الفتيات والمال والذبح... أسلحة «بوكو حرام» لتجنيد الشباب

من الأسئلة القديمة المتجدّدة عن أساليب استقطاب الجماعة مقاتليها

الفتيات والمال والذبح... أسلحة «بوكو حرام» لتجنيد الشباب
TT

الفتيات والمال والذبح... أسلحة «بوكو حرام» لتجنيد الشباب

الفتيات والمال والذبح... أسلحة «بوكو حرام» لتجنيد الشباب

شنت جماعة «بوكو حرام» خلال الأسبوعين الأخيرين ثلاث هجمات انتحارية متزامنة في مدينة ديفا، «عاصمة» جنوب النيجر، مخلّفة ستة قتلى وعشرات الجرحى. إلا أن هذه الهجمات التي استهدفت أحد المساجد، نُفِّذت من طرف فتاتين ورجل، في واحد من الأساليب التي برعت فيها هذه الجماعة المتطرفة منذ عدة سنوات؛ أي العمليات الانتحارية الدموية. ولكن هذه الهجمات، وإن كانت تعيد «بوكو حرام» إلى الواجهة بعد عدة أشهر من الركود، بفعل الضربات الموجعة التي تلقتها على يد الجيوش الحكومية، فإنها تعيد طرح أسئلة قديمة متجدّدة حول الأساليب التي تعتمدها «بوكو حرام» في تجنيد الانتحاريين والمقاتلين، وإقناعهم بالانخراط في صفوفها، والتي مكّنتها من «تجديد دمائها» في كل مرة تفقد مئات المقاتلين خلال غارات الجيوش على معسكراتها.

يؤكد الخبراء المهتمون بتطور جماعة «بوكو حرام» المتطرفة الناشطة في دول غرب أفريقيا، وتأقلمها مع الأوضاع المتغيّرة في محيط بحيرة تشاد، أن الأساليب التي تعتمدها الجماعة في تجنيد المقاتلين «أساليب غامضة وغير محددة»، بل إنها تتغير كثيراً وفق المعطيات الاجتماعية والثقافية والجغرافية للمناطق التي تتحرّك فيها، لا سيما، أن نسبة كبيرة من المقاتلين التابعين لها «غير مؤدلجين» ولا يؤمنون -بالضرورة- بالمبادئ التي تقاتل من أجلها.
وفي هذا السياق يقول جيل يابي، وهو باحث مستقل ومدير سابق لمشروع غرب أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية: «من الصعب، بل من شبه المستحيل، إحصاء عدد المنخرطين في صفوف (بوكو حرام)، فعمليات الاستقطاب والجذب التي تقوم بها الجماعة مستمرة وبوتيرة ثابتة». ويضيف يابي في بحث حول الجماعة أن «هناك المئات، بل الآلاف من مقاتلي الحركة قُتلوا خلال السنوات الأخيرة في العمليات التي شنها الجيش (النيجيري) وقوات الأمن (في نيجيريا) ضد معسكراتها، ولكن الجماعة كانت تنجح دائماً في تجديد دمائها، وبالتالي، تجنيد عناصر جديدة، ما يجعل تحديد عدد مقاتليها مهمة صعبة».
ويتابع الباحث: «إن أساليب التجنيد -لدى (بوكو حرام)- غامضة جداً... ويجري استقطاب القادة من الطبقات الأكثر فقراً في البلاد، وبخاصة في صفوف الشباب الذين لم يرتادوا المدارس الحكومية، بل تخرّجوا في المدارس الدينية التقليدية المنتشرة في المنطقة، حيث تنعدم تقريباً السياسات التنموية الحكومية».

خطاب المظالم
لعل أكبر عملية تجنيد قامت بها جماعة «بوكو حرام» هي تلك التي سبقت حملها السلاح، أي خلال الفترة ما بين عام تأسيسها (2002) والعام الذي حملت فيه السلاح وبدأت حربها ضد الجيش النيجيري (وهو 2009)، وهو العام نفسه الذي قُتل فيه مؤسسها محمد يوسف وتولى القيادة من بعده أبو بكر شيكاو، أحد أكثر رموزها دموية وتطرفاً.
على امتداد سبع سنوات عُرفت «بوكو حرام» باسمها الأصلي «جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد»، واشتهرت بخطب زعيمها الأول محمد يوسف في مساجد مدينة مايدوغوري، عاصمة ولاية بورنو بأقصى شمال شرقي نيجيريا. وهي خطب تتحدث في معظمها عن «الظلم» الواقع على أهل الشمال المسلمين من طرف الحكومة «التي يتحكم بها أهل الجنوب المسيحيون» - على حد قوله. وكان الرجل، من ثم، ينطلق من المظالم الاجتماعية لإعطاء تفاسير دينية تبرر الجهاد والعنف ضد الدولة، وبالفعل، نجح في استقطاب كثيرين من الشباب المسلمين الذين يعانون من الفقر والجهل، ويتعرضون للظلم يومياً على يد عناصر الشرطة الفاسدين.

«إخوان» وإيران وأموال
مسيرة هذا الداعية مثيرة. إذ بدأ نشاطه في صفوف جماعة «الإخوان المسلمين» في نيجيريا منتصف ثمانينات القرن الماضي، قبل أن يتحوّل مع مطلع التسعينات إلى جماعة شيعية ترتبط بنظام الملالي في العاصمة الإيرانية طهران، وتسعى لقيام «الثورة الإسلامية» في نيجيريا وعموم غرب أفريقيا. ثم، يؤسس مطلع الألفية جماعته الخاصة التي تحوّلت في ما بعد إلى «بوكو حرام» (وتعني تحريم التعليم الغربي).
ومع أن الحركة استندت في البداية إلى خطاب ديني عاطفي، يستغل المظالم الاجتماعية لاستقطاب الشباب الغاضبين، فإنها لم تكتفِ بذلك، بل أخذت تدفع بسخاء للشباب المنخرطين في صفوفها، فشكّلت بذلك أكبر موظِّف في شمال نيجيريا، في حين كانت الدولة عاجزة عن توفير فرص عمل وحياة كريمة لعشرات آلاف الشباب العاطلين عن العمل، والمُحبَطين، والساخطين على إهمال الحكومة وفسادها.
وعندما كانت «بوكو حرام» تدفع الأموال الطائلة من أجل استقطاب مقاتلين جُدد، خلال السنوات الأولى من حربها ضد الحكومة المركزية في نيجيريا، بدأت الأسئلة تثار حول مصادر تمويلها «الغامضة». وكان بعض التقارير السرّية يشير إلى أن الجماعة المتطرفة تستغل الصراعات السياسية المحلية للحصول على أموال الساسة الفاسدين، وأولئك الطامحين إلى تحقيق مكاسب سياسية، أو الراغبين في ضرب خصومهم في مناطق نفوذ الجماعة.
ويشير عدد من المحللين إلى أن «بوكو حرام» استُخدمت في المعارك السياسية في ولاية بورنو، وكان حاكم بورنو في الفترة الممتدة من عام 2003 حتى عام 2011 أحد أبرز الأسماء التي تُقدَّم على أنها من مموّلي الجماعة المتطرفة. ولكن في المقابل هنالك من يتحدث عن استفادة الجماعة المتطرفة من أموال طائلة يدفعها كبار التجار ورجال الأعمال الساعين وراء النفوذ والسلطة في شمال نيجيريا، كما أن «بوكو حرام» قامت بعمليات سطو على البنوك مكّنتها من الحصول على عشرات ملايين الدولارات، وفق بعض التقديرات.

المال مقابل التوعية
وفي تقرير صدر أخيراً عن مكتب دراسات ألماني متخصص في نشاطات الجماعات المتطرفة عبر العالم، حاول المكتب أن يفسر السر وراء إقبال الشباب في محيط بحيرة تشاد على الانخراط في صفوف «بوكو حرام» على الرغم من الحرب الشرسة التي تخوضها جيوش دول المنطقة ضدها، ولقد توصل التقرير في خلاصته إلى أن معظم الشباب في هذه المنطقة يعتقدون أن «بوكو حرام» قادرة على أن توفر لهم وظائف بمقابل مادي محترم، بعكس وضع الحكومة. بيد أن التقرير الألماني أكد أن على الحكومات في البلدان المتضررة من هذه الجماعة -وهي نيجيريا والنيجر وتشاد والكاميرون- أن تعمل على رفع مستوى توعية السكان المحليين المستهدفين من طرف الحركة المتطرفة، ومحاربة آفتي الأمية والفقر بوصفهما الحاضنة الحقيقية التي تنمو فيها دعاية «بوكو حرام».
ودعا التقرير في خلاصته إلى ضرورة أن تعمل الحكومات على فتح مراكز للتكوين والتأهيل المهني، من أجل رفع مستوى القدرات الوظيفية للشباب، قبل أن توفر لهم وظائف مناسبة تسهم في امتصاص البطالة، وإغلاق الباب أمام اكتتابهم من طرف الحركة المتطرفة. إلا أن الأهم في التقرير هو إشارته إلى أن «الفساد» الذي ينخر الحكومات هو العائق الكبير أمام نجاح جميع الاستراتيجيات المعتمدة من أجل محاربة الحركة، لا سيما وأن هذا الفساد يتجلّى بشكل كبير في الأجهزة الأمنية والمؤسّسات التنموية، أكبر جهازين يقع على عاتقهما محاربة التطرف والإرهاب.

خطف الفتيات
في عام 2014 أقدمت «بوكو حرام» على اختطاف 276 طالبة صغيرة السن من مدرسة في مدينة شيبوك بشمال نيجيريا، ولقد تراوحت أعمار الفتيات المختطفات ما بين 12 و17 سنة. وبطبيعة الحال، هزّت هذه الجريمة الرأي العام العالمي، وعُرفت القضية باسم «فتيات شيبوك»، وأشعلت حملة تضامن عالمية واسعة الانتشار مع الضحايا. ومن ثم، على الرغم من تحرك الحكومة لتحرير الفتيات، فإن «بوكو حرام» عرضت شريطاً مصوراً ظهرت فيه الفتيات وهنّ محجبات يعلنّ دخولهن في الإسلام و«رفضهنّ العودة» إلى عائلاتهن. وبعد عملية «فتيات شيبوك» تكرّرت عمليات الخطف التي شنتها الجماعة ضد الفتيات خلال السنوات الأخيرة وفي مناطق عديدة من شمال نيجيريا، كانت آخرها في فبراير (شباط) الماضي حين اختطفت الجماعة 111 فتاة من مدرسة بمدينة يوبي.

انتحاريات أو «زوجات» بالإكراه
المؤكد هو أن بعض هؤلاء الفتيات يُستخدمن من طرف «بوكو حرام» في شن هجمات انتحارية على أهداف مدنية ودينية، ولكن النسبة الأكبر منهن تتحوّل إلى زوجات لمئات المقاتلين المقيمين في معسكرات نائية وسط الغابات الاستوائية، وذلك بعد إخضاعهن لبرنامج «إعادة تأهيل» يبدأ بإرغامهن على دخول الإسلام وتلقينهن مبادئ الجماعة المتطرفة. ووصفت الفتيات القليلات اللاتي تمكنّ من الفرار، الجحيم الذي كنّ فيه منذ وقوعهن في الأسر لدى الجماعة المتطرفة، ويتحدثن عن إشراف قادة الجماعة على تزويج الفتيات المُطيعات للمقاتلين، بينما تتعرّض الفتيات غير المنضبطات لعمليات اغتصاب بشعة، قبل تجهيزهن لعمليات انتحارية، وحسب التقارير شكّل وجود مئات الفتيات المختطفات في معسكرات الجماعة، عامل جذب إضافي للمقاتلين.
مع هذا، لم تكن المزايا المادية الكبيرة ولا الفتيات المختطفات، وحدها «الأسلحة» التي تعتمدها «بوكو حرام» لاكتتاب مجنّدين جدد، إذ أكدت المصادر الأمنية والمحلية أنه سبق للجماعة المتطرفة اللجوء إلى عمليات ترويع لإرغام الشباب على الالتحاق بصفوفها، بل إنها لا تزال تعتمد هذه الاستراتيجية في المناطق الحدودية بين نيجيريا والكاميرون، وفق ما تؤكده مصادر أمنية كاميرونية. وحسب هذه المصادر، بدأت الجماعة استهداف الشباب والمراهقين في القرى الحدودية النائية، من أجل تكوين كتائب صغيرة لشنّ هجمات ضد الجيش وقوات الأمن على الحدود، وتحدثت المصادر عن «اجتذاب ما يزيد على مائتي مراهق (تتراوح أعمارهم ما بين 15 و19 سنة)، في منطقة كولوفاتا، بأقصى شمالي الكاميرون، على الحدود مع نيجيريا».
كذلك، تركز «بوكو حرام» في عمليات التجنيد على الشبان والمراهقين المنحدرين من قبائل تنتشر على جانبي الحدود، ما يسهل عليها عملية التجنيد القسري، فأغلب المستهدفين ينحدرون من قبيلة الكانوري Kanuri، وهي قبيلة كبيرة منتشرة في شمال الكاميرون وشمال شرقي نيجيريا، ولديها امتدادات عرقية نيجيريا.

سلاح الترويع
ومع أن العديد من المقاتلين يلتحق بمعسكرات «بوكو حرام» بحثاً عن المكاسب المادية، إلا أن الجماعة لم تكتفِ بذلك، بل إنها تستخدم سلاح الترويع للحصول على مقاتلين جُدد، فمن يرفض الانصياع للأوامر «يذبحونه أمام رفاقه»، ولقد تحدّثت المصادر عن عمليات ذبح بشعة نفّذها قادة التنظيم خلال مرورهم ببعض القرى بحثاً عن مقاتلين جدد. وشرح شاهد عيان في تصريحات صحافية تجربته بالقول: «عندما مروا بقريتنا، شرعوا في الحوار مع الشبان محاولين إقناعهم بالانخراط في صفوف الجماعة، وكانوا يوردون بعض الآيات القرآنية ويفسرونها على أنها تحث على القتال إلى جانبهم، وعندما يبدي أحد الشبان رفضه لما يقولونه يذبحونه بسكين أمام الناس».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟