة في الغرب؟
- نحن بعيدون سنوات ضوئية عن الغرب، وجدلية الشرق والغرب ما زالت أهم موضوع يشغل الغرب في تطلعاته وانتظاراته للترجمات من العربية، وتثير اهتماماته. ما زال الطيب صالح الروائي المفضل لديهم، لأن لغته طريفة ومفهومة. وما زالوا يريدون باعة بهارات مثل رفيق شامي، وعلاء الأسواني، وينفخون في صورهم ويملؤون كبدهم وأفواههم بالمال والعقود حتى يغروا البقية، ويدجنونهم. وهذا ما يحدث للأسف، حتى عاد الكتاب مثل دجاج الأقفاص الأبيض، أو مثل البيض، كل بيضة تشبه الأخرى، لأنهم يكتبون حسب مطالب الغرب وانتظاراته. من يريد موقفا إنسانيا مع اليهود، ويريدنا وكأننا حيوانات أليفة تقفز وتنط كالنسانيس، وربعنا شهريار والربع الآخر شهرزاد والربع الثالث مسرور السياف، والبقية شخوص ضائعة وخواطر بشرية في مستنقع الرذيلة والسخط أو الإيمان الضال وهكذا.
* وصفوا أعمالك بـ«التعدد الباذخ»، بسبب تنوع إبداعاتك كقاص ومسرحي وشاعر وصحافي. فأين تجد نفسك بين هذه الدروب الإبداعية؟
- أنا غير مخلص لجنس إبداعي واحد. وهذا عيب أقر به، لكن الشعر والسرد هما أكثر ما يشدني ويغريني وخاصة السرد نهارا والشعر ليلا.
* كيف ترى المبدعة العربية وهل لازالت متخلفة فى الركب عن الرجال فى العالم العربى ولماذا ؟ وهل تعانى المرأة الغربية من نفس الإشكالية ؟
- قبل المطالبة بتحرير المرأة العربيّة والكاتبات العربيات بالأخص من ضيق الحصار والشوفينية التي تمارس على إبداعها وخاصة إذا كانت تمسّ التابوهات, علينا بالمطالبة بتحرير عقلية الرجل الشرقي المرضيّة, علينا إعادة توزيع الأدوار, ولنبدأ مثل الغرب من المدرسة,هذا ما ناديت به دائمًا .
* من واقع تجربتك الخاصة فى المهجرهل تعتقد أنه عندما تجبر الظروف المبدع على الهروب خارج الوطن فإنه يبدع أكثر ؟
- أعتقد أن تجربة المهجر, تزيد طينة المبدع صلابة, وتفتح أمامه آفاقًا جديدة ومتنوعة وثرية, لكنه شرط غير ضروري للمبدع, وأغلب المبدعين الكبار مثل ليرمانتوف ورامبو والشابي وليركه وطاغور والماغوط وغيرهم لم يعيشوا تجربة المهجر, لكنهم أبدعوا بشكل فاتن وهم في غربة أنفسهم وأوطانهم الضيقة ومع فساد حكامهم وقسوة حياتهم. الأمر محسوم.. إذا كنت مبدعًا, فأنت ستبدع ولو كنت في سجن منفرد في أقصى الدنيا, وإذا كنت مغشوشًا, فلن يفيدك شيء، ولن يُنتظر منك شيء.
* بعد صدور «غابة الخبز» و«رحلة إلى الجحيم» ما جديد إصدارات كمال العيادي؟
- تصدر لي قريبا أربعة أعمال مهمة: الأولى هي روايتي ومشروعي ورهاني الأكبر، التي ستنشر في أكثر من ألف صفحة على جزأين. والعمل السردي الثاني هو «مذكرات بلبل». والعمل الثالث هو «اعترافات الفتى القيرواني الشقي». والعمل الرابع والمهم هو سلسلة كبيرة من كتب الأطفال المترجمة عن الروسية والألمانية. وستصدر عن إحدى أكبر دور النشر العربية قريبا جدا. فضلا عن مجموعة «أرواح هائمة» التي صدرت منذ أيام قليلة عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.