الذكاء الصناعي... طريق الإرهاب الأكبر والأخطر

روبوتات بشرية وسيارات ذاتية القيادة وأقمار صناعية مختطفة

الذكاء الصناعي... طريق الإرهاب الأكبر والأخطر
TT

الذكاء الصناعي... طريق الإرهاب الأكبر والأخطر

الذكاء الصناعي... طريق الإرهاب الأكبر والأخطر

قبل بضعة أسابيع حذرت كيرستين نيلسن، وزيرة أمن الوطن في الولايات المتحدة، في مقابلة لها مع مجلة «تايم» الأميركية تحذر من استعمال الإرهابيين خلال العقود المقبلة طائرات «الدرون» (من دون طيار)، - التي هي نتاج لما بات يعرف بالذكاء الصناعي - وطالبت بسن القوانين التي تساعد على ضمان حماية الشعب الأميركي من هذا الخطر.
تصريحات نيلسن تلفت الأنظار إلى قضية «الذكاء الصناعي التكنولوجي» وهل هو دائماً خير في منفعة الإنسانية أم يمكن له أن يضحى شراً مستطيراً يهدّد الآمنين والمطمئنين، إذا عرف طريقة إلى الإرهابيين، أولئك الذين باتوا بدورهم على درجة عالية من القدرة على التعاطي مع التكنولوجيا المتقدمة، ومن المقدرة على تطوير آليات خاصة بهم تفعل فعلها في عوالم الإرهاب والجريمة عبر الحدود.
لعل إشكالية الذكاء الصناعي باتت تتقاطع كذلك مع كبريات التنظيمات الإرهابية وفي مقدمها «داعش» إذ تشير آخر التقارير إلى أن «أبو بكر البغدادي» زعيم «داعش» بات يركز على اختراق الدول المعادية للتنظيم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة ودول أوروبا، وذلك عبر التنسيق مع مواقع إلكترونية وإرهابية. وما بين الذكاء الصناعي والثورة المعلوماتية التكنولوجية، يغدو العالم برمته أمام موجة غير مسبوقة من التحديات الإرهابية، مما يزيد من العبء الملقى على عاتق الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المكلفة بالمواجهة.

عن الذكاء الصناعي
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرح ذات يوم في العالم الماضي بأن «من تكون له الريادة في الذكاء الصناعي، سيكون سيد العالم». تصريحات بوتين ولا شك كانت تحمل نبرة الصراع العالمي، مما استدعي ردات فعل من جانب الولايات المتحدة، حيث البعض هناك أدرك ولو متأخراً ما يمثله هذا الذكاء من كارثية مستقبلية، سيما وأن الصراع بين الأمم سيضحى معلوماتيا، بأكثر منه مواجهة أسلحة تقليدية معروفة. وفي تقرير صدر في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم عن «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية» الفرنسي، نجد تصريحات لإيلون ماسك، المهندس الملياردير ورجل الأعمال الرؤيوي، الذي أعرب عن قلقله من إمكانية استخدام الذكاء الصناعي من قبل الإرهابيين حول العالم، وأشار إلى نيته لتأسيس معهد دراسات متخصص في هذا المجال من أجل تطويره لصالح البشرية، وليس ضدها.

«داعش» والذكاءات الشريرة
راهناً، يبقى «داعش» أكثر الجماعات الأصولية المتطرفة خطراً وفتكاً على الساحة الدولية، ونجح «الدواعش» في أن يضموا عناصر من المتقدمين علمياً في الكثير من المجالات التكنولوجية والرقمية، بينهم عناصر أوروبية وأميركية لديها خيرة في عالم «الفضاءات الرقمية»، لا على الأرض فقط. وفي العام الماضي 2017 أرسل «داعش» طائرات «درون» (من دون طيار)، صغيرة ومرنة جداً ومسلحة بقنابل يدوية، تمكّنت من مناوشة القوات العراقية في أكثر من مكان. وفي تونس استطاع «الدواعش» رسم صور عبر الكومبيوتر للتضاريس الجغرافية لبلدة بنقردان (جنوب شرقي تونس) وقاموا بعمل محاكاة للواقع قبل شن هجماتهم سواء للانتقام من رجالات الشرطة، أو لتنفيذ عمليات إرهابية جديدة، مما يعني أن الذكاء الصناعي يخفف الآن عبء الحصول على المعلومات الاستخباراتية على الجماعات المسلحة، ويعبد الطريق أمام عملياتهم.

الاختراق المعلوماتي كارثة محققة
ضمن سياقات الحرب التي يشنها «الدواعش»، تهديد المناوئين والمقاومين لهم، وذلك عبر نشر أسمائهم وأرقام هواتفهم وعناوينهم، ومن ثم إتاحة هذه جميعها للملأ، بهدف إحداث حالة من الرعب في نفوس هؤلاء وأولئك بداية، وتالياً تأليب الجماهير المؤدلجة عقائدياً ضدهم. وفي هذا الإطار يقوم «داعش» بما هو أخطر من تأسيس خلايا عنقودية إرهابية. فنحن الآن إذن أمام جزئيتين أساسيتين في تسخير «داعش» للذكاء الصناعي، الأولى الاختراق للحصول على المعلومات، والثانية جعل وسائط التواصل الاجتماعي أداة لينة وطيعة في اكتساب عناصر جديدة. ورغم الضربات اللوجيستية الفتاكة والانحسارات التي أصابت التنظيم على الأرض، يتوقع مراقبون موجة جديدة من الإرهاب القاتل سترب العالم، إذا قيض الذكاء الصناعي الطريق للعناصر المجندة لخدمة أجندة «داعش» بنوع خاص، وأي تنظيم إرهابي مؤدلج آخر حول العالم.
السيناريوهات الظلامية طويلة ومتعددة، ومنها ما يتصل بقدرات القراصنة لاختراق الشبكات الخاصة بالبنية التحتية للدول من شبكات مياه، أو كهرباء، أو جسور، أو مطارات، وقد تساءل بعضهم ماذا لو وجد الإرهابيون من الدواعش طريقاً لاقتحام بعض برامج الأقمار الصناعية التي تقوم على مساعدة الطيران المدني في الأجواء الدولية، وتالياً التحكم في مسارات تلك الطائرات وتوجيهها إلى حيث يريدون.

الأوروبيون والسيارات القاتلة
الآتي مرعب، ولا شك، سواءً كان بالنسبة للأوروبيين أو الأميركيين معاً. ولعل هذا ما دعا في فبراير (شباط) الماضي لعقد لقاء قمة لخبراء بلغ عددهم 26 خبيراً من عدة مؤسسات رائدة في العالم، ومنظمات لها دالة على أبحاث الذكاء الصناعي. ولقد التقى هؤلاء في بريطانيا بالتعاون مع معهد المستقبل في جامعة أكسفورد ومركز جامعة كامبريدج لدراسة المخاطر الموجودة، بمساهمة ماسك. وذهب المشاركون هناك إلى أنه من المحتمل استخدام الذكاء الصناعي من قبل مختلف الأشخاص، بمن فيهم المجرمون والإرهابيون.
وفي حال لم يتكاتف الباحثون وواضعو السياسات معا لدرء هذا الخطر، فقد يتسرب الذكاء الصناعي إلى أهم أجزاء حياتنا.
ومفهوم أن أوروبا شهدت خلال السنوات القليلة الماضية ضرباً من ضروب السيارات التي قادها إرهابيون في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، مما أوقع العشرات بين قتيل وجريح. هؤلاء ربما لن تكون هناك حاجة إليهم في القريب، إذا بقيت تطورات الذكاءات الاجتماعية في يد الإرهابيين على النحو الذي نراه الآن. فخبراء أكسفورد يتحدثون عن سيارات ذاتية القيادة، ولك أن تتخيل وقوع تلك الأجيال من هذه السيارات في أيدي إرهابيين وكيف ستكون حينئذٍ قنابل موقوتة سائرة.
«داعش» والإنترنت
قبل نحو ثلاثة عقود راج تعبير في الأوساط الإعلامية مفاده أن «وسائل الإعلام قادرة على أن تصنع شتاء أو صيفا»، بمعني أنها يمكن أن تجعل الفصول الزمانية دافئة مستقرة أو حارة ملتهبة. وخلال شهر مايو (أيار) الماضي نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية تقريراً عن «أبو بكر البغدادي» زعيم «داعش» وعن مصيره، ومآلات «داعش» المستقبل.
باختصار، يقول التقرير إن «البغدادي» لم يمت، بل يعمل على إعداد الطبعة الجديدة من التنظيم، تلك التي تقوم على التجنيد عن بعد من خلال استخدام الوسائط الاجتماعية الحديثة لمواصلة القتال وخدمة مشروع «خلافته» المزعومة حول العالم بأدوات تكنولوجية وبتواصل معلوماتي متميّز. ويركز التقرير على أن البغدادي كان مدرّساً جامعياً قبل أن يصبح إرهابياً، وأنه في وقت مبكّر قرّر إعطاء الأولوية لتجنيد الأطفال والشباب داخل العراق أو سوريا وخارجهما عبر الإنترنت. وأن «البغدادي» مقتنع بأنه حتى إذا اختفى تنظيمه الحالي، فإن فكرته (أي «خلافته» المزعومة) ستستمر طالما استطاعت التأثير على الجيل القادم من خلال التعليم.

«فيسبوك» والإرهاب
حين بدأ مارك زوكربيرغ عالمه «فيسبوك»، كان هدفه الأول هو بناء عالم جميل من التواصل الإنساني الخلاق، وتحويل تعبير عالم الاجتماع الكندي الشهير مارشال ماكلوهان عن «القرية الكونية»، إلى واقع حي معاش يتجاوز الحدود والسدود الجغرافية. إلا أن «فيسبوك» أضحى مصيدة للإرهابيين للترويج لما يؤمنون به، فأضحت عقائدهم وأفكارهم سريعة الانتشار، بل وباتت عملية تجنيد عناصر جديدة مسألة يسيرة في أرجاء الكرة الأرضية. وليس سراً أن عدة عمليات إرهابية أخيرة استخدمت فيها أنظمة، سيما حادثة مسرح «الباتاكلان» في العاصمة الفرنسية باريس، والذي استخدمت فيه ألعاب إلكترونية من أجل التخطيط لواحدة من المذابح الإنسانية.

روبوتات صناعية أم بشرية؟
الجزئية الأخرى وليست الأخيرة في قصة تتجلى ملامحها ومعالمها في عالمنا المعاصر، موصولة بالروبوتات. فهل يمكن أن تستحوذ جماعات إرهابية مثل داعش «روبوتاً» قاتلاً في المستقبل القريب تعوض به مثلاً قلة عدد المنضمين إليها من الشباب لأي سبب؟ البروفسور نويل شاركي، الأستاذ المتخصص في مجال الذكاء الصناعي وأجهزة الروبوت في جامعة شيفيلد البريطانية، يقر بإمكانية حدوث ذلك، ولهذا تبنى حملة عنوانها «أوقفوا الروبوتات القاتلة». هنا قد يغدو الخيال العلمي واقع حال، بمعنى أنه يجعل إنساناً بشرياً روبوتاً صناعياً، من خلال تطوير معالجات إلكترونية فائقة السرعة قابلة للزرع داخل الدماغ البشري، وساعتها سنجد فكرة «فرانكشتين» الخيالية تتجسد في روبوت بشري شرير قادر على تهديد العالم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.