الفتيات والمال والذبح... أسلحة «بوكو حرام» لتجنيد الشباب

من الأسئلة القديمة المتجدّدة عن أساليب استقطاب الجماعة مقاتليها

الفتيات والمال والذبح... أسلحة «بوكو حرام» لتجنيد الشباب
TT

الفتيات والمال والذبح... أسلحة «بوكو حرام» لتجنيد الشباب

الفتيات والمال والذبح... أسلحة «بوكو حرام» لتجنيد الشباب

شنت جماعة «بوكو حرام» خلال الأسبوعين الأخيرين ثلاث هجمات انتحارية متزامنة في مدينة ديفا، «عاصمة» جنوب النيجر، مخلّفة ستة قتلى وعشرات الجرحى. إلا أن هذه الهجمات التي استهدفت أحد المساجد، نُفِّذت من طرف فتاتين ورجل، في واحد من الأساليب التي برعت فيها هذه الجماعة المتطرفة منذ عدة سنوات؛ أي العمليات الانتحارية الدموية. ولكن هذه الهجمات، وإن كانت تعيد «بوكو حرام» إلى الواجهة بعد عدة أشهر من الركود، بفعل الضربات الموجعة التي تلقتها على يد الجيوش الحكومية، فإنها تعيد طرح أسئلة قديمة متجدّدة حول الأساليب التي تعتمدها «بوكو حرام» في تجنيد الانتحاريين والمقاتلين، وإقناعهم بالانخراط في صفوفها، والتي مكّنتها من «تجديد دمائها» في كل مرة تفقد مئات المقاتلين خلال غارات الجيوش على معسكراتها.

يؤكد الخبراء المهتمون بتطور جماعة «بوكو حرام» المتطرفة الناشطة في دول غرب أفريقيا، وتأقلمها مع الأوضاع المتغيّرة في محيط بحيرة تشاد، أن الأساليب التي تعتمدها الجماعة في تجنيد المقاتلين «أساليب غامضة وغير محددة»، بل إنها تتغير كثيراً وفق المعطيات الاجتماعية والثقافية والجغرافية للمناطق التي تتحرّك فيها، لا سيما، أن نسبة كبيرة من المقاتلين التابعين لها «غير مؤدلجين» ولا يؤمنون -بالضرورة- بالمبادئ التي تقاتل من أجلها.
وفي هذا السياق يقول جيل يابي، وهو باحث مستقل ومدير سابق لمشروع غرب أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية: «من الصعب، بل من شبه المستحيل، إحصاء عدد المنخرطين في صفوف (بوكو حرام)، فعمليات الاستقطاب والجذب التي تقوم بها الجماعة مستمرة وبوتيرة ثابتة». ويضيف يابي في بحث حول الجماعة أن «هناك المئات، بل الآلاف من مقاتلي الحركة قُتلوا خلال السنوات الأخيرة في العمليات التي شنها الجيش (النيجيري) وقوات الأمن (في نيجيريا) ضد معسكراتها، ولكن الجماعة كانت تنجح دائماً في تجديد دمائها، وبالتالي، تجنيد عناصر جديدة، ما يجعل تحديد عدد مقاتليها مهمة صعبة».
ويتابع الباحث: «إن أساليب التجنيد -لدى (بوكو حرام)- غامضة جداً... ويجري استقطاب القادة من الطبقات الأكثر فقراً في البلاد، وبخاصة في صفوف الشباب الذين لم يرتادوا المدارس الحكومية، بل تخرّجوا في المدارس الدينية التقليدية المنتشرة في المنطقة، حيث تنعدم تقريباً السياسات التنموية الحكومية».

خطاب المظالم
لعل أكبر عملية تجنيد قامت بها جماعة «بوكو حرام» هي تلك التي سبقت حملها السلاح، أي خلال الفترة ما بين عام تأسيسها (2002) والعام الذي حملت فيه السلاح وبدأت حربها ضد الجيش النيجيري (وهو 2009)، وهو العام نفسه الذي قُتل فيه مؤسسها محمد يوسف وتولى القيادة من بعده أبو بكر شيكاو، أحد أكثر رموزها دموية وتطرفاً.
على امتداد سبع سنوات عُرفت «بوكو حرام» باسمها الأصلي «جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد»، واشتهرت بخطب زعيمها الأول محمد يوسف في مساجد مدينة مايدوغوري، عاصمة ولاية بورنو بأقصى شمال شرقي نيجيريا. وهي خطب تتحدث في معظمها عن «الظلم» الواقع على أهل الشمال المسلمين من طرف الحكومة «التي يتحكم بها أهل الجنوب المسيحيون» - على حد قوله. وكان الرجل، من ثم، ينطلق من المظالم الاجتماعية لإعطاء تفاسير دينية تبرر الجهاد والعنف ضد الدولة، وبالفعل، نجح في استقطاب كثيرين من الشباب المسلمين الذين يعانون من الفقر والجهل، ويتعرضون للظلم يومياً على يد عناصر الشرطة الفاسدين.

«إخوان» وإيران وأموال
مسيرة هذا الداعية مثيرة. إذ بدأ نشاطه في صفوف جماعة «الإخوان المسلمين» في نيجيريا منتصف ثمانينات القرن الماضي، قبل أن يتحوّل مع مطلع التسعينات إلى جماعة شيعية ترتبط بنظام الملالي في العاصمة الإيرانية طهران، وتسعى لقيام «الثورة الإسلامية» في نيجيريا وعموم غرب أفريقيا. ثم، يؤسس مطلع الألفية جماعته الخاصة التي تحوّلت في ما بعد إلى «بوكو حرام» (وتعني تحريم التعليم الغربي).
ومع أن الحركة استندت في البداية إلى خطاب ديني عاطفي، يستغل المظالم الاجتماعية لاستقطاب الشباب الغاضبين، فإنها لم تكتفِ بذلك، بل أخذت تدفع بسخاء للشباب المنخرطين في صفوفها، فشكّلت بذلك أكبر موظِّف في شمال نيجيريا، في حين كانت الدولة عاجزة عن توفير فرص عمل وحياة كريمة لعشرات آلاف الشباب العاطلين عن العمل، والمُحبَطين، والساخطين على إهمال الحكومة وفسادها.
وعندما كانت «بوكو حرام» تدفع الأموال الطائلة من أجل استقطاب مقاتلين جُدد، خلال السنوات الأولى من حربها ضد الحكومة المركزية في نيجيريا، بدأت الأسئلة تثار حول مصادر تمويلها «الغامضة». وكان بعض التقارير السرّية يشير إلى أن الجماعة المتطرفة تستغل الصراعات السياسية المحلية للحصول على أموال الساسة الفاسدين، وأولئك الطامحين إلى تحقيق مكاسب سياسية، أو الراغبين في ضرب خصومهم في مناطق نفوذ الجماعة.
ويشير عدد من المحللين إلى أن «بوكو حرام» استُخدمت في المعارك السياسية في ولاية بورنو، وكان حاكم بورنو في الفترة الممتدة من عام 2003 حتى عام 2011 أحد أبرز الأسماء التي تُقدَّم على أنها من مموّلي الجماعة المتطرفة. ولكن في المقابل هنالك من يتحدث عن استفادة الجماعة المتطرفة من أموال طائلة يدفعها كبار التجار ورجال الأعمال الساعين وراء النفوذ والسلطة في شمال نيجيريا، كما أن «بوكو حرام» قامت بعمليات سطو على البنوك مكّنتها من الحصول على عشرات ملايين الدولارات، وفق بعض التقديرات.

المال مقابل التوعية
وفي تقرير صدر أخيراً عن مكتب دراسات ألماني متخصص في نشاطات الجماعات المتطرفة عبر العالم، حاول المكتب أن يفسر السر وراء إقبال الشباب في محيط بحيرة تشاد على الانخراط في صفوف «بوكو حرام» على الرغم من الحرب الشرسة التي تخوضها جيوش دول المنطقة ضدها، ولقد توصل التقرير في خلاصته إلى أن معظم الشباب في هذه المنطقة يعتقدون أن «بوكو حرام» قادرة على أن توفر لهم وظائف بمقابل مادي محترم، بعكس وضع الحكومة. بيد أن التقرير الألماني أكد أن على الحكومات في البلدان المتضررة من هذه الجماعة -وهي نيجيريا والنيجر وتشاد والكاميرون- أن تعمل على رفع مستوى توعية السكان المحليين المستهدفين من طرف الحركة المتطرفة، ومحاربة آفتي الأمية والفقر بوصفهما الحاضنة الحقيقية التي تنمو فيها دعاية «بوكو حرام».
ودعا التقرير في خلاصته إلى ضرورة أن تعمل الحكومات على فتح مراكز للتكوين والتأهيل المهني، من أجل رفع مستوى القدرات الوظيفية للشباب، قبل أن توفر لهم وظائف مناسبة تسهم في امتصاص البطالة، وإغلاق الباب أمام اكتتابهم من طرف الحركة المتطرفة. إلا أن الأهم في التقرير هو إشارته إلى أن «الفساد» الذي ينخر الحكومات هو العائق الكبير أمام نجاح جميع الاستراتيجيات المعتمدة من أجل محاربة الحركة، لا سيما وأن هذا الفساد يتجلّى بشكل كبير في الأجهزة الأمنية والمؤسّسات التنموية، أكبر جهازين يقع على عاتقهما محاربة التطرف والإرهاب.

خطف الفتيات
في عام 2014 أقدمت «بوكو حرام» على اختطاف 276 طالبة صغيرة السن من مدرسة في مدينة شيبوك بشمال نيجيريا، ولقد تراوحت أعمار الفتيات المختطفات ما بين 12 و17 سنة. وبطبيعة الحال، هزّت هذه الجريمة الرأي العام العالمي، وعُرفت القضية باسم «فتيات شيبوك»، وأشعلت حملة تضامن عالمية واسعة الانتشار مع الضحايا. ومن ثم، على الرغم من تحرك الحكومة لتحرير الفتيات، فإن «بوكو حرام» عرضت شريطاً مصوراً ظهرت فيه الفتيات وهنّ محجبات يعلنّ دخولهن في الإسلام و«رفضهنّ العودة» إلى عائلاتهن. وبعد عملية «فتيات شيبوك» تكرّرت عمليات الخطف التي شنتها الجماعة ضد الفتيات خلال السنوات الأخيرة وفي مناطق عديدة من شمال نيجيريا، كانت آخرها في فبراير (شباط) الماضي حين اختطفت الجماعة 111 فتاة من مدرسة بمدينة يوبي.

انتحاريات أو «زوجات» بالإكراه
المؤكد هو أن بعض هؤلاء الفتيات يُستخدمن من طرف «بوكو حرام» في شن هجمات انتحارية على أهداف مدنية ودينية، ولكن النسبة الأكبر منهن تتحوّل إلى زوجات لمئات المقاتلين المقيمين في معسكرات نائية وسط الغابات الاستوائية، وذلك بعد إخضاعهن لبرنامج «إعادة تأهيل» يبدأ بإرغامهن على دخول الإسلام وتلقينهن مبادئ الجماعة المتطرفة. ووصفت الفتيات القليلات اللاتي تمكنّ من الفرار، الجحيم الذي كنّ فيه منذ وقوعهن في الأسر لدى الجماعة المتطرفة، ويتحدثن عن إشراف قادة الجماعة على تزويج الفتيات المُطيعات للمقاتلين، بينما تتعرّض الفتيات غير المنضبطات لعمليات اغتصاب بشعة، قبل تجهيزهن لعمليات انتحارية، وحسب التقارير شكّل وجود مئات الفتيات المختطفات في معسكرات الجماعة، عامل جذب إضافي للمقاتلين.
مع هذا، لم تكن المزايا المادية الكبيرة ولا الفتيات المختطفات، وحدها «الأسلحة» التي تعتمدها «بوكو حرام» لاكتتاب مجنّدين جدد، إذ أكدت المصادر الأمنية والمحلية أنه سبق للجماعة المتطرفة اللجوء إلى عمليات ترويع لإرغام الشباب على الالتحاق بصفوفها، بل إنها لا تزال تعتمد هذه الاستراتيجية في المناطق الحدودية بين نيجيريا والكاميرون، وفق ما تؤكده مصادر أمنية كاميرونية. وحسب هذه المصادر، بدأت الجماعة استهداف الشباب والمراهقين في القرى الحدودية النائية، من أجل تكوين كتائب صغيرة لشنّ هجمات ضد الجيش وقوات الأمن على الحدود، وتحدثت المصادر عن «اجتذاب ما يزيد على مائتي مراهق (تتراوح أعمارهم ما بين 15 و19 سنة)، في منطقة كولوفاتا، بأقصى شمالي الكاميرون، على الحدود مع نيجيريا».
كذلك، تركز «بوكو حرام» في عمليات التجنيد على الشبان والمراهقين المنحدرين من قبائل تنتشر على جانبي الحدود، ما يسهل عليها عملية التجنيد القسري، فأغلب المستهدفين ينحدرون من قبيلة الكانوري Kanuri، وهي قبيلة كبيرة منتشرة في شمال الكاميرون وشمال شرقي نيجيريا، ولديها امتدادات عرقية نيجيريا.

سلاح الترويع
ومع أن العديد من المقاتلين يلتحق بمعسكرات «بوكو حرام» بحثاً عن المكاسب المادية، إلا أن الجماعة لم تكتفِ بذلك، بل إنها تستخدم سلاح الترويع للحصول على مقاتلين جُدد، فمن يرفض الانصياع للأوامر «يذبحونه أمام رفاقه»، ولقد تحدّثت المصادر عن عمليات ذبح بشعة نفّذها قادة التنظيم خلال مرورهم ببعض القرى بحثاً عن مقاتلين جدد. وشرح شاهد عيان في تصريحات صحافية تجربته بالقول: «عندما مروا بقريتنا، شرعوا في الحوار مع الشبان محاولين إقناعهم بالانخراط في صفوف الجماعة، وكانوا يوردون بعض الآيات القرآنية ويفسرونها على أنها تحث على القتال إلى جانبهم، وعندما يبدي أحد الشبان رفضه لما يقولونه يذبحونه بسكين أمام الناس».



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».