ذكريات محفورة في الذاكرة لمفردات الحياة اليومية

الفنانة ناجحة صالح تبث شذا الماضي في تحولات الطين

من المعرض
من المعرض
TT

ذكريات محفورة في الذاكرة لمفردات الحياة اليومية

من المعرض
من المعرض

تلتقي عناصر الحياة الأولية، الماء والتراب والنار في معرض «استحضار عبق الماضي» لناجحة صالح، لندن، التي تعكس من خلاله رؤيتها كفنانة تعد السيراميك «تكوينا نحتيا وليس تزيينيا»، و«شاشة لعرض ذكريات محفورة في الذاكرة لمفردات الحياة اليومية». وينجلي إنتاج محمولات المعرض الفنية في التوليف ما بين استخدام مفردات تراثية وحروفية وفانتازيا خيال شخصية، عبر اللجوء إلى حضارة العراق ورموز وجذور الماضي بمزاوجة ممتلئة بين الموروث والحداثة في كل الأعمال الخزفية المعروضة، (بغداديات، قباب، معمار شرقي، معلقات شرقية)، كما وتنم مضامين التكوينات الخزفية للمعرض عن دراية واسعة بتركيب الأطيان والأكاسيد الملونة ودرجات انصهارها والخلطات الزجاجية في تعامل حاذق مع الطين بصفته المادة الأولية لمكونات الحضارات الإنسانية.
وغالبا ما ترتبط أعمالها على المستوى الدلالي ببيئتها، دالة من خلال تنوع موضوعاتها على حسية عالية في منجزها ونظرتها الإنسانية لهموم نساء «منكفئات على أحزانهن» يتلفعن بملامح شجن ووجع، رغم شعور داخلي فني بجمالية المكان في الكتل الخزفية سواء في اللوحات الحائطية أو المجسمية، عبر تشكيلات متنوعة أسطوانية ومستطيلة ومسطحة، وعبر حضور متكامل في معانٍ إيحائية ديناميكية تشدنا إلى الأرض بثقلها وكثافتها.
تتمكن الفنانة ناجحة صالح من تطويع تدرجات ومبتكرات لونية متعددة بحرفية مدركة لمقاربة فكرة الدرجات اللونية الأرضية القاتمة مثل ألوان: الأزرق، والأخضر، والتركواز، والبني، بشكل مؤثر، مستمدة أصولها من خامات التراب والأرض والبيئة المشرقية التي تعشقها وتلتحم معها رغم وجودها لفترة طويلة في الخارج، مختزنة في ذاكرتها ألوانا نابضة بطاقات إشعاعية لونية دافئة وبهاجس بنائي تكويني مبهر يوحي بمعرفة لونية وأبعاد جمالية، انعكست في ألوان الأكاسيد واستعمالاتها ومن بعد في تصنيف الألوان كل حسب درجة احتراقه، وكذلك المزاوجة بين الزجاج والخشب والخزف بعلاقات لونية ناضجة وتقنيات محترفة في مجمل المجسمات الخزفية.
وبما أن الخزاف رسام وتشكيلي ومصمم ونحات، فإن أعمال الفنانة تتميز بتشكيلات فنية بصرية لها خصوصيتها، تتكامل بين أسلوب التنفيذ الأكاديمي وبين أسلوب خاص متمثل بالحداثة؛ مما ينتج عنه مساحات مضيئة واتزانا تستقر فيه الكتل مع بعضها البعض، متحررة من سكونية توشي فنها بوحدة وتناسق وتناسب، يكاد يمنح الأشكال منطقها البيئي ويثري اللغة البصرية بحس تعبيري متدفق ومتعدد المستويات وبرونق فني ورؤية ملموسة.
ورغم صعوبة هذا الفن الذي لا يضاهيه فن آخر في مقدار الجهد وسعة الصبر، لا يتمكن منه إلا فنان محب لعمله، أو بالأحرى فنانة، تكمن مساراتها ومداراتها في كيفية التعامل مع خامات الطين والأكاسيد اللونية بروح مبدعة؛ من حيث التصميم والقيمة والشكل والجمال الفني والملمس، وأخذ الجانب الهندسي المقاس بنظر الاعتبار وفق رؤية تشير إلى طبيعة الوحدات الفنية التي تجمعت في النتاج الخزفي.
مرة تلو المرة تعزز الفنانة ناجحة صالح استنطاقها للطين، في هذا المعرض وفي معارضها السابقة، عبر ثراء معالجاتها وتماسك موضوعاتها في تركيب كامل الأناقة والدقة والرسوخ، مشغولة دائما ببهاء الامتلاء الفني والمعنوي.
ومن الجدير بالذكر أن الإنسان تعلم الخزف منذ بواكير الحياة البدائية تلبية لاستخدامات يومية ضرورية وما لبث أن طور وظيفته عبر التاريخ، ويعد أهل بابل أول من حرق أكسيد النحاس مع الرمل، فظهرت حلى ملونة بالأزرق والأخضر، وتجسدت حضارة وادي الرافدين، التي هي حضارة طينية، بصفة عامة في فن خزفي موجود في أغلب متاحف العالم اليوم.
ومع تقادم الزمن انحسرت الوظيفة الاستخدامية للخزف ولم يغدُ عملا حرفيا، بل صار من أكثر الفنون تجريدية، يعبر عن رؤية جمالية لموضوعات من البيئة المحلية والموروث الشعبي ولتكوينات تعبيرية تعتمد على تنويعات شكلية مبتكرة.. ومر فن الخزف في العالم بتطور واسع من شرق الصين واليابان إلى الولايات المتحدة مرورا بأوروبا؛ حيث نجد المدرسة الشرقية ممثلة في الصين واليابان، ثم المدرسة الأوروبية بريادة المدرسة الإنجليزية، ثم المدرسة الأميركية وبشهرة معهد (اوتس) للخزف. أما في العراق، فعرف معهد الفنون الجميلة تدريس الخزف أكاديميا عام 1954؛ حيث درس فيه الفنانان (إيان أولد) و(فالنتينوس كارالامبوس)، واضعين الأسس المبكرة لمشروع فن السيراميك بأبعاد تقنية حديثة، ويتواصل اليوم مع ذلك الفن خزافون مبدعون كسعد شاكر، وماهر السامرائي، وأكرم ناجي، وطارق إبراهيم، وشنيار عبد الله، وتركي حسين، ونهى الراضي، ومنى ناجي، وقاسم نايف، وآخرين، غير أن برودة الاحتفاء بالسيراميك كإنجاز إبداعي وخامة صعبة المراس تتعدد فيها احتمالات التشكيل، وغياب النقد الفني عنه، يحول دون إنصاف الخزافين وفنهم.



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.