اسبينوزا ... حرية التفكير لا تدمر الإيمان

أضرم حرائق فلسفية لا تزال مشتعلة

اسبينوزا
اسبينوزا
TT

اسبينوزا ... حرية التفكير لا تدمر الإيمان

اسبينوزا
اسبينوزا

لم يدر بخلد أحدٍ أن الطفل - الذي أراد له أبواه أن ينشأ نشأة دينية عبر إرساله إلى مدرسة حاخامٍ يدعى مورتيرا - سيكون الناقد الأهم لمعاني الحقيقة في القرن السابع عشر، والأكثر تأثيرا في مجال التنظير للاهوت والسياسة والأخلاق والدين على مر العصور. على أرضٍ أشرقت عليها الطبيعة، وجرى بها قطر الماء واهتزّت الأرض وربت وتشققت عن جمالٍ وخضرة نضِرة، ولد الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1632 متحدرا من عائلة برتغالية ومن وسطٍ يهودي ملتزم بالتعاليم، ولد في أمستردام بهولندا. تعمّق بدراسة الثقافة اليهودية ودرس التلمود. تعرّف مبكرا على موسى بن ميمون وبعض علماء اللاهوت اليهودي في العصور الوسطى.
عاش في وسطٍ صعب، وببيئة موحشة، لا يمكن للرأي الجريء إلا أن يعقبه الجلد، وفي أبريل (نيسان) عام 1647 شاهد اسبينوزا جلْد «أوريل داكوستا» علنا بناء على حكمٍ صادرٍ من الكنيسة اليهودية في أمستردام، الأمر الذي جعل أوريل يقدم على الانتحار فيما بعد.
في منتصف العشرينات بدأ التمرد يتضح على ملامح اسبينوزا، حاول بعض رجال الطائفة استمالته واستدراجه بسطوة المال، وتعرض لمحاولة اغتيالٍ من بعض الجموع المناوئة له وفشلت، بلغت القطيعة ذروتها حين أصدرت الكنيسة اليهودية في 27 يوليو (تموز) 1656 قرارا بطرده، وتمت مقاطعته من الطائفة اليهودية، ومن ثم الأسرة والأصدقاء. تقبّل هذا الطرد والتهديد بهدوء ليدخل في علاقة قوية مع فرق ساخرة من التعاليم والأفكار السائدة تدعى «اللوّامة» بقي مهمّشا لمدة أربع سنواتٍ إلى أن تعرّف في «ليدن» على مجموعة من المهتمين بالفلسفة فكانت البداية لتدشين أشرس الضربات المعرفية التي توجه إلى اللاهوت في عصره.
لم ينشر اسبينوزا كتبه باسمه في حياته باستثناء كتابيه: «مبادئ فلسفة رينيه ديكارت» و«خواطر ميتافيزيقية» وذلك في ستينات القرن السابع عشر، أما كتابه الأخطر: «رسالة في اللاهوت والسياسة» فقد طبعه من دون اسمه، وبرغم نشره بأمستردام غير أنه اضطر للتمويه فكتب على طرّة الغلاف «طبع في هامبورغ في ألمانيا» وقبيل وفاته 1676 زاره الفيلسوف لايبنتز واطلع على كتابه «علم الأخلاق»، عانى من التهميش والمطاردة والمرض واضطر إلى الإقامة بالضواحي، وأقام حينا لدى الرسام «در اسبك» وفي 21 فبراير (شباط) 1677 توفي باروخ اسبينوزا تاركا وراءه حرائق أشعلها لم تنطفئ نيرانها بعد.. وحين توفي نشر أصدقاؤه أعماله ومنها: «علم الأخلاق، رسالة في إصلاح العقل، المراسلات» ونسبت فقط إلى «الحروف الأولى من اسمه».
كان دخول نص اسبينوزا إلى التداول العربي مهما، وذلك عبر دراساتٍ قدمت وهي مهمة من أبرزها «اسبينوزا» لفؤاد زكريا، ومن ثم كتابات عبد الرحمن بدوي، وإلى اهتمامٍ قوي أبداه حسن حنفي لترجمة كتاب: «رسالة في اللاهوت والسياسة». حنفي صاحب الأطروحة عن «فيورباخ» ترجم كتاب اسبينوزا المهم هذا ووضع مقدمة ضافية للتعريف بفلسفته، ليصل الاهتمام أقصاه من خلال ترجمة أعماله ومن بينها ترجمة جلال الدين سعيد لكتاب: «علم الأخلاق».
كانت المداخل التي بدأ بها اسبينوزا تنظيره وأسئلته تشترك بها كل المجتمعات المنغلقة، فهو بدأ بالتطمين للقارئ المنفعل الخائف على عقيدته من الاهتزاز حين كتب في «رسالة في اللاهوت والسياسة»: «(هذه الرسالة) فيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطرا على التقوى أو على السلام في الدولة، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها». أهداف رسالته تتلخص في: إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، وأن العقل هو أساس الإيمان فإذا غاب العقل ظهرت الخرافة.
ناقش في مؤلفاته أسئلة الجوهر، والقانون الإلهي والقانون البشري، وموضوع المعجزات، ومارس النقد التاريخي. استخدم اسبينوزا منهج ديكارت لمساءلة الأسس والأصول والمغلقات التي دمّرت العقول، وراح يضرب بمنهج ديكارت المسارات الفكرية المتعددة بالمجتمع، فعّل المنهج لفحص جذورٍ لم يمسّها ديكارت عبر منهجه كما يوضح وبشكلٍ مطوّل حسن حنفي في تقديمه ودراساته عن اسبينوزا الذي استخدم المنهج في تعبيد الطرق الوعرة التي أعاقت سير الإنسان نحو الإيمان العقلاني وتصفية الذهن من شائبة الخرافة وأعباء الأساطير.
امتدّ مشرط اسبينوزا ليصل إلى مناقشة فكرة الحقيقة والمعرفة الحدسية، والواحدية العلمية، والعلاقة بين الذهن والجسم، وناقش نسبية الظاهرة الدينية، والطابع الأساسي للنظرية الأخلاقية، وفي السياسة تطرّق إلى فكرة الحق الطبيعي وتكوين الدولة، وأهمية الحياة الاجتماعية ووظيفة الدولة، وسواها من أفكارٍ لامعة هائلة، وبرغم مرور أربعة قرونٍ على ما كتبه غير أن الكثير من المفاهيم لا تزال مضيئة في جوف الليل مثل عيون القطط تتحدانا بالأسئلة وبنثار المفاهيم المدوّية.
ربما نتطرّق في الكتابة اللاحقة إلى أبرز تلك الموضوعات التي طرحها، فما كتبه لا تتسع له المساحات المختصرة، فما قام به اسبينوزا مثل زلزالٍ كبير لا يقل عن ثورة «كوبرنيكوس» في القرن السادس عشر، لجهة تحويل العلم وزلزلة العقول وضرب القناعات وتهشيم القلاع.
في آخر رسالته باللاهوت والسياسة كتب: «إنني بشر، ومن الممكن أن أكون قد أخطأت، ولكني على الأقل حاولتُ ألا أقع بالخطأ، وحرصتُ بوجهٍ خاص على ألا أكتب شيئا يتعارض مع قوانين بلدي، أو يتنافى مع الحرية والأخلاق» رحل عن خمسة وأربعين عاما فقط.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.