لماذا شكلت الثورة الفرنسية قطيعة كبرى وربيعاً حقيقياً؟

علاقة جوهرية تربط بين التغييرين الفكري والسياسي

مونتسكيو  -  فولتير
مونتسكيو - فولتير
TT

لماذا شكلت الثورة الفرنسية قطيعة كبرى وربيعاً حقيقياً؟

مونتسكيو  -  فولتير
مونتسكيو - فولتير

غني عن القول أن الثورة الفرنسية تمثل ذلك الحدث الضخم الذي دشن العصور الحديثة، وأحدث القطيعة مع العصور الوسطى الأصولية الإقطاعية. بهذا المعنى، فهي تمثل ربيعاً حقيقياً، على الرغم من كل الآلام والدماء والمخاضات العسيرة التي رافقتها. فقد تمخضت في نهاية المطاف عن نظام جديد يساوي بين المواطنين جميعاً، أياً تكن انتماءاتهم الدينية والمذهبية. بهذا المعنى، فقد شكلت قطيعة مطلقة مع الماضي المذهبي أو الطائفي لفرنسا، عندما أعطت الأقلية البروتستانتية حقوقها كاملة، ولم تعد تحتقرها أو تزندقها أو تكفرها. لقد انتهى عهد الاضطهاد والاحتقار، وحل محله عهد جديد قائم على احترام الكرامة الإنسانية لأي شخص، أياً يكن دينه أو طائفته. هذا هو الربيع الحقيقي، ربيع الشعوب والكرامة الإنسانية المتساوية للجميع. وهكذا تكون الثورات أو لا تكون! ولكن ما كان ذلك ممكناً لولا أن عصر التنوير الكبير كان قد سبقها واحتضنها ومهد لها الطريق. وهذا ما يشرحه لنا بالتفصيل البروفسور دانييل مورنيه في كتاب ضخم أصبح كلاسيكياً الآن، بعنوان: «الأصول الفكرية للثورة الفرنسية». ونفهم منه، ومن مصادر أخرى، أنه لولا جهود فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وديدرو، والموسوعيين عموماً، لما نجحت الثورة الفرنسية. كل اللاهوت المسيحي الظلامي القديم وفتاواه التكفيرية وتمييزاته الطائفية أسقطها هؤلاء المفكرون الأفذاذ. ولذلك من يقول لك متهكماً إن كتابات المثقفين عبارة عن ثرثرات مجانية تضيع في الفراغ مخطئ تماماً، فالفكرة إذا كانت صائبة أو صحيحة أقوى من الرصاصة، وتحفر عميقاً في الأرض؛ كتاب واحد قد يغير مجرى التاريخ، وهو الكتاب الذي يستعصي حتى الآن على العالم العربي. ينبغي أن نتموضع في ذلك العصر لكي نعرف معنى الحدث التحريري الهائل الذي شكله ظهور كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، أو كتاب رسالة في التسامح لفولتير، أو كتاب روح القوانين لمونتسكيو... إلخ. وهنا، نلمس لمس اليد تلك العلاقة الجوهرية، وأكاد أقول الكيميائية السحرية التي تربط بين التغيير الفكري والتغيير السياسي.
واللافت أنها تحققت خلال بضعة أشهر فقط من 17 يونيو (حزيران) إلى 15 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1789. ولكنها ابتدأت في الواقع منذ الخامس من شهر مايو (أيار) من العام نفسه. نقول ذلك على الرغم من أنه لم يحصل أي حدث ثوري عنيف في ذلك اليوم. فالملك لويس السادس عشر كان قد دعا ممثلي الأمة الفرنسية للاجتماع في قصر فرساي في ذلك اليوم بالذات من أجل التناقش بشأن الإصلاحات، ولكنه ما كان يعلم أن الثورة الفرنسية ستندلع بعد بضعة أسابيع لكي تطيح به، وبكل عائلته التي حكمت البلاد على مدار القرون.
والواقع أن الشخصيات التي دعيت للاجتماع في ذلك اليوم المشهود كانت تنتمي إلى الطبقات الثلاث التي تشكل الشعب الفرنسي: أي طبقة الكهنة وكبار رجال الدين، ثم طبقة النبلاء الأرستقراطيين الإقطاعيين، ثم طبقة بقية الشعب: أي معظم سكان فرنسا. الطبقتان الأوليان كانتا تتمتعان بامتيازات ضخمة، مادية ومعنوية، في حين أن الشعب كان يرزح تحت نير العبودية والفقر، وذلك لأنه كان يكفي آنذاك أن تولد في عائلة نبلاء أو عائلة من كبار الكهنة المسيحيين لكي تفتح أمامك أبواب الدولة والتوظيف والثروة على مصراعيها. أما إذا شاء لك الحظ العاثر أن تولد في طبقة شعبية أو فلاحية، فالويل لك. وكان معظم أبناء الشعب الفرنسي آنذاك خدماً عند الكهنة والطبقة الأرستقراطية.
وضد هذا الوضع المهين واللاإنساني اندلعت الثورة الفرنسية، وبالتالي فقد كانت ثورة من أجل العدالة والحرية بالدرجة الأولى. وقد افتتح الاجتماع المهيب مطران مدينة نانسي «لافار»، وهاجم في خطابه أخطاء فلاسفة التنوير وترف البلاط الملكي في آن معاً، وقارن بينه وبين فقر الفلاحين في الأرياف الفرنسية، وقال ما معناه: لا يجوز أن يكون الغنى الفاحش في جهة الأقلية، والفقر الفاحش في جهة الأكثرية.
ومعلوم أن ممثلي الفلاحين والطبقات العمالية والشعبية كانوا قد أسمعوا صوتهم في القصر بهذا الاتجاه، وقالوا للملك إن الشعب يتضور جوعاً لأن الضرائب أثقلت كاهله، ثم قالوا للملك: إن الشعب يدفع كل شيء، وأما الكبار - أي الأغنياء جداً - فلا يدفعون شيئاً للخزينة العامة، فهل هذا معقول يا جلالة الملك؟ هل يعقل أن يدفع الفقير الضرائب ولا يدفعها الغني الفاحش الثراء؟ هكذا، نلاحظ أن الثورات تندلع بسبب أعمال الظلم والقهر. فإذا ما تفاقمت وزادت عن حدها، لم يبقَ إلا الانفجار، فهل يسمع السامعون؟ هل يتعظ المتعظون قبل فوات الأوان؟
والآن، نطرح هذا السؤال: كم كان عدد النبلاء الأرستقراطيين في فرنسا آنذاك؟ والجواب هو التالي: نحو الثلاثمائة ألف شخص في بلد يصل عدد سكانه إلى الثلاثين مليون نسمة تقريباً. كل الشعب كان يخدم هؤلاء النبلاء الإقطاعيين الذين يتوارثون الامتيازات والمناصب أباً عن جد. وضد هؤلاء اندلعت الثورة الفرنسية التي رفعت الشعار التالي: حرية، مساواة، إخاء. بمعنى أنه لا يوجد بعد اليوم ابن ست وابن جارية، وإنما يوجد شعب واحد مؤلف من مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
ولكن الثورة اندلعت أيضاً ضد طبقة رجال الدين التي كانت تستغل الشعب مثل طبقة النبلاء، وإن بطريقة أخرى. فقد كانت تخدّره بالمواعظ المسيحية التي تطلب منه القبول بواقعه البائس مقابل الوصول إلى الجنة في العالم الآخر. بمعنى آخر: إذا كان يعيش في الجحيم في هذا العالم، فلا ضير في ذلك، لأن مصيره سيكون الجنة بعد الموت. وبالتالي، فهنيئاً له. لقد لعب رجال الدين دور الدعاية الديماغوغية للعهد القديم، عندما أقنعوا الشعب بعدم الثورة عليه. وكانوا يلحون في مواعظهم يوم الأحد على الفكرة التالية: إن الثورة على الحاكم تعني الثورة على الله ذاته، لأن ملك فرنسا هو ظل الله على الأرض.
ولكن بما أن الفلاسفة كانوا قد نقضوا هذه الفكرة من قبل وفككوها، فإن الشعب المستنير، وخصوصاً في المدن، راح يتجرأ على إعلان غضبه الشديد على الوضع القائم. ومعلوم أن جان جاك روسو، أحد ملهمي الثورة الفرنسية، كان قد ركّز على الفكرة التالية: وهي أن الناس خلقوا متساوين في البداية، ثم اختلفت أوضاعهم بعدئذ، وانقسموا إلى فئتين متمايزتين: فئة النبلاء والأغنياء المالكين للأرض، وفئة الفلاحين الفقراء الذين يشتغلون في الأرض دون أن يملكوا شيئاً.
وبالتالي، فالملكية هي أساس التفاوت بين البشر، وهي التي أدت إلى كل هذا الظلم الذي أصاب الفلاحين الذين يشكلون أغلبية الشعب الفرنسي. وفي خطابه الشهير عن أصل الظلم واللامساواة بين البشر، فكك روسو كل الأفكار القديمة التي تبرر الامتيازات والتفاوتات الطبقية، وقال إنه لا أصل لها ولا شرعية على الإطلاق.
وكان هذا الخطاب بمثابة إعلان حالة حرب على النظام القائم، حتى قبل أن تندلع الثورة الفرنسية بثلاثين سنة على الأقل. وبالتالي، ففلاسفة الأنوار كانوا قد مهدوا الأرضية، وزرعوا البذور الفكرية التي تفتحت لاحقاً، وأدت إلى اندلاع الثورة الفرنسية.
فالثورة لم تنشأ من العدم، أو لم تكن ممكنة لولا أن المشروعية القديمة التي تبرر الامتيازات والتجاوزات قد سقطت، أو أصيبت في الصميم، وحلت محلها مشروعية جديدة هي مشروعية حقوق الإنسان والمواطن. والواقع أن الشرعية الإلهية الكهنوتية للملك لويس السادس عشر كانت قد سقطت في نظر قادة الثورة والطبقات البورجوازية المستنيرة من الشعب، ولكنها كانت لا تزال قوية في نظر غالبية الفلاحين الفقراء الذين يعتقدون أن الملك الفرنسي هو بالفعل ظل الله على الأرض.
على أي حال، لا يمكن فهم سبب اندلاع الثورة الفرنسية إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تختمر أو تعتمل في أعماق فرنسا منذ عقود كثيرة من السنين. فالبلاد كانت جائعة تقريباً، أو قل إن القسم الأكبر من الشعب كان جائعاً، في حين أن النبلاء والكهنة والأغنياء كانوا يعيشون حياة البذخ والإسراف في القصور؛ عنيت الكهنة الكبار، وليس معظم رجال الدين العاديين الذين بقوا فقراء مثل الشعب. وهذا هو السبب الأساسي لاندلاع الثورة الفرنسية في الواقع. وهذا ما لم يفهمه لويس السادس عشر إلا بشكل متأخر وبعد فوات الأوان. نقول ذلك خصوصاً أن حاشيته أو بطانته أخفت عنه حقيقة الصورة. وزاد من تفاقم الأوضاع سوء المحاصيل الزراعية في العام الذي سبق الثورة مباشرة، أي عام 1788. وهكذا، أصبح القمح نادراً، وبالتالي فلم يعد هناك خبز أو طعام. ومعلوم أن الخبز هو المادة الأساسية للشعب. وعندما يجوع الإنسان، يثور أو يصبح ميالاً للتمرد على النظام القائم. فالجوع كافر لا يرحم.
ولكن بالإضافة إلى ذلك، ينبغي التحدث عن أزمة الثقافة السياسية في فرنسا آنذاك. فالشعب لم يعد يقدس شخص ملوك فرنسا، كما كان يحصل سابقاً، أو قل أصبح يقدسهم بشكل أقل. وتأثير الكهنة ورجال الدين لم يعد قوياً، كما كان عليه الحال في العصور الماضية، وذلك لأن الأفكار الثورية والتنويرية كانت قد انتشرت في صفوف الشعب، وتغلغلت بما فيه الكفاية. وأما الطبقة البورجوازية الصاعدة، فكانت قد تخلصت كلياً من الأفكار القديمة التي تخلع القدسية على النظام السائد. وكانت أفكار فلاسفة التنوير قد انتشرت في صفوفها وتغلغلت إلى أعماقها، وبالتالي لم تعد تشعر بالمهابة أمام النبلاء الأرستقراطيين كما كان يحصل سابقاً، وهذا ما دفع بها إلى الثورة عليهم وبكل حقد أحياناً لأنهم مصّوا دم الشعب، وتمتعوا بخيراته وعرق جبينه، على مدار القرون.
ضمن هذه الأجواء، ينبغي أن نموضع الأمور لكي نفهم سبب اندلاع الثورة الفرنسية التي كانت نتيجتها تجديد البلاد، والخروج من الروتين ومستنقع الجمود والركود. لا ريب في أن الثورة تهدم وتدمر، ولكنها تبني وتعمر أيضاً على أنقاض الدمار. علاوة على ذلك، فإنها تدخل حيوية جديدة إلى البلاد، وتفتح آفاقاً واسعة لم تكن في الحسبان، وهذا ما يؤدي إلى تجديد الطاقات وشحذها من جديد. أما استمرارية الوضع القائم على ما هو عليه، وكل ما يرافق ذلك من انسداد وتعفن، فإنه يعرقل الانطلاقة ويخنق الحيوية والطاقات الجديدة التي تريد أن تعبر عن نفسها. بهذا المعنى، فإن الثورة الفرنسية كانت حظاً لفرنسا، على الرغم من كل شيء. لقد أدت إلى ولادة فرنسا جديدة، فرنسا حيوية مليئة بالنشاط والأمل، فرنسا مختلفة عن فرنسا القديمة الجامدة التي وصلت إلى الجدار المسدود. وبالتالي، فقد ماتت فرنسا لكي تحيا فرنسا! فهناك الطرق أو الآفاق الجديدة التي دشنتها الثورة الفرنسية، وكيف أنها غيّرت العلاقة بين الدين والسياسة، أو بين الشعب والحكم، أو بين الأغنياء والفقراء.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.